الروس وأصولهم على ضوء مروج عمل المسعودي:(مروج الذهب ومعادن الجوهر)

من هم الروس؟ هل ينتمون عرقيا إلى القبائل النورماندية الجرمانية؟ وما هي علاقتهم بالقبائل السلافية ( الصقالبة ) أو القبائل السكيفية ذات الأصول الإيرانية؟ حول هذه الأسئلة وغيرها من الاحتمالات تدور حوارات حامية الوطيس في أوساط المؤرخين الروس والأجانب المتخصصين بتاريخ شعوب أوروبا الشرقية منذ ثلاثة قرون وحتى وقتنا الراهن. وبلا شك تتضمن هذه الحوارات إسقاطات فكرية ودينية وسياسية وجيوبوليتيكية تبرز بشكل حاد على السطح السياسي الروسي في المراحل التاريخية الانعطافية في سياق الإجابة على السؤال الكبير : هل الدولة الروسية تنتمي حضاريا إلى الحضارة الأوروبية الغربية أم إلى الحضارة الآسيوية الشرقية؟. وكدلالة على أهمية وحساسية موضوع أصول الروس في وقتنا الراهن تكفي الإشارة إلى أن صحيفة الإزفيستيا الروسية المعروفة أفردت له صفحتها الرئيسية الأولى بتاريخ ( 17/1/2004 ) قدمت عليها حوارا مطولا مع الأكاديمي ساخاروف مدير معهد تاريخ روسيا التابع لأكاديمية العلوم الروسية.
في العهود القيصرية تبنت الجهات الرسمية الروسية النظرية (( النورماندية )) معتمدة في ذلك على مخطوطة (( رواية الأعوام السالفة )) التي كتبها القس نيستور في نهاية القرن الثاني عشر وأكد فيها على أن الروس هم مجموعة من قبائل (( الفارياغ )) النورماندية الجرمانية الشمالية التي سيطرت بقيادة زعيمها (( ريوريك )) في بداية القرن العاشر الميلادي على القبائل السلافية (( الصقالبة )) المتناحرة المستوطنة في حوض نهر الدنيبر وأن (( الروس الفارياغيين )) لعبوا دورا أساسيا في تشكيل دولة (( كييف الروسية )) القديمة وشكلوا فيها لاحقا النخبة الحاكمة العليا ممثلة في سلالة (( ريوريك )) التي حكمت الدولة الروسية حتى نهاية القرن الخامس عشر عندما توفى (( ديمتري )) ابن ايفان الرابع (( الرهيب )) آخر قيصر من هذه السلالة ودخلت الدولة الروسية على أثر ذلك في مرحلة الفتنة (( سموتا )). وفي عام 1613 انتقلت زمام السلطة في الدولة الروسية إلى عائلة (( رومانوف )) القيصرية (1).
في منتصف القرن الثامن عشر وعلى أثر تشكل الإمبراطورية الروسية تأسست النظرية (( السلافية )) على أيدي العالم الروسي الموسوعي لومونوسوف الذي رفض النظرية (( النورماندية )) وأكد على الأصول التاريخية السلافية للدولة الروسية معبرا بذلك عن بداية بزوغ الشعور القومي السلافي وطموح الدولة الروسية لتزعم الشعوب السلافية الأرثوذكسية في مواجهة الدول الأوروبية الغربية والإمبراطورية العثمانية، وقد ازدهرت النظرية (( السلافية )) القومية في النصف الثاني للقرن التاسع عشر وأصبحت سائدة في أوساط المثقفين والسياسيين الروس وحظيت بتأييد قوي من الكنيسة الروسية الأرثوذكسية.
في العهد السوفيتي تبنى الشيوعيون النظرية (( السكيفية )) ومفادها أن الروس والسلاف ينتمون إلى القبائل السكيفية والسارماتية ذات الأصول الإيرانية التي كانت تقطن في جنوب أوكرانيا على السواحل المطلة على البحر الأسود في الألف الأولى قبل الميلاد والتي ذكرها هيرودوت في كتاباته التاريخية. وبذلك أراد الشيوعيون السوفييت أن يربطوا الروس بالشعوب المحلية القديمة ورفضوا بشدة مقولة (( الروس الفارياغيين )) الوافدين إلى منطقة حوض نهر الدنيبر. ويعتبر الأكاديمي السوفييتي ريباكوف أبرز ممثلي النظرية (( السكيفية )) (2).
في مرحلة البيروسترويكا وعلى أثر اشاعة الحريات الديمقراطية ورفع القيود عن حرية الفكر ظهرت آلاف الدراسات المكرسة لهذا الموضوع التي تتمحور حول وجهتي النظر الأساسيتين : (( النورماندية ))، حيث يتبناها ممثلو التيار الليبرالي التغريبي، و (( السكيفية ))،إذ يدافع عنها ممثلو التيارات القومية والشيوعية.
بعد هذا العرض الموجز للخلفية التاريخية والسياسية لهذه الإشكالية يبرز السؤال التالي : ما هي علاقة المسعودي بهذا الموضوع الشائك؟ الإجابة على هذا السؤال تنحصر في أن أغلب المؤرخين الروس يستشهدون بأعمال المؤرخين والرحالة العرب المسلمين وبالأخص بعمل المسعودي (( مروج الذهب ومعادن الجوهر)) الذي زار المنطقة في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي. وقبل التوقف عند ما كتبه المسعودي حول الروس وأصلهم وعلاقاتهم مع السلاف ( الصقالبة ) لابد من التعرض لخصوصية جغرافية المنطقة التي، بدونها يتعذر فهم وتفسير نصوص المسعودي حول هذا الموضوع.
