تحقيق : نبيل شرف الدين: أشار تقرير الأمن العام المصري إلى أن جرائم البلطجة خلال النصف الأول من العام 2001م بلغت 615حادثة ، ولا تخلو صفحات الحوادث يوميا ، من جرائم عنف باستخدام آلات حادة ، أما الخطير في تلك الجرائم فهو أن مرتكبيها قد جرى استئجارهم من قبل بعض الأشخاص لضرب خصومهم أو إحداث عاهات بهم أو حتى قتلهم، وفي بعض الحالات النادرة الاغتصاب أو هتك العرض، ويؤكد ضباط حققوا في هذه الجرائم أنهم اكتشفوا أن هناك قائمة أسعار لجرائم البلطجة تتحدد وفقاً لطبيعة المهمة ومدى خطورتها وأهمية الضحية ، فالبعض يحدد 100 جنيه لضرب الشخص، و500 جنيه لإحداث عاهة مستديمة ، وقد تصل لأسعار فلكية في بعض الأحيان& .
ولم يحتكر الرجال هذا الأمر ، فقد تصدت بعض& النساء في الأحياء الشعبية لإحياء نوع من التراث الضارب بجذوره في التاريخ المملوكي ، بطولته نسائية خالصة .. فبدلاً من القتل يكتفي بالضرب أو الإهانة والسب وفقا لأصوله -فرش الملاية - وكله بالتسعيرة التي تحكمها نفس آليات الاستئجار للقتل .
وتحت أيدينا حالات تبدو كما لو كانت فكرة سيناريو فيلم من النوع "الفارس" ، لكنها للأسف ليست هكذا .. وإن كانت تصلح .. فهي وقائع حقيقية سجلتها محاضر الشرطة .. وحدثت بمدينة السلام .. التي تضم حشداً متنافراً من شتى نماذج& البشر القادمين من كل أحياء القاهرة العشوائية ، لم تجمعهم نشأة مشتركة أو بيئة واحدة بل أتى كل منهم من مكان ما بالقاهرة حاملاً معه خصوصية ذلك المكان& .. وهمومه.. ورهبته من المكان الجديد وجمعتهم-جرة قلم- من موظف الإسكان بمحافظة القاهرة .. وكان طبيعياً أن تصطدم هذه النماذج المتنافرة في البداية ثم ما لبث أن تفاعلت لتنتج أفكارها التي تتفوق على خيال أفضل الرواة والقصاصين والكتاب !
وبعيداً عن التقارير الرسمية ..
والتحليلات المملة .. لنبدأ سرد الحكايات .. المثيرة والمفزعة :
جريمة "تربوية"
في مطلع العام الدراسي الجديد تقدمت مدرسة بإحدى المدارس الابتدائية ببلاغ لقسم الشرطة تتهم فيه ثلاث سيدات لا تعرفهن بالاعتداء عليها بالضرب وإحداث ما بها من إصابات بالغة فضلاً عن محاضرة طويلة من السباب والإهانات وجهنها على مدار ساعة كاملة داخل المدرسة ، وأمام زملائها المدرسين وأبنائها التلاميذ .. وبعد تحويلها لتوقيع الكشف الطبي عليها الذي ورد التقرير الخاص مشتملاً إصاباتها في صفحتين كاملتين .. بدأ الضابط يستجوبها .
وتوقف عند السؤال الأول للمحقق ، فهي لا تعرف هؤلاء السيدات من قبل فقد حضرن معا واقتحمن عليها الفصل .. وبدأن في وصلة طويلة من السباب المحترف .. فقد جلست إحداهن على عباءة كانت تتدثر بها أمسكت أخرى بطبلة كانت معها وأخذت تنقرها ببراعة ومضت الثالثة في توجيه الشتائم بطريقة منغمة وفي جمل موسيقية موزونة مسجوعة .. وهي مذهولة تستفسر عما يحدث .. ولماذا.. وتحاول إيقاف هذه المهزلة التي جمعت كل المدرسين والتلاميذ الذين غادروا فصول الدراسة لمشاهدة هذا العرض المسرحي الكوميدي .. وحتى حينما حاول أحد المدرسين الشباب إيقاف هذه هؤلاء النسوة هشمت إحداهن الطبلة على رأسه أمسكت أخرى المدرسة من شعرها وطرحتها أرضاً ..
