عادت نغمة المصالحة والحوار مع المسلحين الذين لم تتلطخ ايديهم بدماء العراقيين ! لتتصاعد، هذه الأيام، في الساحة السياسية العراقية بوتيرة أعلى من السابق، وأكثر صراحة في اشارتها للبعث، من خلال الزيارات المتكررة للمسؤولين في الادارة الاميركية وبالونات الاختبار التي يجري تسريبها وحتى نفيها عبر الصحافة، وكذلك في المؤتمرات الصحفية لرئيس الوزراء أو الناطق بأسمه، والتي يراد من خلالها تهيئة المواطن واعداده نفسيا، وتمهيد الساحة سياسيا لتحقيق الهدف في الوقت المناسب.
إن العجز عن مواجهة الأرهاب والارهابيين لا يكون بمكافأتهم، بل العمل بجدية لوضع خطط متكاملة سياسية اجتماعية اقتصادية عسكرية واعلامية، تعتمد المواطن العراقي محورا أساسيا لها، وغياب هذا النهج، حتى اليوم، والاقتصار على العمل العسكري على طريقة الكاوبوي الاميركي، هو السبب في هذا العجز، الذي يراد من خلاله تمرير (المصالحة مع البعث). إن العراق الديمقراطي الذي يحترم فيه القانون يتعارض وهذا التوجه للمصالحة، الذي لن يكتفي بالعفو عن المجرمين بل سيمنحهم دورا سياسيا لأنهم، بالتحديد، بلطجية وقتلة يؤمنون بلغة السلاح والقتل، وليس بالفكر والحوار والقانون، وهذا ما فعلوه طيلة وجودهم في الساحة السياسية، سواء كانوا في السلطة أو المعارضة، وحتى اليوم. ان هذا التوجه ليس جديدا لدى الادارة الاميركية، فهي ومنذ البداية كانت تريد تغييرا فوقياً شكلياً لنظام صدام البائد، لأنها ليست معنية بمصالح العراقيين، بل بتحقيق وضمان مصالحها وليس اي شيء آخر، وبالتالي لا يهمها من الذي يحقق هذه المصالح، وكيف يحققها. ومع هذا التوجه الاميركي تلتقي عدد من القوى العراقية، البعض منها يحمل نفس عقلية البعث التآمرية المخابراتية، والذي يهيء للأنتخابات المقبلة بالحصول على أصوات انصار البعث المنحل، ربما من خلال التحالف معهم، ومع المناهضين للوضع الجديد لأسباب طائفية، والآخر الذي يريد ان يثبت حسن نيته ويكسب ود ورضى اميركا، لأسباب انتخابية وطائفية ايضا. ولكن على القوى السياسية الأخرى والشارع العراقي، المتضرر من البعث، ان يعبر عن ارادته ويرفض هذا التوجه، فأميركا ليست كلية القدرة، خاصة وأن لديهم أوراق تمكنهم من فرض إرادتهم ورؤيتهم، ان احسنوا استغلالها، كما فعلوا في رفضهم لتواجد القوات التركية داخل الاراضي العراقية، وأجبروا اميركا على الرضوخ لأرادتهم. لقد أرتكبت الأدارة الاميركية أخطاء فاضحة في تعاملها مع الملف العراقي، أعتذرت عنها، بعد خراب البصرة ! وإذا كان العراقيون طامحون حقا لبناء عراق ديمقراطي خالي من العنف والاضطهاد ولا سيادة فيه لغير القانون، فان هذه (المصالحة مع البعث) تمثل عبورا وتجاوزا لخط أحمر لا يمكن قبوله والسماح به. وهي ان حدثت ستكون خطأً قاتلاً، ولن ينفع حينها الأعتذار الذي سيأتي بعد زوال البصرة !