تتميز المنطقة التي شهدت ولادة دولة(( كييف الروسية القديمة )) في القرن العاشر الميلادي بوضعية جغرافية فريدة من نوعها، فهي شبه مغطاة بالغابات ومليئة بالبحيرات والمستنقعات والأنهار الصغيرة والمتوسطة وفيها تجري ثلاثة أنهار كبرى : الفولغا ( اتيل ) والدنيبر ودفينا الغربي المتصلة مع بعضها البعض من خلال المنبع من ناحية وتصب في بحارمختلفة. فهذه الأنهار الثلاثة تنبع من منطقة واحدة وهي منطقة الفالداي الواقعة في مقاطعة نوفغراد الروسية، التي تقع شمال غرب موسكو على بعد أربعمائة كيلو متر. وفي هذه المنطقة يقع منبع نهر الفولغا ( اتيل ) الذي ينحدر نحو الشرق ومن ثم ينعطف نحو الجنوب ليصب في بحر قزوين. ومنها ينبع نهر الدنيبر الذي ينحدر نحو الجنوب ويصب في البحر الأسود. وفيها أيضا يقع منبع نهر دفينا الغربي الذي يتجه نحو الغرب ويصب في بحر البلطيق. وبذلك نلاحظ أن البحار الثلاثة : البلطيق والأسود وقزوين مرتبطة بعضها ببعض منذ أقدم العصور من خلال الملاحة النهرية في أحواض الأنهار الثلاثة : الفولغا والدنيبر ودفينا الغربي. وهذا الواقع الجغرافي يجب أخذه بعين الاعتبار عند دراسة مسألة أصول الروس وعلاقاتهم مع شعوب وقبائل المنطقة في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين.

تعود الأهمية التاريخية الاستثنائية لما كتبه المؤرخ والجغرافي العربي الكبير المسعودي في عمله المشهور (( مروج الذهب ومعادن الجوهر )) حول شعوب أوروبا الشرقية إلى كون المصادر التاريخية المكتوبة المتعلقة بشعوب أوروبا الشرقية نادرة للغاية وتنقسم إلى مجموعتين :
الأولى : ما ورد في أعمال المؤرخين والجغرافيين والرحالة العرب المسلمين.
الثانية : الكتابات والوثائق البيزنطية وبالأخص وثائق الكنيسة الإغريقية.
وتنحصر أسباب ندرة المصادر التاريخية المكتوبة المتعلقة بشعوب أوروبا الشرقية في الألف الميلادية الأولى في أمرين:
الأول، أن أغلبية شعوب أوروبا الشرقية في تلك المرحلة، بإستثناء شعوب اللان ومملكة السرير والأرمن والخزر والبُلغار،لم تكن تمتلك في ذلك الحين كتابة خاصة بها، وبالتالي لم يكن لديها مصادر تاريخية مكتوبة. ويتوجب أن ننوه هنا إلى أن إمارة كييف الروسية اعتمدت الأبجدية الكيريلية بعد أن اعتنقت المسيحية رسميا في نهاية الألف الأولى الميلادية (988 م ). أما قبل هذا التاريخ لا تتوفر معلومات حول طبيعة الأبجدية التي كانوا يكتبون بها الروس. ويحتمل أن بعض الشعوب كان لديها أبجدية ومصادر تاريخية مكتوبة خاصة بها ولكنها أتلفت وتعرضت للدمار. وهذا الأمر وارد إذا أخذنا بعين الاعتبار الأمر الثاني، وهو أنه في الألف الميلادية الأولى شهدت منطقة شرق أوروبا حروبا تدميرية متوالية بنتيجة ما يطلق عليه المؤرخون عصر (( هجرات الشعوب الكبرى )) التي جرت في تلك المرحلة. والمقصود بذلك هو زحف قبائل الجرمان من شمال أوروبا إلى جنوبها وشرقها، ومن ضمنها زحف قبائل القوط إلى شرق أوروبا في القرنيين الثالث والرابع الميلاديين، ومن ثم هجرة قبائل الهون في القرنيين الرابع والخامس الميلاديين من أقاصي آسيا إلى شرق أوروبا وتمركزهم في هذه المنطقة، ومن ثم هجرات القبائل التركية المتوالية على مدى النصف الثاني من الألف الأولى الميلادية من أواسط آسيا ( القبائل التركية الغربية وقبائل البجناك والقفجاق وغيرها ) والتي تمركزت أيضا في شرق أوروبا التي كانت في تلك المرحلة بمثابة منطقة عبور واستيطان من الشرق إلى الغرب وبالعكس. وقد ترافقت عمليات هجرات الشعوب المتوالية، التي ذكرناها، بحروب تميزت بطابع الإبادة ودمج الشعوب والتدمير الشامل لكافة الكيانات السياسية القديمة ونشوء كيانات سياسية جديدة اتسمت بتدمير الأوابد الحضارية القديمة ومن ضمنها الوثائق والكتابات التاريخية. و بنتيجة عمليات الهجرة هذه كان تركيب سكان شرق أوروبا في نهاية الألف الميلادية الأولى متنوعا للغاية وبالغ التعقيد.
