مدخل : يمكنني القول دون ادعاء انني كنت شاهد عيان لمرحلة ما قبل 14 تموز 1958 فضلا عن مرحلة مابعدها! وانني عبر 47 سنة لم اكتب وجهة نظري او مشاهداتي عما حصل في هذا اليوم الإستثنائي سوى ماأوردته في مذكراتي المنشورة ( عودة الطيور المهاجرة ) الفصول من 1- 6! وإذا كتبت اليوم مكابدتي تحت العنوان اعلاه فذلك لأنني وجدت ان من كتب عن هذا اليوم الزلزال احد اربعة : عالم بها خائف من القول! عارف بها يحرف القول! مدع يهرف بما لايعرف! مدع يجيِّر الحدث لاهداف دنيئة! ولم اقرأ على حد اطلاعي شيئا ذا بال سوى ماكتبه دكتور فاضل حسين عن سقوط النظام الملكي في العراق وصبيح علي غالب في قصة ثورة 14 تموز والضباط الاحرار وعبد الكريم فرحان في ثورة 14 تموز في العراق وليث الزبيدي في اطروحته عن ثورة 14 تموز فقد كان منصفا في محاكمته للأخبار والإدعاءات بيد انه لم يكن شاهدا معاصرا! وثمة كتاب عن عبد الكريم قاسم للدكتور عقيل الناصري لم اطلع عليه وآخر للزميل حامد الحمداني لم اطلع عليه ايضا! اذن باختصار شديد ان 47 عاما مرت على الحدث كانت كافية للوضع والحذف والتحوير فضلا عن الذاكرة الجمعية التي تؤسطر الحدث فتمسك بجوهره لتصبه في قالب المحكي الشفاهي!
عرض : ذهب وفد من اعيان الشيعة لمرافقة الملك فيصل الاول ( 1883 – 1933 ) من مقر اقامته في الحجاز الى مقر عرشه في العراق وكان الرهان الشعبي كبيرا على هذا الملك المظلوم الذي اسقطت مملكته في سوريا بأيد اجنبية وكان المرجع الديني الأكبر السيد ابو الحسن الموسوي قد اعترض على فكرة استيراد الشريف فيصل كملك من الحجاز بمسوغات انه هاشمي وطالب العراقيين بأن يكون الملك هاشميا كفوءا ومن داخل العراق!! بيد انه لم يعترض على سفر الوفد! فضلا عن معارضة الزعماء الكورد لاختيار الشريف فيصل! الى جانب معارضة فيليبي لفكرة تنصيب ملك على العراق غير عراقي و دون انتخابات واستبيانات على الضد من راي السير برسي كوكس الذي وصل بغداد في 20 اكتوبر 1920 ووقف الى جانب فكرة تنصيب الشريف فيصل مما الجم المعترضين بمن فيهم فيليبي وما إن وصل الملك فيصل الى بغداد محاطا بالزعماء الشيعة حتى غير اصدقاءه ومستشاريه وكان اكثر هؤلاء معاديا لأهالي منطقة الفرات الاوسط ( الشيعة ) ولعل ابرز مستشاري الملك في العلوم التربوية والاجتماعية هو الخبير التركي ساطع الحصري الذي دشن مرحلة من الغلو الطائفي! وفي قصر القشلة الذي مازال ماثلا حتى اليوم في ميدان القشلة ببغداد قريبا من ساحة الميدان وسوق السراي وشارع المتنبي! القصر الذي كان مقراً للحاكم العثماني! في هذا القصر وفي ساحته الامامية وضع كرسي للعرش صنعه نجار من الكاظمية وأهداه بنفسه للملك فيصل الاول تعبيرا عن حب اهل الكاظمية والشيعة بعامة للملك فيصل! جلس فيصل على كرسي العرش بملابس الفارس البريطاني البيضاء والى جانبه المندوب البريطاني ونقباء بغداد وزعماء العراق فكان اول تصريح له نطق به الملك الجديد ومؤسس الملكية هو : ( العراق دولة سنية! ) وهكذا بدأ الشرخ الاول بين المملكة الهاشمية وبين الشيعة الذين قالت عنهم المسز بيل انهم دوخوا التاج البريطاني خلال الاعوام 1914 - 1918 - 1920!

