المشترك الإنساني: (الحياة والموت)، (توحيد الألوهية)، (ملك السماوات والأرض للإله الواحد)


ما الذي يشترك فيه جميع الناس؟ ما هي الأمور التي تبقى مشتركة بيننا رغم كل اختلافاتنا؟ ما هي الروابط التي يمكن اعتمادها في التعامل بيننا نحن المختلفين جدا من بني الإنسان؟
ما الذي يشترك فيه المؤمن وغير المؤمن؟ وما الذي يشترك فيه اليهودي والمسيحي والمسلم؟ ما الذي يبقى عند كل الناس مشتركا رغم كل الاختلافات؟ ما هو حد الاختلاف الذي لا يمكن العيش معه في أرض واحدة؟ وما هو المشترك الذي يمكن معه ضمان العيش للجميع؟
مثل هذه الأسئلة ليست لها أجوبة دقيقة مطلقا، وكل محاولة للإجابة ستكون ناقصة إلى حد كبير، فإذا ما أردنا مثلا أن نحدد عناصر الاختلاف بين اليهود والمسيحيين والمسلمين، يجب أن نكون يهودا ومسيحيين ومسلمين، لكي نكون موضوعيين في تحديد المختلف حوله.
إن الاختلاف بين بني البشر، أوبني الإنسان، قد أخر مسيرة البشر التاريخية لقرون طويلة، وكل الحروب التي شهدها تاريخنا سببها الاختلافات (رغم كون الاختلافات لا تؤدي دوما إلى حروب)، إلا أن للحرب سببا واحدا هو الاختلاف، الاختلاف الذي ينمي إرادة الاستعلاء عند القوي؛ فتقع الحرب، ويأكل الكبير الصغير، طبقا لسنة حيوانية في أصلها، هكذا اختار الإنسان أن يكتب تاريخه.
لكن ما هو الطارئ الذي دخل التاريخ الإنساني فغير مجراه إلى حد ما؟
إنهم الأنبياء، الأنبياء هم صناع السلام، وما ينعم به قلة من الناس اليوم من طمأنينة وسلام إنما هو من إرث الأنبياء، والذي قال أن الأنبياء يأتون من أجل إشعال الحروب لن يجد أي دليل أو حدث يسند به قوله، بل الأتباع هم الذين يفسدون سيرة الأنبياء بالاندفاع المطلق لما يعتقدون أنه حق يجب الدفاع عنه ولو بشريعة الدماء. أما الأنبياء فهم الوحيدون اللذين حاولوا إطفاء الحروب خلال مسيرة التاريخ الطويلة، هم وحدهم صناع السلام، ويتبعهم الصالحون فالراشدون.
أما ما عدا هؤلاء فهي دماء إلى فجر تاريخي آخر، مع نبي أو رجل راشد حاكما كان أو حكيما.
يمكن أن نحصي كل شيء في تاريخنا، إلا الأشخاص الذين قتلوا بسبب اختلاف في الرأي، هؤلاء الذين حصدتهم الحروب والمحارق والمشانق، هؤلاء لا يمكن إحصاؤهم، ولكن بأرواحهم ودمائهم فقط نضيء حقبتنا هذه المبكرة جدا من تاريخنا، إننا جئنا مبكرين إلى هذا العالم، جئنا في المرحلة الفاصلة، المرحلة التي تميز تاريخ الإكراه والعنف عن تاريخ الرشد والاصطفاء الذي وعد به الإنسان.
التاريخ البشري يسير نحو إنهاء ظاهرة القتل بسبب اختلاف في الرأي، ومن يقتل اليوم بسبب اختلاف في الرأي إنما هو شخص لم يع بعد المرحلة التاريخية التي يعيشها، ومن يعلن الحرب يصلح أن تؤخذ له صورة تذكارية يحتفظ بها في متحف التاريخ عبرة لمن بعدنا، إن العالم سيضحك على شخص مثل الرئيس الأمريكي جورج بوش وهو رافع يده إلى السماء ينادي بالحرب، ولكن هاته الضحكة لن نسمعها إلا بعد ثلاثة عقود على الأقل.
لقد جئنا مبكرا، ووجدنا ما لا يجب أن نجده، فالذين أضاءوا الكون بأنوارهم نسوا أن يطفئوا لهيب الشمعة الذي يحرق أبنائهم من حين لآخر، أو هكذا نتصور على الأقل.
لكن هل هناك من مخرج؟ هل إلى خروج من سبيل؟ على حد تساؤل داعية اللاعنف جودت سعيد، كيف يمكننا أن ننقد أنفسنا، وننقد باقي (الناس) معنا؟
يجب أن نعرف ما الذي نشترك فيه، ثم نبحث عن حل للاختلافات، يجب أن نحدد (المشترك الإنساني).