وانهالت الثالثة عليها بالضرب والركل والعض في أجزاء حساسة من جسدها حتى انتهين من المهمة بإغماء المدرسة وسط بركة من الدماء ، اندفعت النسوة الثلاث للخارج وهن يقذفن الحضور بالطوب لتغطية عملية الانسحاب بعد انتهاء الموقعة .. وهذا ما حدث .. أضافت المدرسة أنها تستطيع التعرف عليهن لو شاهدت إحداهن أو صورتها .. ، وأحيل الأمر للمباحث وعرض عليها ضابط المباحث صور عشرات السيدات فلم تتعرف على أي منهن .. ، وفي هذه الأثناء حضر زميل لها مدرس يلهث ومعه تلميذة يجرها ويدفعها أمامه بأن هذه -المفعوصة- وراء كل ما حدث وبدأت خيوط القضية تتكشف .. وينزاح الغموض الذي اكتنفها .. فقد سبق أن ضربت هذه المدرسة التلميذة حينما سمعتها تسب زميلة لها بألفاظ بذيئة .. ، وحضرت أم التلميذة لتعاتب المدرسة فألقت على مسمعها المدرسة درساً طويلاً في كيفية تربية ابنتها وكيف عرفت هذه الطفلة كل هذه الشتائم القبيحة.. ويبدو أن الأمر لم يعجب الأم التي هددتها أنها سوف تلقنها درساً لم تنساه طيلة حياتها .. وستضربها كما اعتدت على ابنتها ، وأضافت بالنص الحرفي "يا حبيبتي مش كل الطير يتآكل لحمه.. دا أنا مراة المعلم "عبده كاكا" .. ودي بنته ولما أشوفه له كلام تاني معاكي" ومضت أيام .. ونسيت المدرسة هذه الحكاية .. وذلك التهديد ولكن المرأة زوجة -عبدة كاكا- لم تنسى فقد حرضت الرجل الذي يحمل شهادة طويلة من كل جهات المن بسوابق تخطت المائة.. نصب وبلطجة.. ومخدرات وفرض سطوة وإتاوات ..الخ... وكان لا بد أن يفعل شيئاً يتفق وتاريخه الإجرامي العريق ولم تطل حيرته فقد اقترح عليه زميل له في عالم الإجرام أن يقصد -أم بقو - وهي سيدة ضالعة في الجريمة أيضاً ..وتدعى اعتماد عبد الله وبدأت حياتها بالنشل ومنه إلى المخدرات .. ثم نظمت عصابة من السيدات للتصدي لأية مشاجرة -وكله بحسابه- وصحبه صديقة إلى شقتها فوجدها جالسة تدخن-الشيشة- وحولها عد من النساء على شاكلتها& وتولى الصديق أمر تعريفها بالضيف "عبدة راجل جدع وشقي قديم وعنده مشكلة صغيرة عايز مساعدتك فيها" وأمرت المعلمة أم بقو& بالشاي للضيوف وشرح لها عبده كاكا طلبه وذكر لها اسم المدرسة ومكان المدرسة التي تعمل بها واتفق معها على مائة جنية بينما أصرت "أم بقو" على عبارة "مائة جنية وتوابعها" وحينما استفسر عبده عما تقصده بتوابعها أجابت بقولها : "الضرب مش مشكلة بس لو فيها قسم ونيابة دي لها تسعيرة تاني" ، ومضت تشرح له انه مسئول عن الإنفاق عليها وزميلاتها في "المأمورية" حتى يفرج عنهن وأيضاً ينفق على أسرهن مؤكدة بصرامة "إحنا اتحبسنا ليه؟مش علشانك" ووافق "عبدة كاكا" تحت ضغوط يعرفها جيدا إذا عاد لمنزله دون أن يفعل شيئا أمام زوجته.. وعاد فرحا يزف البشرى لزوجته أن المدرسة سوف تلقى درساً لن تنساه طيلة حياتها& .