المغفور له الشريف فيصل الاول ملك العراق

ثم غذ السياسيون الطائفيون في سياسة الغاء الشيعة واعتبارهم تبعية فارسية وتم تهجير الكثير من علماء الدين والمراجع الشيعية الى ايران او الهند! في الوقت الذي تم فيه استيزار عبد المحسن السعدون عضو مجلس المبعوثان التركي والذي لايجيد العربية بعد ايام من وصوله بغداد ( حين انتحر وجدت وصيته لولده علي مكتوبة باللغة التركية!! ) وتوظيف ساطع الحصري التركي بل ان نوري السعيد يتحدر من اصول تركية ولا ندري لماذا تدلل التبعية التركية وتذلل التبعية الفارسية وكلاهما غير عراقي! كما تم استيراد أئمة لمساجد العراق من الهند والحجاز وتركيا يثيرون العنعنات الطائفية المقيتة!! فضلا عن خروقات اخرى يطول ذكرها الأمر الذي نسف كثيرا من الجسور بين الطائفة الشيعية والبيت الهاشمي! ثم برزت اسماء طائفية ذات طبيعة عدوانية فضربت الدبابات مدن النجف وكربلاء والكاظمية بل ان الطائرات حرثت بيوت الفلاحين والشيوخ في الفرات الاوسط وكان ان نظمت الاطراف السياسية المغالية ادوارها ابتداء من ساطع الحصري الى عبد المحسن السعدون الى رشيد عالي الكَيلاني الى مولود مخلص الى نوري السعيد الى الى الى! فشعر فيصل الاول بالندم على تصريحه الذي فتح الضوء الاخضر للساسة الطائفيين كي يعيثوا بالعباد والبلاد كما كانت تفعل الدولة العثمانية البائدة! فكتب المذكرة تلو المذكرة يدعو الى ان الرعية سواسية! ولا من مجيب او سامع فقد غرق العراق بطوفان طائفي مروع!!الجيش والداخلية والخارجية وبقية الوزارات المهمة محرمة تماما على الطائفة الشيعية التي تصل نسبتها 70 % من سكان العراق!! بينا يصر الشيعة على انهم 75 % من السكان!! قارن الخارطة لطفا :

ثم جاءت مرحلة الأغتيالات السياسية فقتل رستم حيدر وآخرون ووضع السم لبعض الزعماء القبليين والدينيين والسياسيين! وحين وجد الكارتل الطائفي ان المفغور له الملك فيصل الاول اصبح جادا في الغاء الأجندة الطائفية فقد – مثلا - تزوج سراً من امرأة شيعية من البو اذبحك بقرية السادة في الحلة! وتقبل دعوات كثيرة في بيرمانه والعذار والنجف! بل كلف رحمه الله السيد حسين حيدر الحلي لكي يتسلم الاراضي التي كان يمتلكها زيد الشهيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب وهي بين الكفل وبابل ليوزعها على اتباع اهل البيت! كما انه اصدر قائمة بخطه وتوقيعه فيها اسم اربعون شيعيا منعوا من الدخول في الجيش وأمر بقبولهم وفق ارادة ملكية فيها توبيخ للجهة التي رفضتهم!! هذه وتصرفات غيرها نهد بها الملك فيصل الاول رحمه الله فتقرر تصفيته بسم الزرنيخ الذي وضعته له صديقته الهندية المجهولة في فنجان القهوة بمشفاه الأوربي!! وفي العصر البعثي حينما طرح احد ضيوف برنامج ( شيء من التاريخ ) بتلفزيون بغداد مطلع ثمانينات القرن العشرين اقتراحا مؤداه ان تحلل عظام فيصل الأول للتأكد من انه مات بالزرنيخ! لأن الزرنيخ يترسب في عظام الضحية! صدر امر من وزير الثقافة بتعليق البرنامج!! المهم صدر بيان مقتضب من طبيب الملك الشخصي أعلن فيه : ان الملك مات نتيجة انفجار الزائدة الدودية ثم تم التخلص من صديقته الهندية بتجريعها الزرنيخ ذاته فيا لحكمة السماء! وجاء غازي الاول ( 1912 – 1939 ) الذي تولى سنة 1933 العرش وكالة عن ابيه في رحلته الاخيرة الى