لقد احتك العرب المسلمون بشعوب أوروبا الشرقية قبل عملية تشكل دولة كييف الروسية القديمة بفترة زمنية طويلة نسبيا، فقد تعرف العرب المسلمون على أراضي أوروبا وآسيا في القرنيين السابع والثامن الميلاديين خلال المعارك العسكرية التي خاضوها ضد الدولتين الفارسية والبيزنطية وأيضا ضد الخاقانية الخزرية. ففي خلال فترة زمنية قصيرة توسعت حدود الخلافة العربية الإسلامية وشملت مساحات من قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا امتدت من اسبانيا في الغرب إلى أواسط آسيا في الشرق ومن ضمنها شعوب ما وراء القفقاس ( أرمينيا وجيورجيا ) حيث انضوت تحت لواء الخلافة العربية الإسلامية شعوب تنتمي إلى مختلف الأعراق والأجناس. وهيمنت الدولة العربية الإسلامية على معظم الطرق وخطوط المواصلات التجارية التاريخية ومن ضمنها طريق الحرير العظيم. ولذلك برزت أمام الدولة العربية الإسلامية مسألة الاهتمام بالعلوم الجغرافية والتاريخية وتطويرها بالاعتماد على المراكز العلمية التي كانت موجودة في المدن التاريخية ( الاسكندرية ودمشق وطبرستان وسمرقند وغيرها ). ومع تطور كافة العلوم في ظل الخلافة العربية الإسلامية ازدهرت العلوم الجغرافية والتاريخية.
فيما يتعلق بجغرافية أوروبا الشرقية وتاريخ شعوبها توجد في الأدبيات الجغرافية العربية الإسلامية عدة مدارس أهمها مدرستا العالمين الجغرافيين البلخي و الجيهاني. ففي أدبيات هاتين المدرستين نجد معلومات جغرافية وتاريخية فائقة الأهمية حول طريق الفولغا ndash; البلطيق التجاري وحول الأوضاع الاجتماعية للقبائل والشعوب القاطنة في هذه المنطقة ومن ضمنها الروس والصقالبة ( السلاف ) ونجد وصفا لخصائص أوضاعهما الاقتصادية وعاداتهما ومعتقداتهم الدينية.
تميزت مدرسة البلخي في سلسلة أدبياتها ( الممالك والمسالك ) باهتمامها بالطرق وخطوط المواصلات التجارية البرية القديمة وبمحدودية معلوماتها الجغرافية حول البحار، حيث لم يعرف ممثلو مدرسة البلخي شيئا حول وجود البحر الأسود وبحر أزوف، وعوضا عن هذين البحرين يذكرون خليج القسطنطينية الذي كانوا يعتقدون أنه يمتد بشكل مباشر إلى الشمال حتى نهاية العالم.
وحتى بداية القرن العاشر الميلادي كانت المعلومات التاريخية والجغرافية المتعلقة بشعوب أوروبا الشرقية محدودة أيضا في أدبيات مدرسة الجيهاني، ولكن في النصف الأول من هذا القرن توسعت المعلومات المتعلقة بهذه المنطقة بفضل حدثين مهمين :
الأول زيارة ابن فضلان إلى منطقة حوض الفولغا والتي وصفها في رسالته.
الثاني زيارة المسعودي إلى منطقة القفقاس في العقد الرابع من القرن العاشر الميلادي.
تكتسب المصادر التاريخية والجغرافية العربية أهمية علمية استثنائية وبشكل خاص عمل المسعودي (( مروج الذهب ومعادن الجوهر))، وأهميته لا تنحصر فقط في أن مؤلفه يعد من أبرز العلماء المؤرخين و الجغرافيين العرب المسلمين ويتمتع بسمعة علمية عالية المستوى واحترام كبير في الأوساط العلمية العالمية التي تطلق عليه لقب (( هيرودوت العرب ))، وإنما تنحصر أهمية عمله أيضا في أنه لم يكتب في (( مروج الذهب )) حول شعوب أوروبا الشرقية فقط بالاعتماد على ما كتبه الآخرون من الجغرافيين والمؤرخين، بل استقى المسعودي معلوماته من خلال تجربته الخاصة بعد أن تواجد شخصيا في منطقة القفقاس وتجول في أرجائها في العقد الرابع من القرن العاشر الميلادي.