كاكا وأم بقو
كل هذه التفصيلات كانت تعرفها التلميذة وتحكي بها أمام زميلاتها بالمدرسة حتى وقعت الكارثة فوشت بها زميلات لها إلى أحد المدرسين الذي اصطحبها لقسم الشرطة وهناك حاولت الطفلة أن تنكر ببراعة من نشأت في هذا المجتمع الذي يصادر الطفولة ولا يعترف بالسذاجة حتى للأطفال .. ولكن أمام صرامة الضابط وتهديده اعترفت الطفلة وألقى القبض على الأم والأب -عبده كاكا- الذي أرشد بدوره عن عصابة الثلاث نساء .. وكانت اعترافاتهن التي أتت بعد ساعات طويلة من المناقشات والمناورات.. كانت كوميديا بشرية بكل مقاييس الكوميديا.. فقد قالت اعتماد عبد الله والشهيرة "بأم بقو" أنها قامت بهذه المهمة بلا مقابل و"جدعنه علشان خاطر المعلم عبده" وعادت لتقول - بعد مواجهتها بعبده إنه أعطى ابنتها مبلغاً من المال رداً للجميل فقط.. ثم مضت تحكي بداية هذا "الاكتشاف" ، الذي يستحق أن تسجل براءته لدى وزارة البحث العلمي -قائله :
" أنا كنت نشالة وتعبت من النشل وعندي قلب ميت ولما كان يقصدني حد من معارفي في خناقة كنت بأخدمه ولما ظروفي تعبت ابتديت آخد حلاوتي بعد كل موضوع لحد ما اشتهرت وعملت لي زبون أقبض منه مقدمتي قبل أي حاجة ، وسألها الضابط عن زميلاتها فأرشدت عنهما وهما واحدة زميلة لها في النشل وتعرفت عليها في سجن القناطر وتصادف أنها تقيم في السلام بالقرب منها وهي المدعوة رئيسة عبد المولى وشهرتها-أم الناصح- والثالثة مستجدة في عالم الجريمة وهي نشالة متزوجة من لص
"هجام" -يسرق المساكن والمتاجر- وقد ألقى القبض عليه وحبس ، وبعد سجنه تمكنت "أم بقو" من إقناعها بمشاركتها في تأسيس هذه العصابة "الحريمي" وهذه الأخيرة تدعى فاطمة سويفي وشهرتها "فاطمة الدكر" وأكدت زعيمة عصابة النساء أنها لا تغادر منزلها إلا عند القيام بإحدى معاركها وأن الزبائن يحضرون لمنزلها للتفاوض معها حول موضوع ما وأنها تساومهم في التسعيرة وتتقاضى نصفها قبل التنفيذ وبعد الانتهاء تتقاضى بقية أجرها وأنها تستأثر بنصف الأجر بمفردها ويوزع النصف الثاني مناصفة بين "أم الناصح"و "فاطمة الدكر" ، وعن توزيع الأدوار أثناء المعركة قالت أنها تجيد الطبل وفرش الملاية ، وأم الناصح تتمتع بإجادتها لقاموس السباب والشتائم، بينما فاطمة تتقن التشابك بالأيدي وشد الشعر والضرب نظراً لأنها شابة وعلى حد تعبير "أم بقو" فإن فاطمة "مجرمة خناقات" ورغم محاولات الضابط ورجال الشرطة اخفاء ضحكاتهم من وقع هذه الإعترافات غلا أن الابتسامة لو تفارق وجوههم طيلة التحقيق بينما وقفت المدرسة مذهولة مأخوذة بهذة التعبيرات والروايات ، ووقف مدير المدرسة العجوز الطيب يضرب كفاً بكف " .
الخناقات& صنعة
وكان لا بد من إجراء حوار سريع معهن بداية بالزعيمة اعتماد عبد الله الشهيرة "بأم بقو" سألتها :
* ما سر شهرتك بهذا اللقب "أم بقو" ؟
- أهي كلمة طلعوها العيال في المنتئة "المنطقة" على ابني محمد "بقو" أصل لسانه طويل.
* وكيف تتم عملية الاتفاق على الأجر ؟
-بظروفها .. يعني كل فوله ولها كيال .
* هل هناك حد أدنى لأجرك ؟
-طبعاً مفيش أقل من بريزة كبيرة (تقصد مائة جنية) .
* وما أعلى أجر تقاضيتيه أثناء ممارسة هذا النشاط ؟
-مرة جماعة معلمين من روض الفرج كانوا متخانقين مع نسايبهم ودفعوا لي ألف جنية .
* وهل يعرف زوجك أو أبنائك هذا النشاط ؟
-جوزي ميت وأولادي كل واحد في حاله .
* وهل سبق أن ضبطتك الشرطة ؟
-كتير .. وأهو مشوار لحد النيابة ونخرج بتأكد السكن وصاحب المصلحة بيجري علينا .
* وماذا لو امتنع أحد عن تنفيذ بقية اتفاق ودفع مؤخر الجر ؟
-يعرف شغله .. دا إحنا شغلتنا الخناق يا اسطى .
* هل حدث وطلب منك أحد الاكتفاء بالسب و "فرش الملاية" بدون ضرب ؟
-شوف .. كل زبون له طلبه .. وكل حاجة بسعرها .. "الردح" ببريزه كبيره "مائة جنية" والضرب من بريزتين وأنت طالع وإحنا وشطارتنا معا الزبون .
