أخيرا سيُحاكم الطاغية أمام القضاء. لدى العراقيين، بل وقطاعات وجِهات واسعة من العالم، انطباع كامل الملامح كون أن الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين هو "طاغية العصر" بحق. يكفي هذا الشخص دخوله التاريخ من هذا الباب الكريه. لكنه دخول في التاريخ على كل حال. يجب أن يكون التاريخ عبرة لمن يعتبر. ليس صدام آخر دكتاتور في تاريخ العالم ولن يكون الأخير، وإن كان أقبحهم. بيد أن كلمة القضاء بحقه ستكون ضرورية جدا للعراق على وجه التحديد. نقصد للمجتمع العراقي الذي تلطخت سمعته السياسية والحضارية في العقود الأخيرة ليتم تصويره كمجتمعٍ "دموي". إن كان ذلك من باب الإشادة الهمجية من قبل المحبين من الأخوة العرب المفتقدين للمجازر الوطنية، أو من قبل التجني الرومانسي المحض.
المحاكمة التي طالب بها الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم جلاديه الأغبياء. مجرد محاكمة علنية أمام الشعب. ستكون بمثابة وثيقة تاريخية حضارية تشهد على عصر كامل. أو على الأقل على حقبة سياسية معينة. أو في أسوأ الشواهد، ستدل على العقلية التي تتحكم بالناس وبصناع القرار ومستوى رجاحة عقلهم. صُلب أحمد بن الحسين الحلاج بمحاكمة مؤلفة من ثلاثة مذاهب كفرته. واليوم، وبعد هذا الفرسخ التاريخي الطويل يقوم الحلاج من جديد ليجسد الضحية الكبرى. ولتعترف المذاهب به كإمام وليس كزنديق. للتاريخ حوبته وجلاله. لا نريد أن نصبح في العراق الجديد مجرد رعاع ودهماء تأخذ تطبيق "العدالة" باليد. القانون يعلم الصبر لمن لا صبر له، ويؤكد نواميس الحكمة ضد عنجهيات الانتقام المنفلتة.
أسوق حادثة مؤسفة كنتُ شاهدا عليها تقترب من مستوى الحقد على صدام من قبل قطاعات واسعة من المواطنين. لكن عندما تحقق "الانتقام" بتلك الطريقة البشعة ظهرت الجدوى الحقيقية للقانون ومؤسساته وشرعيته. دونتُ هذه الحادثة في العديد من المقالات والأعمال الأدبية ولا ضير لتكرارها في هذا المقام.
قبضت قوات الأنصار الشيوعية، بالتعاون مع قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني، على مجرم خطير، قائد برتبة عسكرية رفيعة تابعة للنظام، وهو كردي روع شعبه والناس في مناطقه العشائرية بالذات أبشع الترويع حتى نُسجت حوله الإشاعات التي تُثير الرعب في قلوب السكان. تم القبض عليه على كل حال. كان جسورا ومقداما بشكل حقيقي. ولم يكن جرذا كما سيده. الذي حدث في الواقع أن المتضررين من جرائم هذا الشخص، وهم كثر، انهالوا عليه بالضرب بأخمص البنادق وبالركل والضرب بشكل مجنون حتى لفظ آخر أنفاسه. لم يكن ذلك العمل البربري من شيمة الثوار الطامحين للعدالة. بل كان مجرد حالة رعناء لها مسبباتها العاطفية الجارحة. إنها ضحية تقلد الجلاد كما يقول العلم السياسي. نحن على يقين تام لو أن صدام حسين وقع بأيدي العراقيين لمزقوه شر تمزيق كما فعلوا برئيس الوزراء نوري السعيد وبالوصي على العرش عبد الإله. لم يشف غليل الضحية غير شرب دماء الانتقام. لكن السؤال هل هذا شكل منطقي معقول للانتقام؟
الجواب قطعا: كلا.
من الواجب علينا تجنيب شعبنا وصمة العار هذه التي يريد الآخرون لصقها بنا. نحن الآن كشعب عريق وكبير نقف أمام العالم أجمع. جميع شعوب العالم ودوله تتطلع إلينا. تتطلع إلى تجربتنا. تتطلع إلى حكمتنا التاريخية. تتطلع إلى ديننا. تتطلع بشغف إلى "همجيتنا" المقبلة التي يراهن عليها الكثير.
يكفي العراق الكبير أن جلاده الصغير في قفص الاتهام.
يكفي الضحايا الممتدين على أرجاء تراب العراق من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب أن هذا العنصر المزيف في المعادلة الوطنية الحقيقة يقع بين يد العدالة. ليس شماتة ولكن هذا الصعلوك أذاق أشراف العراقيين مر الهوان من مختلف وجوههم ووجهائهم.
يكفي أن نرى العدالة تشرق من جديد على ارض القوانين.
يكفي أن نرى المجرمين خلف القضبان حيث مكانهم الطبيعي وحيث مصيرهم المحتوم.
يكفي للعراقيين أنهم لم يذبحوا جيرانهم البعثيين الذين ذبحوهم بالأمس..
يكفي أن نرى برزان التكريتي وطه ياسين رمضان وعلي كيمياوي وعبد حمود سجناء ومتهمين بالحق.. أولئك الذين روعوا الشعب وقتلوا الناس شبابا ورجالا ونساء وأطفالا بغير سبب أو وجه حق..
يكفينا فخرا أننا أصحاب قضية عادلة وأصحاب قيم إنسانية شريفة.. بحيث يشهد لنا التاريخ، ويشهد لشهدائنا ويشهد لأمواتنا هذه الحقيقية العظيمة: نحن أحرار والجلاد في الزنزانة.
يكفينا أن نرمي عليهم قشور الموز وقشور البيض وحبات الطماطم العفنة.. لا نريد ذبحهم بقدر إرادتنا الحقيقية بتجليلهم بالعار طالما بقوا على قيد الحياة..
العدالة تأخذ مجراها الطبيعي في العراق. ذلك هو الشيء المهم.