توفي العلامة أبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي في مدينة الفسطاط بمصر في عام 346هـ الموافق 956 م، أي قبيل انهيار خاقانية الخزر وزوالها عن خارطة شرق أوروبا بعشر سنوات. وكان قد توجه إلى شرق أوروبا في عام 314هـ الموافق 932 م وأقام فيها عدة سنوات، ومن ثم عاد إلى مصر وكتب فيها عمله (( مروج الذهب ومعادن الجوهر ))(3). وبلا شك اطلع المسعودي على أعمال من سبقه من الرحالة والجغرافيين العرب المسلمين الذين زاروا المنطقة وكتبوا عنها قبله ومن ضمنهم ابن فضلان، ولكن المسعودي على عكس ابن فضلان كان رجل علم ذو ثقافة موسوعية ودقيقا في معلوماته التاريخية والجغرافية وبعيدا عن الآراء الفنتازية اللامسؤولة التي تتميز بها رسالة ابن فضلان، الذي لم يكن سوى رسول الخليفة العباسي المقتدر بالله إلى ملك البُلغار والصقالبة لتعريف شعبه بأصول الديانة الإسلامية ( في عام 922 م )(4). ورغم أهمية المعلومات التي تحتويها رسالة ابن فضلان، إلا أنه بالمقارنة مع المسعودي لم يكن رجل علم بالمعنى الواسع ولذلك احتوت رسالته الكثير من الأوصاف والآراء الذاتية الخاطئة والعبارات غير اللبقة التي لا يستخدمها عادة رجالات العلم في وصفهم للشعوب الأخرى. أما المسعودي فقد كان أمينا ودقيقا في تعابيره وآرائه ويحتوي عمله معلومات جغرافية وتاريخية وانتروبولوجية ثمينة للغاية بعيدة عن الذاتية والمبالغة والإثارة المصطنعة.
يتألف عمل المسعودي (( مروج الذهب )) من أربع أجزاء ( اصدار المكتبة العصرية. بيروت. 1407 هـ - 1987 م ). والفقرات المتعلقة بشعوب أوروبا الشرقية وردت في الجزأين الأول والثاني. ورغم أن المسعودي خصص لكل شعب من شعوب أوروبا الشرقية بندا خاصا به، إلا أنه يذكر هذه الشعوب مرة أخرى في سياق الوصف الجغرافي للمنطقة وخلال حديثه عن علاقة هذا الشعب أو ذاك مع الشعوب الأخرى. مثلا خصص المسعودي بندا للروس وآخر للصقالبة في الجزء الأول، ولكنه يتحدث عنهما مرة أخرى في مواضع أخرى عندما يرد الحديث عن الخزر والبُلغار واللاراسية وغيرهم، ومرة أخرى يذكرهما عندما يتحدث عن المعتقدات الدينية في الجزء الثاني.
في البداية يقدم المسعودي وصفا جغرافيا للمنطقة، ويبدأ بوصف البحار المتاخمة لأوروبا الشرقية : نيطش ( نيطس ndash; البحر الأسود ) وبحر مانطش ( مايطس ndash; بحر أزوف ) ومضيق البوسفور والدردنييل ويسميه خليج القسطنطينية، حيث يقول : (( وبحر نيطش متصل ببحر مانطش، ومنه خليج القسطنطينية الذي يصب إلى بحر الروم وما يتصل به،.....، فبحر نيطش وبحر مانطش يجب أن يكونا أيضا بحرا واحدا، وإن تضايق البحر في بعض المواضع بينهما....)(5) وبذلك يؤكد المسعودي على أن بحر أزوف ( مانطش ) متصل بالبحر الأسود ( نيطش ) المتصل بدوره عبر خليج القسطنطينية ( مضيق البوسفور والدردنييل ) ببحر الروم ( البحر الأبيض المتوسط ).
ومن ثم يتوقف المسعودي عند قضية جغرافية بالغة الأهمية في عصره وهي : هل بحر الخزر ( قزوين ) متصل ببحر مانطش ( بحر أزوف )؟ وعند الإجابة على هذا السؤال يشعر القارئ أنه يقف أمام عالم جليل حريص على الأمانة العلمية ودقيق إلى أبعد الحدود في استخلاص النتائج،
حيث يقول المسعودي ما يلي : (( وقد غلط قوم زعموا أن البحر الخزري يتصل ببحر مايطس، ولم أر فيمن دخل بلاد الخزر ( من التجار ومن ركب منهم في بحر مايطس ونيطس إلى بلاد الروس والبُلغر أحدا يزعم أن بحر الخزر يتصل ) ببحر من هذه البحار أو بشئ من مائها أو من خلجانها إلا نهر الخزر......، وكيف دخل الروس في المراكب إلى بحر الخزر وذلك بعد الثلثمائة، ورأيت أكثر من تعرض لوصف البحار ممن تقدم وتأخر يذكرون في كتبهم أن خليج القسطنطينية الآخذ من نيطش يتصل ببحر الخزر، ولست أدري كيف ذلك، ومن أين قالوه؟ أمن طريق الحدس أم من طريق الاستدلال والقياس؟ ( أو توهموا أن الروس ومن جاورهم على هذا البحر هو الخزر ) وقد ركبت فيه من أبسكون، وهو ساحل جرجان، إلى بلاد طبرستان، وغيرها، ولم أترك ممن شاهدت من التجار ممن له أدب وفهم ومن لا فهم عنده من أرباب المراكب إلا سألته عن ذلك، وكل يخبرني أن لا طريق له إليها إلا من بحر الخزر حيث دخلت إليه مراكب الروس.... ))(6). نحن بالفعل أمام لوحة علمية ثمينة ومثال نموذجي في أسلوب البحث العلمي نادرا أن نجد مثيله في تلك العصور، فمن أجل أن يفند المسعودي أراء بعض الجغرافيين الذين سبقوه وعاصروه القائلين بأن بحر قزوين (الخزر ) متصل ببحر أزوف ( مانطش ) يورد المسعودي في البداية أراء من سبقه من الجغرافيين ويطابقها مع الواقع الطبيعي ويقارنها مع أراء مختلف أنواع التجار ويعتمد على حادثة هجوم الروس على سواحل بحر قزوين،الذين أتوا من خلال نهر الفولغا ( أتيل أو الخزر ) وليس من من خلال بحر مانطش ( بحر أزوف )، وقد جرت هذه الحادثة في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي ( يقول المسعودي بعد الثلثمائة هجري ).