* ألم تشعري بالذنب من الاعتداء على الناس ؟ ،& فأجابت باستنكار :
-ليه .. هو إحنا بنعمل زي الحكومة بتضرب الأشقياء والحرامية وزي المحامي اللي بيجيب حق المظلوم.. واللي بيجي لنا مش قادر ياخد حقه بأيده ومعاه مالية .. ثم أضافت .."أوعى تفتكر إننا وحشين قوي كده .. أي واحدة من البلوك إللي أنا ساكنه فيه محدش يفكر يعمل معاها حاجة.. عارفين أنهم جيراني وحاخدلها حقها" واستدركت تقول بلهجة يغلب عليها الفخر& : "أنا كذا مرة أمشي مشاوير لوجه الله .. يعني واحدة غلبانه ضربتها بياعة مفترية في السوق رحت علمتها الأدب !!
وقبل أن أنتهي من حديثي مع "أم بقو" تدخلت "أم الناصح" قائلة :
إحنا مش مجرمين لو كنا كده كنا مشينا في السرقة زي زمان ، دا زي ما قالت الحاجة-تقصد المعلمة- حاجة كده زي المحامي .
الردح .. وأصوله
* حدثيني عن الفرق بين "الردح"و "فرش الملاية" فابتسمت مؤكدة أن القسم ليس المكان المناسب لاستعراض قدراتها عملياً لكنها لم تبخل بالتوضيح المبسط قائلة :
-الردح كلام مرصوص .. تعرفه النسوان القديمة ، زي "يا مرضعة قلاوون ..يا أبرة مصدية .. يا سودة& بربرية.. يا مراة الطرطور يا معفنة يا أم بربور .. "والملاية يعني نقعد لها قدام البيت ، ونطبل ونزغرد ، ونلم عليها البنت وأختها .
* وأين تعلمت هذه الفنون ؟
-أهو كتر الحزن يعلم البكا .
* ولماذا تقبلين نصف أجر "أم بقو" ؟
-ما هي برضه المعلمة والزبون بيجي على صيتها وهي جدعة وكريمة وأثناء المناقشات المثيرة التزمت فاطمة الصمت تماما وكانت عيناها تنطقان بالشراسة والتحفز حتى سألتها :
* ليه سموكي "فاطمة الدكر" ؟
فأجابت بصوت لا صلة له بالأنوثة أو هرموناتها :
-أنا لا مؤاخذة راجل .. يعني ارميني وسط ألف راجل وما تخافش عليا .
* هل يعرف زوجك أنك تمارسين المشاجرات بأجر ؟
-لأ طبعاً دا كان يدبحني .. ده خلاني بطلت سرقة ولما يسمع عن خناقة بأقول له إن الحكاية حصلت كده بظروفها& وغصب عني ، وشويه كده لما مزاجه يروق& أطلب منه المصاريف ، وكده برضه أحسن من السرقة أو الغلط .
ماذا تقصدين بالغلط ؟
-& جرى إيه يا أستاذ يعني أنت مش عارف يعني أيه ست تغلط ؟
* هل تجيدين بقية فنون المشاجرات أم أنك لا تجيدين إلا& "الضرب" ؟
-أنا شابة وفي صحتي والحاجة ، وأم بقو وأم ناصح ستات كبار بس معلمين في شغل الردح وفرش الملاية .، يعني هما المخ وأنا العضلات .
* هل سبق وتعرضت للضرب من امرأة أخرى أثناء المشاجرات ؟
&.. فأجابت باستنكار :
-فشر.. دا أنا كنت أقعد في البيت وأحط أحمر وأبيض .
وأثناء ذلك كان الضابط قد انتهى من تحرير محضر مشاجرة وقد أمر بحجزهن في التخشيبة ورمقني بأسى قائلاً : "تخيل إن هذه القضية مجرد جنحة ممكن قرار النيابة لا يتجاوز إخلاء سبيلهن بكفالة لا تزيد على خمسين جنيهاً في أسوأ الاحتمالات" .
وبالطبع سيدفعها "عبده كاكا" مع بقية "الأتعاب" ، وربما يضيف إليها مكافأة تشجيعية نظير& "الأداء المتميز " بينما لن يعوض ذلك أو غيرة ما لحق بهذه المدرسة من أذى وإهانة أمام زملائها وتلاميذها سيظل جرحا عميقا لا يندمل .. وكم ذا بمصر من المضحكات .