إن تحديد (المشترك الإنساني) بين كافة البشر قد يكون سبيلا مؤقتا، إلى أن يتطور تاريخنا نحو الأفضل، نحو الأعلى. نحن نفكر دائما في نقط الاختلاف حينما يظهر الآخر أمامنا، وقليلا ما نفكر فيما نشترك فيه، يجب أن نفكر في (المشترك الإنساني)، لكي نحس أننا إخوة، لا أن نظهر الاختلافات فنصبح أعداء.
إن ما نختلف فيه بسيط إلى حد لا يطاق، وحينما سنكتشف ذلك سيتضح مدى سذاجتنا ومدى جهلنا، إننا أقوام ترفض العقل والعلم والتدبر، ولو كنا نؤمن بهذه الأمور وأمثالها لقمنا بإلغاء عدد كبير من المعارك والحروب، ولكن ذلك لم يحدث؛ لأن من يدقون طبول الحروب يغلقون الأبواب بإحكام أما العقول، هؤلاء هم اللذين ينقلوننا إلى جبهات القتال، لكي نترك رشد العقول، ولكن هيهات، فنحن جميعا ندق طبول الحروب، كل بطريقته الخاصة، نحن جميعا نود قتل الآخرين وإن بشكل مختلف.
ولكن ما هو (المشترك الإنساني) الذي نريد الحديث عنه؟
لنقف مع الآية 158 من سورة الأعراف، لنرى ما الذي تقوله:
"قل يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعا، الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت، فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلمته واتبعوه لعلكم تهتدون"
ما الذي تقوله الآية؟ ما الذي يقوله ربنا في هذه الآية، ولمن يوجه خطابه؟ ما هو (المشترك الإنساني) الذي حددته هذه الآية؟ وهل نشترك في هذا فعلا؟ وهل هذا أدنى ما نشترك فيه، أم أقصاه؟
إن الآية توجه دعوة عامة ومفتوحة إلى كافة الناس، والخطاب هنا إلهي، ف(أيها الناس) هم كافة الناس، وليس ثلة منهم فقط، أو طائفة بعينها، إنما هم الناس كيفما كان لونهم ولسانهم ودينهم وفكرهم، كل الناس من دون فرق، ومثل هذا الخطاب لا يوجد في غير القرآن، إننا لن نجد في كل الكتب السماوية، وفي كل كتب البشر خطابا إنسانيا مطلقا كهذا. إن القرآن العظيم يصير الخطاب الإنساني خطابا مطلقا كأن لم يعد هناك من فرق بين فرد وآخر.
ولكن هذه الدعوة الإنسانية المطلقة بنيت على ثلاثة أمور مشتركة هي ما نسميه هنا ب(المشترك الإنساني)، أو ما يشترك فيه بنو الإنسان، وهي تباعا: (له ملك السماوات والأرض)، (لا إله إلا هو)، (يحيي ويميت).
هذا هو كل ما يشترك فيه الناس في الحدود الدنيا (أو ما لا يجب أن نختلف حوله إطلاقا)، وهي تبدأ بالذي سنختلف فيه أكثر، ثم تدنوا إلى الأمر الذي قد لا نختلف فيه، ثم تصل إلى أمر ثالث لا سبيل للاختلاف فيه أو حوله وهو مسألة (الحياة والموت). ف(الحياة والموت) سنة كونية لا يمكننا الاختلاف فيها ولا حولها، كيفما كنا ومهما اختلفنا. وقبلها (وحدانية الألوهية)، فهذا هو (المشترك الإنساني) الثاني الذي يقترب جميع الناس وجميع الأديان بإقراره، فنحن جميعا نعترف أن هناك إله واحد، وكل ما نختلف فيه هو ماهية الوجود الإلهي ثم تجلي الفعل الإلهي في الكون، ولذلك أبقى الله نفسه مجردا، لأن ظهوره يعني مزيدا من الدمار لنا، وهذه حكمة إلهية. والمشترك الثالث الذي يجب أن نتفق حوله هو (ملك السماوات والأرض) إنما هو ملك (للإله الواحد الذي نؤمن به)، ولا ينبغي الصراع حول هذا الملك، والدماء التي سفكت حول ملك الأرض كثيرة، وكذلك حول ملك السماء، فكلنا يعتقد أن له حق السماء وحده دون غيره.