ومن ثم يقدم المسعودي وصفا جغرافيا لجبال القفقاس التي كانت تسمى في ذلك الوقت (( جبل القبخ )) والمناطق المحيطة به، حيث يقول : (( أما جبل القبخ فهو جبل عظيم، وصقه صقع جليل، قد اشتمل على كثير من الممالك والأمم، وفي هذا الجبل اثنتان وسبعون أمة، كل أمة لها ملك ولسان بخلاف لغة غيرها... ))(7) وهنا يتحدث المسعودي عن مدينة الباب والأبواب ( مدينة دربند الراهنة ) التي بناها كسرى الدولة الفارسية أنوشروان كثغر عسكري محصن وظيفته (( دفع أذى الأمم المتصلة بذلك الجبل من الخزر واللان ( وأنواع الترك ) والسرير وغيرهم من الكفار )). ويورد هنا المسعودي أسماء الممالك التي كانت موجودة في تلك المنطقة : مملكة الإيران ومملكة الموقانية ومملكة اللكز، ومن ثم يتابع المسعودي في وصفه لجبل القبخ ( القفقاس ) فيقول : (( وهذا الجبل ذو أودية وشعاب وفجاج، وفبه أمم لا يعرف بعضهم بعضا لخشونة هذا الجبل وامتناعه وذهابه في الجو وكثرة غياضه وأشجاره وتسلسل المياه من أعلاه وعظم صخوره وأحجاره... )) (8). وبعد ذلك يتحدث المسعودي حول مملكتي طبرستان وجيدان، وحول الأخيرة يقول : (( ويبادي أهل الباب والأبواب مملكة يقال لها جيدان، وهذه الأمة داخلة في جملة ملوك الخزر،وقد كانت دار مملكتها مدينة على ثمانية أيام من مدينة الباب يقال لها سمندر، وهي اليوم يسكنها خلق من الخزر، وذلك أنها افتتحت في بدء الزمان، افتتحها سليمان بن ربيعة الباهلي...، فانتقل الملك عنها إلى مدينة أمل، وبينها وبين الأولى سبعة أيام، وأمل التي يسكنها ملك الخزر في هذا الوقت ثلاث قطع يقسمها نهر عظيم يرد من أعالي بلاد الترك ويتشعب منه شعبة نحو بلاد البرغز وتصب في بحر مايطس، وهذه المدينة جانبان، وفي وسط هذا النهر جزيرة فيها دار الملك، وقصر الملك في وسط هذه الجزيرة، ويها جسر إلى أحد الجانبين من سفن، وفي هذه المدينة خلق من المسلمين والنصارى واليهود والجاهلية، فأما اليهود فالملك وحاشيته والخزر من جنسه.. ))(9)
في هذا المقطع بتحدث المسعودي عن مدينة سمندر عاصمة مملكة الخزر القديمة والتي لم يعثر عليها حتى الأن. ومن ثم يتحدث المسعودي حول مدينة أمل العاصمة الجديدة لمملكة الخزر التي أيضا لم تكتشف بعد، ولكن المسعودي يؤكد على أن مدينة أمل تقع على ضفتي ( نهر عظيم يرد من أعالي بلاد الترك ) وهو نهر الفولغا ويقصد ببلاد الترك مملكة بُلغار التي زارها إبن فضلان وكانت تقع في الحوض الشرقي- الشمالي لنهر الفولغا، ويبدو أن المسعودي كان يتصور بأن نهر الدون يتفرع من نهر الفولغا عندما يقول (( ويتشعب منه شعبة نحو بلاد البرغز وتصب في بحر مايطس )) ( بحر أزوف )، ولهذا السبب كان المسعودي يتصور بأن بحر الخزر ( قزوين ) كان متصلا بواسطة هذه الشعبة ( نهر الدون ) ببحر أزوف ( مايطس ).
وبعد أن يتحدث المسعودي بشكل مفصل عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية السائدة آنذاك في مملكة الخزر والأعراق والأجناس التي كانت تعيش في عاصمتها، ينتقل المسعودي للتحدث عن نهر برطاس المتشعب من نهر الفولغا وعن أمة برطاس التي كانت تعيش على حوض ذلك النهر، وهنا يقول : (( وفي أعالي نهر الخزر مصب متصل بخليج من بحر نيطس، وهو بحر ( الروس ) لا يسلكه غيرهم، وهم على ساحل من سواحله، وهي أمة عظيمة جاهلية لا تنقاد إلى ملك ولا إلى شريعة، وفيهم تجار يختلفون إلى ملك البرغز وللروس في أرضهم معدن الفضة كثير ))(10).