ولكن هل تمتلك القوى والشارع العراقي المتضرر من سياسات البعث هذه القدرة على الفعل والحركة، ونحن نشهد اليوم ما يتعرض له هذا الشارع من تهميش وتسطيح وتفتيت وتضييع تحت واجهات ومسميات ومعارك وهمية وعبثية ؟ تبقى هذه أمنية، وسؤال ينتظر أن تجيب عنه الأحداث والايام القادمة.

وقد سبق لي أن أشرت الى هذا التوجه، الذي يبدو اليوم واضحا، في مقالة سابقة بتاريخ 7 /شباط/2005، أعيد نشرها لأطلاع من يهمه الأمر.... واللهم اشهد....

المصالحة مع عروس الثورات !

-على عادتهم في التعامل مع قضايانا الحيوية بسطحية ولا مبالاة تربك المواطن وتلغم الساحة بالمواقف المفخخة، مثل تلك التصريحات عن دول الجوار ونقل الحرب الى شوارع طهران ودمشق، في بلد يقتل الناس فيه بالمجان، ولا يملك سوى طائرتين لا تكفي حتى لمكافحة الجراد، وكذا عن الحرب الاهلية التي يراوح فيها بعض ساستنا، بين الممكن وغير الممكن، دون ان يراجعوا التأريخ والقاموس السياسي، ويبحثوا فيه عن يوغسلافيا والاتحاد السوفييتي ! وقف عدد من الساسة والمسؤولون العراقيون، ليدلوا بتصريحات غامضة مشوشة مثيرة للاستغراب، عن المصالحة. واذا انتبهنا لتوقيت التصريحات التي تسبق اعلان نتائج الانتخابات، فيمكننا ان نعتبرها مناورة واضحة للالتفاف على الطرف المتوقع فوزه، ومحاولة لأخذ زمام المبادرة منه وفرض اجندة مسبقة عليه. وهي بنفس الوقت عملية اعادة ترتيب للاوراق وتحضير مبكر، غير معلن، للاستحقاقات المقبلة، مثل كتابة الدستور والاستفتاء ثم الانتخابات نهاية العام الحالي 2005 !
- واذا دققنا في مفهوم المصالحة، كما وردت في المنجد في اللغة والاعلام الصفحة 432 تحت كلمة ( صَالَحَ صِلاحاً ومُصَالَحَة ً هُ : خلاف خاصمه... الصُلْح : السِلْم، وهو اسم من المصالحة ويقال : هم لنا صُلْحٌٍ، أي مصالحون. وعند ارباب السياسة : رفع الحرب على شروط تعرف بشروط الصلح ) نجده بعيدا عن الواقع السياسي والتأريخ العراقي، الذي يشير الى عدم وجود خصومة من أي نوع بين مكونات الشعب العراقي. خاصة وان التنظيمات السياسية والقوائم الانتخابية والذين شاركوا في الانتخابات وحتى المقاطعون لها، ينتمون لكل الوان الطيف العراقي، باعتراف هيئة علماء المسلمين نفسها. كما ان المؤسسات والاجهزة العراقية، الادارية والسياسية والعسكرية مليئة، حاليا، بالبعثيين السابقين غير الملوثين ! وهذا يعني ان كل العراقيين مشاركون في العملية السياسية، وان لهم الحق في اتخاذ الموقف الذي يرونه مناسبا سلبا وايجابا. وبالاضافة الى ان الجميع حتى اولئك الذين يروجون ( للمقاومة ) يعقدون اجتماعات وحوارات علنية ومؤتمرات في بغداد، فالسؤال الذي يطرح نفسه بالحاح : المصالحة مع من !؟ ومن هو الطرف الغائب ؟
- اننا اذا اعتبرنا التصريحات من مثل: ( لا مصالحة مع القتلة الذين ارتكبوا جرائم بحق الشعب العراقي ) فقاعات اعلامية، وانها من مستلزمات السياسة، فان هناك طرف واحد يظل خارج العملية السياسية، وهو حزب البعث، الذي يبدو انه المقصود بالمصالحة، ويراد اعادة الاعتبار له وتأهيله للعودة والنشاط مجددا. وهذا ان حدث يمثل خطوة الى الوراء وتكرار لنفس الخطأ، الذي سبق ان وقع فيه العراق والعراقيون ودول المنطقة فدفعوا الثمن غاليا، بعد ان جرهم لحروب وكوارث آثارها ماثلة للعيان، من بينها الاحتلال الاميركي للعراق.