ما ذا يعني هذا؟ ما ذا يعني أن تكون هناك ثلاث مشتركة بين جميع الناس؟ هل هو الحد الأدنى للعيش؟ والذي ما فتئ القرآن يدعو له، أم هي الحقيقة، والسنة القرآنية التي لابد منها؟
إن (مشترك الحياة والموت) لا يترك أدنى سبب لاختلاف بيننا نحن بني الإنسان، وهو المشترك الأول الذي لا يمكن الاختلاف حوله، ولا يمكن أن يموت البعض ويبقى البعض حيا مهما طال أمد عمره، والطرق التي نموت بها تسري علينا جميعا مهما اختلفت معتقداتنا، فإما أن نعمر ونهرم فنموت، أو من جراء حادث كأن نقع من أعلى السطح أو تدهسنا سيارة في الشارع العام أو من جراء التعذيب في سجون الطغيان أو أن نقبع تحت أنقاض زلزال مدمر أو أن نذوب في سائل اللاڤا الذي ترسله علينا الأرض بين لحظة وأخرى، فالموت مشترك في حقيقته وفي طريقته، وكذلك الإحياء، فنأتي من نفس الرحم وبنفس الطريقة، والحياة والموت تسري على الأفراد وعلى الأمم، فالأمم كذلك تحيا وتموت، وسنة حياتها ومماتها مشتركة بينها كافة كيفما كان دينها، وعقلها. ويبقى الدين هو الباعث، والعقل هو الذي يضمن الاستمرار والحيوية في حياة أمة ما. والأمم القطبية تتجمد وأخرى تحترق، ويبقى كل ذلك من الطبيعة، أما السنن المشتركة بيننا وعلينا فتغييرها في النفوس.

المشترك الثاني، والذي قد نتفق جميعا حوله هو (وحدانية الألوهية)، إله واحد، وهذا يؤمن به اليهود، والمسيحيين، والمسلمين، وغير هؤلاء، كل يوحد إلهه، والناس منذ القدم لا يتجادلون في وجود الله بل في وحدانيته، وتوحيد الله مطلب سياسي وديني، لا يجب أن يكون هناك أكثر من رب واحد، والقرآن حارب تعدد الأرباب، لأن تعدد الأرباب يعني تعدد المصالح والصدامات والحروب.
والمشترك الثالث هو (ملك السماوات والأرض للإله الواحد)، يجب أن نضع هذا الملك في يد الإله الواحد، الذي نؤمن به، لأن الصراع يدخل إلى علاقاتنا انطلاقا من هذا الباب الواسع، باب الملك والحكم، يجب أن يجتمع كل سكان المعمور في مكان واسع على الأرض فيقرروا عدم التنازع حول هذا الملك (كمقر الأمم المتحدة مثلا)، يجب أن يقولوا جميعا هذا ملك لإلهنا، لكي ينتهي الصراع حوله، وأن لا يجد أحد منا مبررا لكي يطالب بملك ليس له حق فيه، والله وضع ملك السماوات والأرض في يده، لكي يُضيق المُختَلف حوله بيننا ويُحدِث (مشتركا إنسانيا).
إن كل اختلاف نلغيه بصيغة متوافق حولها بيننا يصبح (مشتركا إنسانيا)، وإذا ما ألغينا كل اختلافاتنا أصبحنا شركاء في كل شيء.
إن إشراك الناس في (الحياة والموت)، و(وحدانية الألوهية)، و(ملك السماوات والأرض للإله الواحد) سيلغي الحروب والدماء، ورغم كل ذلك فالقرآن كان دقيقا جدا في تحديد هذا (المشترك الإنساني).
إلا أن الناس لا يبحثون عن تحديد المشترك بينهم، بل يعمدون إلى الدفاع عن الذات، واحتقار الآخرين باحتلال أراضيهم، أو نسف أبراجهم، أو إعلان الحرب عليهم.
إننا سفكنا كثيرا من الدماء. وفجر تاريخي جديد يلوح في الأفق، سيعلن عن نفسه قريبا، قريبا سنبدأ ألف خطوة جديدة للأمام في ظل الاحترام المتبادل؛ ولكن هذه الخطوات لا بد أن تبدأ بخطوة الاعتراف بالآخر، ثم بخطوة ثانية بالاعتراف ب(المشترك الإنساني)، ثم بخطوة أخرى نحو إلغاء الاختلافات، وآنذاك تبدأ خطوات إظهار الحق وتحقيقه، واكتشاف الباطل وإلغائه.
يجب علينا جميعا أن نوجد جوا صالحا للحوار وتبادل الأفكار، لكي نصحح آرائنا، لكي نكون إخوة، وننهي الصراعات، ثم نضحك بعد ذلك قليلا على تاريخنا المليء بالحروب وسفك الدماء.
والآية 158 من سورة الأعراف تتجه إلى هذا، لأنها لا تحدد المشترك الإنساني فقط، بل تعدنا بالهداية (وفق شروط محددة)، والهداية هي السلام الدائم، والعلم الوافر، والكون الهادئ الذي يقرر مصيره بالسلم لا بالعنف.

رشيـد أوراز
[email protected]

كاتب وباحث مغربي