يبين لنا هذا المقطع أن المسعودي كان يتصور بأن المنطقة التي ينبع منها نهر الخزر (وهو نهرالفولغا وكان يسمى أيضا اتيل ) متصلة عبر ممر مائي ( يسميه المسعودي خليج ) بالبحر الأسود ( نيطس ). وإذا أخذنا بعين الإعتبار بأن نهر الدنيبر ينبع أيضا من نفس المنطقة التي ينبع منها نهر الفولغا ( وهي منطقة الفالداي التي أشرنا إليها ) فإن ما يقصده بالخليج هو نهر الدنيبر تحديدا ويطلق عليه المسعودي تسمية ( بحر الروس لا يسلكه غيرهم )، ويبدو أن المسعودي لم يكن مطلعا على مجرى نهر الدنيبر ولذلك كان يتصور بأن البحر الأسود كان متصلا بمنطقة (( الفالداي )) أو بحيرة (( لادوغا )) الملاصقة من ناحية الشمال لمنطقة الفالداي عبر ممر مائي ضخم يسميه أحيانا بالخليج وأحيانا بالبحر. وقد اختلط الأمر على بعض المؤرخين الروس عندما تصوروا بأن ما يقصده المسعودي بقوله (( وهو بحر الروس لايسلكه غيرهم )) هو البحر الأسود، وهذا تصور خاطئ لأنهم اعتمدوا في قرأئتهم لنصوص (( مروج الذهب وجوهر المعادن )) للمسعودي المترجمة إلى اللغة الروسية من اللغات الألمانية والإنكليزية والفرنسية. ومن الجدير بالذكر هنا أن المستعرب الروسي ميكولسكي نقل من اللغة العربية مباشرة إلى اللغة الروسية في عام 2002 فقط الجزأين الثالث والرابع من عمل المسعودي المذكور المتعلقين بتاريخ الخلافة العربية الإسلامية واستبعد الجزأين الأول والثاني المتعلقين بموضوعنا لأسباب نجهلها، ربما لصعوبة الموضوع وتعقيداته. وأعتقد بأن لا يمكن أن يطلق المسعودي على البحر الأسود تسمية (( بحر الروس ولا يسلكه أحد غيرهم ))، لأن المسعودي سمى بشكل واضح البحر الأسود ببحر(( نيطش )) أو(( نيطس )) وبحر أزوف (( مانطيش )) أو (( مانطيس )) وهي تسميات إغريقية اقتبسها المسعودي من أعمال الجغرافيين الإغريق القدماء، عدا ذلك فقد كان البحر الأسود في عصر المسعودي مسرحا للأسطول البيزنطي ولسفن الشعوب الأخرى المطلة على البحر الأسود ومن ضمنها الروس الذين كانوا يصلون إليه عبر مجرى نهر الدنيبر الذي يصب في هذا البحر ويشكل عند مصبه خليج كبير نسبيا، وهذا يؤكد بأن المسعودي يقصد بذلك مجرى نهر الدنيبر. وقوله حول هذا الممر النهري يتطابق مع التسمية التي كانت سائدة في القرون التاسع والعاشر والحادي عشر الميلادية التي أطلقتها الشعوب والقبائل المستوطنة في حوض نهر الدنيبر على ممره بـ (( الطريق المؤدي من الفارياغ إلى الإغريق ))، وهذه التسمية مثبتة في كافة مخطوطات إمارة كييف الروسية القديمة منذ نهاية القرن العاشر الميلادي وعلى مدى القرنين الحادي عشر والثاني عشر(11)، وهي تعني أن هذا الممر المائي النهري كان يصل بين بلاد الفارياغ ( النورماند ) وبلاد الإغريق. وإذا ما أخذنا بعين الإعتبار أن إحدى وجهات النظر الأساسية حول أصول الروس تقول بأنهم الفارياغ ( النورماند ) قد كانوا منذ أقدم العصور يردون إلى المنطقة من البلاد الاسكندنافية الشمالية على سفنهم عبر بحر البلطيق ومن ثم على متنها يدخلون في مجر نهر دفينا الغربي ويصلون إلى منطقة الفالداي وينتقلون إلى مجرى نهر الدنيبر ويتوجهون نحو البحر الأسود حيث يبحرون إلى القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية والتي كان الروس يسمونها (( مدينة القيصر ))، أو كانوا ينتقلون إلى مجرى نهر الفولغا ( اتيل ) ويتوجهون نحو بحر قزوين حيث كان لهم تواجد شبه دائم في مدينة اتيل عاصمة الخاقانية الخزرية.
