باريس- ايلاف من كاظم جهاد: مع انتهاْء القرن العشرين ودخولنا مشارف الألف الثالث، تقدٌمت الكثير من المجلات والدوريات الغربية بجردة لمكتسبات القرن الفائت ومراجعة لأهم الأحداث والانجازات التي حققتها الانسانية في هذا القرن المتناقض والموسوم بالغرابة في أكثر من جانب. قرن وطأ فيه الانسان تربة القمر وحقق اكتشافات علمية ومعرفية عديدة، ولكنه شهد أيضاًًًًً حربين عالميتين وما لا يحصى من الحروب الاقليمية. باختصار عن العدد الخاص الذي كرسته ٍّ"لوموند دي ديبا" ("عالم المناظرات") التابعة لصحيفة "لوموند" للقرن العشرين، والذي حرره عدد من أكبر المختصين في مختلف العلوم الدقيقة والانسانية، نقدم في الحلقات الخمس التالية مراجعة لبعض الظواهر والانجازات التي طبعت بميسمها العميق القرن الآفل. (هنا الحلقة الاخيرة)
جوليا روبرتس
ستوديوهات هوليوود
في 1895 اخترع الأخوان لوميير في فرنسا الكاميرا السينمائية، ولكن السينما ستكون فن القرن العشرين بامتياز. وفي نص له بهذا الصدد، حمل عنوان "الخيال من أجل الجميع" نقوم بعرضه في ما يأتي، يتساءْل أستاذ الدراسات السينمائية الفرنسي جاك أومون عما حملته السينما من جديد للتجربة الانسانية والعوامل التي مكنتها من أن تتحول، وبهذه السرعة، الى الفن الأكثر شيوعا من حيث عدد ممارسيه ومتلقيه. يتمسك أومون بأربعة تحديدات للسينما يتلخص فيها سر نجاحها في نظره. التحديد الأول يرى في السينما ابتكارا لخيال جماعي لا نظير ولا سابقة له. فالسينما، ورديفها أو فرعها المتمثل في التلفزيون، أدخلا نمطا جديدا من الانشاء الخيالي مفتوحا للجميع. لا سبيل هنا للمقارنة بين جمهور السينما وجمهور المسرح، المحصور في الماضي بالمدن، أو& مع جمهور القصص المسلسلة والمصورة من القراء. بالتدريج، فرض الخيال السينمائي والتلفزيوني نفسه على جميع القطاعات، بما فيها السياسة. فالتنافس الانتخابي الأخير في الولايات المتحدة مثلا اكتسى صفة سينمائية أو خيالية لا مراء عليها. كان على كل من المرشحين أن يقص نوادر مضحكة وأن يتثبت قدرات استعراضية، بل لم يتردد كل منهما عن اعادة كتابة سيرته الذاتية في نية لدحر المنافس أو الخصم.
لكن اختراع الأخوين لوميير (وللمناسبة، فاسمهما العائلي يعني "النور") يتمثل أيضا في ابتكار نظرة. لقد تمخض اختراعهما عن الفيلم الوثائقي، وان لم يعد أحد ليقول بالفصل الحاسم والجازم بين الوثائقي والخيالي. فجميع ممارسي التصوير الوثائقي اليوم يطالبون بحق التدخل في الواقع أو اعادة معالجته. وجميع ممارسي السينما الخيالية واعون ومقرون بدينهم للقوة الوثائقية للسينما أو لقابليتها للتصديق بما هي وثيقة. هنا يمكن اذن الجانب الابتكاري الثاني للسينما: أنها مدت الأفراد بنظرة، نظرة وصفية وليست بالضرورة تأويلية كما في الرسم أو النحت، ومن هنا قابليتها على التصديق أو موثوقيتها.
الابتكار الثالث يتمثل في الطبيعة المتحركة للصورة السينمائية، وهذا هو المعنى الحرفي للسينما: "كتابة الحركة". ولا حاجة للتذكير بالمزايا الخيالية والعملية لهذا الابتكار، اذ تسمح الصورة المتحركة بالقبض على الفعل في تناميه بما يقربه من الزمن الفعلي لانتشاره أو من ديمومته الفعلية.