المشفى وحدثت وقتها مذبحة الآثوريين! جاء غازي فتى رياضيا يشجع الكشافة ويرتدي ملابسها المتميزة! كان كثير الحماسة طيب القلب مشغوفا بصداقة الفقراء! وسمح له اللوبي السلطوي بكثير من التصرفات مادام هو يجهل الكثير عن ماكنة الحكومة وكان نوري السعيد يغريه بالشابات الشقراوات بحيث خلق جدارا عازلا بينه وبين زوجته عالية شقيقة الوصي عبد الإله حين سرب اليها بعض خدم القصر بإيعاز من نوري السعيد ان زوجها غازي يخونها كل يوم عدة مرات!! ثم اغراه بالخمرة ( واشياء اخرى نترفع عن ذكرها!! ) فانصرف الملك كليا لمباهج الجسد ونسي اصدقاءه الفقراء وشعبه الذ ي يترنح تحت ضربات الطائفية والعوز والجهل! فإذا نبهـه مرافقه الأقدم الى ضرورة الالتفات الى مهماته كملك فقد وجد المرافق المسكين مقتولا في غرفة نومه بقصر الزهور! ولم يفهم غازي الاول الرسالة من قتل مرافقه الاقدم!! فانتبه الى مهماته كملك وبدأ يجتمع بعينات من المجتمع العراقي ويطلع على انتهاكات حكومية مروعة فضلا عن عقابيل مذابح الآثوريين وهكذا قرر الكارتل الطائفي التخلص من الملك الشاب بأية طريقة وحين وصلت سيارة المارسيدس السريعة الى القصر هدية من ادولف هتلر قدحت فكرة التخلص منه بالسيارة نفسها التي احبها غازي الاول حبا طفوليا لأنها كانت مصممة تصميما شبابيا خصيصا له! فقتل بطريقة ساذجة لم يصدقها السذج من الناس! وكان ممن دار ت حولهم الشبهات زوجته الملكة عالية ام ولده فيصل التي توفيت بالسرطان سنة 1950 وأمه الملكة خزيمة زوجة فيصل الاول!! والامير عبدالإله شقيق عالية بتوجيه من نوري السعيد!!

المغفور له الملك غازي الأول يحمل ولده المغفور له الملك فيصل الثاني
وهكذا جاء دور الكارتل السياسي في استغلال عبد الإله بن علي ( 1913 – 1958 ) شقيق عالية وخال الملك الطفل فيصل الثاني وكان عبد الإله الدجاجة التي تبيض ذهبا للكارتل! فقد وعده نوري السعيد بالتخلص من فيصل الثاني ( 1935 – 1958 ) لأنه مصاب ( كذا ) بنوبات ربو حادة وكآبة مزمنة تجعله يهلوس! ذلك ما سيتضمنه التقرير الطبي الذي يقرر عدم اهلية فيصل الثاني للجلوس على العرش! بعدها سيتحقق حلم عبد الإله القديم وهو ان يكون ملكا! وهكذا اضحى العراق مزرعة قريش فكل القرارات يوقع عليها الوصي عبد الإله بينا تحجب عن الملك! وحين توج فيصل ملكا كان عبد الإله قد اصيب بحالة اكتئاب فعالة فحرمته من الشهية للطعام والكلام وحلاقة الذقن ومقابلة الناس اي اصيب بانهيار كامل دفعه الى الهذيان! وزعل على الكارتل الطائفي لأنه لم يصدق معه! فهاهو فيصل يجلس على العرش بينما لم تعد لعبد الإله المؤتمر بأوامر نوري السعيد وظيفة ما سوى السكر والعربدة والفضائح! فتفتق ذهن نوري السعيد عن فكرة شيطانية وهي ان يضع غرفة عبدالاله مقابلة لغرفة الملك بحيث يرى كل من يدخل الى غرفة الملك وكل من يخرج منها! وزرع في روع الملك الصبي ان هناك مؤامرة للقضاء على العائلة الهاشمية ستبدأ بالتفريق بين عبدالإله وابن اخته فيصل ولسوف يتم التخلص من خاله بطريقة او بأخرى ومن بعد ذلك يتم التخلص من مجمل العائلة المالكة بينهم الملك فيصل الثاني! ولذلك اوصي فيصل ان لايوقع على اي مرسوم ملكي أو توجيه دون علم عبد الإله وان عليه ان يفهم الجميع ان عبد الإله هو الملك الحقيقي للعراق لكي تفشل المؤامرة! وهكذا شاعت بين