ولكن نرى عند المسعودي متابعة للموضوع أكثر دقة، حيث يقول : (( والروس : أمم كثيرة وأنواع شتى، ومنهم من يقال لهم اللوذاعنة، وهم الأكثرون، يختلفون بالتجارة إلى بلاد الأندلس ورومية وقسطنطينية والخزر... )) (12). أعتقد أن هذا المقطع من عمل المسعودي مهم للغاية ويساعد على إلقاء الأضواء على أصول الروس، فتسمية (( اللوذاعنة )) التي يوردها المسعودي يقصد بها مجموعة كبيرة من الناس ومفردهم ((لوذاعني)) وهي،على الأغلب، تسمية تطلق على الشخص الواحد بالانطلاق من أصله المكاني الجغرافي حسب المدينة أو المنطقة التي ينحدر منها وتعتبر مسقطا لرأسه، مثلا نطلق نحن السوريون على أهالي مدينة اللاذقية تسمية (( اللواذقة )) والواحد منهم نسميه (( اللاذقاني ))، وإذا رجعنا إلى نص المسعودي حول نهر برطاس المتشعب من نهر الفولغا الذي يسميه أحيانا (( نهرالخزر )) وأحيانا أخرى (( اتيل )) الذي يقول فيه: (( وفي أعالي نهر الخزر مصب متصل بخليج من بحر نيطس وهو بحر (الروس ) لا يسلكه غيرهم... )). أعتقد أن موطن الروس الأصلي يقع في المنطقة التي تنبع منها الأنهار الثلاثة : الفولغا والدنيبر ودفينا الغربي، أو متاخمة لها، وإذا تمعنا في خارطة منطقة الفالداي والمناطق المحيطة بها فإننا نشاهد في شمالها الغربي بحيرة لادوغا الكبيرة وعلى سواحلها يوجد العديد من التلال الأثرية وعدة مدن أهمها مدينة لادوغا، وعندما نجري مقارنة مع تسمية المسعودي للروس (( اللوذاعنة ))، وفق مثال : لاذقية وأهاليها اللواذقة والواحد منهم اللاذقاني، فإننا نلاحظ ما يلي : لادوغا وأهاليها اللوادغة والواحد منهم اللادوغاني.
أعتقد أنه لا توجد حاجة لملاحظة مدى التشابه االكبير بين تسمية المسعودي (( اللوذاعنة )) وتسمية ((اللوادغة )) المشتقة من لادوغا. ومن المثير للاهتمام أن علماء الأثار الروس يجرون حاليا تنقيبات أثرية واسعة النطاق في مدينة لادوغا وكافة المناطق المحيطة بها، حيث عثروا في مدينة لادوغا القديمة على عدة كنوز من النقود العربية الإسلامية تعود إلى القرون التاسع والعاشر والحادي عشرالميلادية وعثروا على كميات كبيرة من اللقيات الأثرية المتنوعة للغاية والتي تعود إلى حضارات شتى : البيزنطية والإسلامية والخزرية والأندلسية وغيرها، وهذا يؤكد كلام المسعودي حول ممارسة الروس للتجارة في البحار والأحواض النهرية، حيث يقول : ((... يختلفون بالتجارة إلى بلاد الأندلس ورومية وقسطنطينية والخزر... )). ونظرا لأهمية مدينة لادوغا في تاريخ الروس وأصولهم فقد أشرت في بداية هذه الدراسة إلى الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى مدينة لادوغا والمناطق المحيطة بها للإطلاع على نتائج التنقيبات الأثرية الجارية فيها على قدم وساق،والتي تؤكد أيضا على أن هذه المنطقة كانت مستوطنة منذ أقدم العصور من قبل القبائل الفيلندية والأغورية، كما هاجرت القبائل السلافية ( الصقالبة ) إلى هذه المنطقة في بدايات القرن السادس الميلادي واستوطنت فيها. وقد شملت هجرة القبائل السلافية الوافدة من أوروبا الوسطى كافة مناطق شرق أوروبا وكان لها حضور متميز في الخاقانية الخزرية، وهو ما تشير إليه المصادر العربية والبيزنطية. ورغم أن المسعودي وغيره من الجغرافيين العرب كانوا يذكرون الروس والصقالبة ( السلاف ) بشكل منفصل مما يؤكد أنهما كانا في تلك المرحلة شعبين مستقلين، إلا أنه بنفس الوقت كان يورد ذكرهما إلى جانب بعضهما البعض، وسبب ذلك يعود إلى عملية اندماج الروس مع الصقالبة في منطقة لادوغا والتي بدأت في بداية القرن التاسع الميلادي واستمرت هذه العملية في القرن العاشر في كافة المدن الواقعة في حوض نهر الدنيبر أدت لتشكيل عدة كيانات سياسية روسية - سلافية في هذه المنطقة أبرزها : لادوغا ونوفغراد وكييف والتي توحدت فيما بعد بزعامة مدينة كييف تحت قيادة سلالة ريوريك الروسية التي شكلت دولة قوية خاضت عدة حروب ناجحة ضد الإمبراطورية البيزنطية وقامت في عهد الأمير سفيتوسلاف بتهديم الخاقانية الخزرية اليهودية في عام 967 م وبنتيجة ذلك زالت نهائيا عن خارطة أوروبا الشرقية(13).
في المحصلة أستطيع القول، أن الروس هم مجموعة من القبائل استوطنت على مدى عدة قرون في منطقة لادوغا واختلطت مع الشعوب المحلية : الصقالبة ( السلاف ) والفيلنديين والأغوريين. وحتى بداية القرن العاشر الميلادي كانت لادوغا عاصمتهم ومسقط رأسهم. وكان الروس يشكلون النخبة الحاكمة في مدينة لادوغا ولاحقا في نوفغراد وكييف وغيرها من المدن الواقعة في حوض نهر الدنيبر. وقد تميز الروس بإتقانهم ومهارتهم في التجارة النهرية والبحرية واشتهروا بقدراتهم العسكرية الفائقة وبسالتهم في المعارك وتشير إلى ذلك كافة المصادر التاريخية البيزنطية والعربية، التي تشير أيضا إلى أن الروس أسسوا على مدى عدة قرون عدة مستوطنات ومستعمرات كمحطات تجارية في أحواض الأنهار الثلاثة الكبرى : الدنيبر ودفينا الغربي والفولغا، وعلى سواحل وجزر البحر الأسود، وقد صادفهم المسعودي في المدن المطلة على بحر قزوين وفي مدينة اتيل عاصمة الخاقانية الخزرية وصادفهم ابن فضلان في إمارة بُلغار في حوض نهر الفولغا.