- ولكي لا يُدفع الثمن مرة اخرى، نذكر البعض الذي يتجاهل أو لا يزال غير مقتنع بالقاعدة القانونية التي تؤكد بان الافلات من العقاب يؤدي لتكرار الجريمة ! بوقائع للبعثيين الذين يراد المصالحة معهم، ومنها ما حدث للراحل عبد الكريم قاسم، في مواجهته لهم. فبعد ان اصبحوا في قبضته، عفا عنهم وسامحهم وقال عبارته الشهيرة : عفا الله عما سلف ! فكان ردهم عليه بالقتل في انقلاب 8 شباط 1963 الذي أغرق العراق بالدم. وهم لايزالوا، حتى اليوم، يحتفلوا بهذا الانقلاب ويسموه ( عروس الثورات ). واستمروا بعدها في غدرهم بكل من تعامل معهم من القوميين العرب والاكراد. أما الشيوعيون، فقد ذهبوا بعيدا حين عبروا نهر الدم ( لعروس الثورات )، وتحالفوا مع البعثيين في ما سمي حينها ( الجبهة الوطنية ) لتتكرر المجزرة ويدفعوا الثمن ثانية. وحتى تلك الدول التي وقفت مع نظام البعث في عدوانه على ايران عام 1980، ارتكبت نفس الخطأ عندما سمحت بأن تمر هذه الجريمة من دون عقاب، فعاد نظام البعث ليكررها ثانية بجريمته في غزو الكويت واحتلالها عام 1990.
- ان الاذى الذي تعرض له العراقيون جراء السياسات المغامرة والطائشة، للبعثيين، التي احرقت الحرث وابادت النسل وتسببت في الاحتلال، لا يمكن نسيانه والقفز فوقه، وينبغي ان تترك للبرلمان وللقضاء العراقي ليقول رأيه فيها، بعيدا عن المصالح الضيقة واساليب الكسب الرخيص، ورغبة هذا السياسي أو ذاك، خاصة وان هناك محاكمة لرموز البعث ونظامه يجري التحضير لها.
- وفي نفس الوقت لابد من التأكيد باننا لا ندعو للثأر ولا نشجع الرغبة في الانتقام، بل نطرح رؤية واجتهاد سياسي، لا تؤمن بوجود مصلحة وطنية، واسس منطقية لهذه المصالحة مع فئة لم تظهر، طيلة وجودها في الساحة السياسية العراقية، في المعارضة والسلطة، اي قدر من المسؤولية والمصداقية السياسية.
- وبعيدا عن هذه المصالحة المثيرة للشك وعدم الارتياح، فان البديل الواقعي والمنتظر من السياسيين العراقيين، هو الحوار والتوافق الوطني، لمواجهة مهام المرحلة الحالية، واعتماد سياسات ذات برنامج وحلول اقتصادية واجتماعية تعزل الارهابيين، ومنهم البعثيين، وتسحب البساط منهم، وتقدم حلول للازمات التي يعاني منها المواطن، وتسعى في نفس الوقت لاستعادة الثقة بالثوابت الوطنية، ليكون العراق وطن الجميع الذي يحترم حقوق كل المكونات واصغرها بالتحديد، سياسات تحرم استخدام العنف، وترسخ مبدأ المواطنة واحترام الحريات وسيادة القانون، لتبدأ حينها مصالحتنا الحقيقية مع تاريخنا وثقافتنا ودورنا التاريخي الحضاري في المنطقة والعالم.

محمد ناجي
[email protected]