الجانب الابتكاري الرابع يتمثل في علاقة بالواقع وبالمرئي جديدة. ولا يرى الباحث أن السينما مقيدة في علاقة الصوت والصورة منذ نشأة الصورة الناطقة في عشرينيات القرن العشرين. ففي الثلاثينيات، حاول السينمائي السوفياتي دزيغا فيرتوف الفصل بين الصوت والصورة. خاصية السينما تتمثل في رأي أومون بمعالجة الواقع معالجة من نمط فريد لا تقوم فيها باعادة انتاجه كما يفعل التصوير الفوتوغرافي المحض وانما بتمثله. الواقع هو، عند الفلاسفة، ما لا تمكن معرفته وما لا نمسك منه الا بظاهره. وأغلب الفلاسفة الذين يؤمنون بالواقع يرون أن نقيضه انما يتمثل في الوهم. ولذا يرى الباحث أن السينما طالما كانت أكثر انجذابا ناحية الوهم. والصورة السينمائية لا تنقل لنا الشيء بجذافيره، وانما تمكننا من مقاربته مقاربة غير علمية تتيح انشاء معرفة عنه. تظل الصورة التي تطرحها عنه قابلة للطعن أو التحسين، فرسالتها فنية أساسا.
تغلبت رغبة الخيال على الحاجة الى الوثيقة
من هنا تظل السينما الوثائقية اليوم ثانوية. فلدى الجمهور، تغلبت الحاجة الى الخيال أو رغبة الخيال على الحاجة الى الوثيقة. وما كرسته السينما في القرن العشرين هو انتصار رغبة الخيال هذه التي كانت في الماضي حكرا على الأدب والفنون الموسيقية والحركية والتشكيلية والتي باتت مع اختراع السينما تطال أكبر قدر ممكن من البشر. والسؤال يطرح نفسه في الواقع: فمن أين تنبع رغبة الخيال هذه، ولماذا يتمتع التمثل السينمائي بهذا القدر كله من الضرورة؟ كيف انتصرت رغبة الخيال هذه في عالم ظلت فلسفاته التأسيسية تدين الخيال، كما لدى افلاطون، أو تقصره على تطهير الأهواء كما لدى أرسطو؟ كيف انتقلنا من مثال المدينة الفاضلة التي تستبعد الشعر والفن الى مدينة يظل التخييل فيها مرغوبا الى درجة يشكل معها ما يشبه مدماك الآصرة الاجتماعية؟
يمكن في نظر الباحث أن نتقدم هنا باجابتين أولاهما كلاسيكية ومعروفة. فالرغبة في الخيال تستجيب الى حاجة نفسية عميقة لدى الفرد. ولتحليل هذه الرغبة لا يمكن عدم التفكير بوظيفة الحلم الأساسية كما حللها فرويد. من جهة ثانية، يمكن القول أن السينما مدت الأفراد بأشكال عرفت أن تهب رغبة الخيال هذه مداها البعيد. ولقد تكيفت المعالجات السينمائية لهذه الرغبة الشاملة بحيث صارت رائعة سينمائية أو سلسلة تلفزيونية منتجة في ايطاليا أو نيويورك تجد نظارة لها في سائر أرجاء المعمورة.
ما لا يلتفت اليه الباحث في نظرنا هو أن هذه الرغبة الشاملة في التخييل ما كان لها أن تدوم بهذه الشاكلة وأن تتسع بهذا القدر لو لم ترتبط برغبة في المعرفة تظل هي الأخرى متأصلة في الكائن. فحتى الأفلام الأكثر خيالية تظل تتمتع بدرجة من مقاربة الواقع، والا لسقطت في الفنطاسية المطلقة والتخييل المحض. حتى الأفلام العاطفية والدرامية المنتجة في الهند مثلا تمد المشاهدين بمعرفة ما عن الهند. وأفلام المغامرات المصورة في صحارى جليد الأسكيمو تمد بمعرفة بطبيعة الاسكيمو على الأقل. من هنا شكلت السينما ما يشبه معرفة أنسكلوبيدية متاحة بأيسر السبيل وتمكن من الوقوف على تنويعات شعورية وتجارب صراعية تشد المشاهد الى نماذج أو حالات انسانية متجددة دوما. وهنا يكمن البعد الفلسفي والأثروبولوجي للسينما الذي لا يمكن اغفاله.
وقد تكون السينما اضطلعت هنا بدور موازنة أو تعويض بازاء المعارف الفكرية والتحليلية التي باتت أكثر فأكثر عجمة وتخصصا. السينما، كميدان للرغبة ومجال للمعرفة، هي علامة صعود الجمهور& العريض الى الواجهة ومناداته بامتلاكه أخيرا لفن يتيح له نظرة ويستجيب لرغبة عميقة لديه في المشاهدة والتمثل والادراك الحقيقي.

عرض كاظم جهاد
&