ونعود للسؤال الكبير : هل تنتمي روسيا إلى الحضارة الأوروبية الغربية كما يدعي ذلك ممثلو التيار التغريبي الليبرالي؟ أم أن روسيا تمثل حضارة أوروأسيوية كما يؤكد ذلك ممثلو التيار القومي الروسي؟
أعتقد أنه لو اقتصرت مساحة دولة الروس المندمجين مع السلاف ( الصقالبة ) على المناطق الغربية - الشمالية، والتي تضم مناطق لادوغا ونوفغراد والفالداي بالإضافة إلى حوضي نهري دفينا الغربي والدنيبر كما كان الأمر حنى منتصف القرن الثالث عشر، فإنها كانت ستنتمي حتما إلى الحضارة الأوروبية بالمعنى الواسع ( عرقيا وثقافيا ودينيا )، ولكن بعد خضوع الإمارات الروسية للسيطرة التتارية منذ منتصف القرن الثالث عشر ودخولهم في عداد دولة أوردا الذهبية على امتداد أكثر من قرنين وتشكل دولة موسكو الروسية المركزية الموحدة في النصف الثاني من القرن الخامس عشر وقيامها في منتصف القرن السادس عشر على يد ايفان الرهيب بضم الإمارات التتارية الواقعة في حوض الفولغا ومناطق الأورال وسيبيريا إلى الدولة الروسية واستمرار توسعها لاحقا في الفضاء الآسيوي، حدثت تغييرات انتروبولوجية جوهرية في تركيب الشعب الروسي، فعلى امتداد حوالي الثمانية قرون جرت عملية اندماج عدة عروق وأجناس أوروبية وآسيوية ( اندماج الروس مع السلاف والفيلنديين والأغوريين والبجناك والقفجاق والتتار وشعوب سيبيريا وآسيا الوسطى )، وقد تبلورت هذه العملية بشكل خاص في مرحلة تشكل الإمبراطورية الروسية بدأ من عهد بطرس الأول في بداية القرن الثامن عشر وانتهائا بالحقبة السوفييتية في نهاية القرن العشرين، والآن من يدق بيده على صدره مفتخرا بإنتمائه للقومية الروسية تجري في عروقه دماء مختلفة ومتنوعة للغاية، ونستطيع أن نجزم بأنه تشكل في خلال الفترة المذكورة شعب روسي له حضارته الخاصة به يستند على تاريخ مشترك ولغة وثقافة وعادات مشتركة وواقع جيوبوليتيكي أوروأسيوي مشترك. هذه العملية التي تشكلت تاريخيا لا تنفي بالطبع وجود بعض النزعات الانفصالية المحدودة لدى بعض الأقليات القومية والتي برزت في مرحلة التسعينات من القرن العشرين، ولكنها تبقى ضمن إطار محدود للغاية ولا تؤثر على وحدة أراضي الدولة الروسية والشعب الروسي الذي يحمل الموروث التاريخي للإمبراطورية الروسية في العهدين القيصري والسوفييتي والموروث الثقافي للديانتين الأرثوذكسية والإسلامية اللتين ترفضان الانصياع لإرادة الغرب الكاثوليكي.وفي المحصلة أعتقد أن روسيا لا تنتمي إلى الحضارة الأوربية ولا تنتمي إلى الحضارة الشرقية أو الأورأسيوية، وإنما تنتمي إلى مجموعة الدول التي على مر التاريخ تميزت بكينونة خاصة بها تختلف عن حضارات الشعوب الأخرى، فروسيا بخصائصها التاريخية والجغرافية والأنتروبولوجية والثقافية هي روسيا لا تشبه إلا نفسها.

المراجع :
1- تاريخ روسيا في ثلاثة أجزاء، اصدار معهد تاريخ روسيا التابع لأكاديمية العلوم الروسية تحت اشراف الأكاديمي ساخروف، موسكو 2000بالروسية ج1.
2- غالكينا. ي. س الخاقانية الروسية، موسكو 2002 بالروسية.
3- المسعودي أبي الحسن. (( مروج الذهب ومعادن الجوهر )) 4 أجزاء، المكتبة العصرية، صيدا ndash; بيروت 1987.
4- ياقوت الحموي، معجم البلدان، دار الكتب العلمية بيروت 1990، ج1 ص 576- 578.
5- المسعودي، مرجع ورد ذكره، ج1 ص 124.
6- المرجع السابق، ج1 ص 125.
7- المرجع السابق، ج1 ص 176.
8- المرجع السابق، ج1 ص 176.
9- المرجع السابق، ج1 ص 178.
10- المرجع السابق، ج1 ص 181.
11 ndash; تاريخ روسيا، مرجع ورد ذكره، ج1.
12- المسعودي، مرجع ورد ذكره، ج1 ص 182.
13- غالكينا. ي. س، مرجع ورد ذكره.

الدكتورعمرمحمود شعار