الناس عبارة الملك فيصل الثاني البريئة ( ما اكَدر اوقع حتى اشوف راي خالو ) وغرق العراق في معاهدات جائرة مع بريطانيا وفي الصميم معاهدة بورت سميث! وكان اضطهاد اليهود العراقيين والاعتداء على بيوتهم بتخطيط بين نوري السعيد وموشي دايان وغولدامائير لكي يضطر اليهود الى هجرة وطنهم! وتم اعدام خيرة مناضلي الشعب العراقي من عسكريين ومدنيين! فخرجت المظاهرات الغاضبة ووقعت البيانات الرافضة ومن قبل حدثت مجازر النجف وكاورباغي وسجن الكوت ونكَرة سلمان الفارسي! ووقف علماء الدين وبخاصة الإمام محمد الحسين كاشف الغطاء وشيوخ العشائر وزعماء الأحزاب الوطنية وفي المقدمة الحزب الشيوعي وحزب الاستقلال والحزب الوطني الديموقراطي! مواقف شجاعة ضد التدهور في الحكومات العراقية بحيث سادت المحسوبية والرشوة والطائفية في تقاليد المملكة فبات الشارع خارج قبضة الحكومة! كل ذلك وفيصل الثاني المسكين منشغل بطقوس خطبته من الأميرة التركية فاضيلة ابنة الأمير محمد علي بن محمد وامها الاميرة خانزادة حفيدة السلطان العثماني عبد المجيد! وقد قتل الملك في اليوم ذاته الذي كان مقررا فيه سفره الى تركيا وحقائب سفره الى تركيا كانت مركونة في مدخل القصر! وقد تناهبها القتلة واللصوص كما تناهبوا كل مفردات القصور الملكية وبيوت نوري السعيد وتوفيق السويدي وفاضل الجمالي والوزراء والزعماء المحسوبين على الملكية فلم يتركوا حتى العلب الفارغة!! بينا كان طياره قد ملأ طائرته بالوقود الكافي واختبر كفاءتها في ورشة المطار بانتظار الملك وخاله وعدد من العائلة الهاشمية بتخطيط من نوري السعيد العجوز رجل المملكة الأول! الشارع كان يغلي والمؤشرات تنذر بزلزال لا يبقي ولا يذر! كان بمجرد اعلان لخمس دقائق من الاذاعة ما يكفي لازاحة العائلة المالكة عن قصري الزهور والرحاب! كان من الممكن جدا حدوث هيجان جماهيري مدني يطيح الملكية ويؤسس حكما دستوريا مدنيا! عندها سيكون العراق خلال سنوات دولة ثرية رخية ذات مؤسسات! وقد شعر الضباط ان السلطة قد تخرج من ايديهم ليتسنمها المدنيون! او ان احد الشخصيات السياسية قد يعتقل نوري السعيد وعبد الإله ويقيمها مملكة دستورية لامكان فيها لمحترفي المكر السياسي فبدأ القلق يساور العسكر بأن الفرصة قد تفلت من ايديهم او ان جهة ما قد تكون الحزب الشيوعي او الوطني الديموقراطي او الاستقلال ستحقق الضربة الأولى مثلا وعندها سيخسر العسكريون الرهان! فابقوا على اتصالات مع قادة هذه الأحزاب لجس نبضها ومعرفة ايقاعات مشروعها للتغيير! كانت هذه هي الهزيمة الأولى للثورة الشعبية المدنية! اما الهزيمة الثانية فهي الاتفاق السري الثنائي بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف الغاية منه استغفال الضباط الاحرار وعدم اخبارهم بالقرارات الثنائية! وكان لهما ما ارادا فهما يحضران اجتماعات الضباط الاحرار دون شهية ولايلتزمان بالقرارات الجماعية! وحين تنبه الضباط الى انفراد عبد الكريم قاسم بالقرارات واستفسروا من عارف فصرخ بوجوههم ( ماكو زعيم الا كريم ) وكان عبد الكريم كما يبدو يريد نسف الجسور بين عارف الأحمق والضباط الأحرار! ومن ثم يتم التخلص منه بسهولة!! وهو التفكير ذاته الذي كان يدور في بال عارف ان يلغي دور الضباط في القرار ثم يتخلص من عبد الكريم قاسم دون عناء!! كانت المكائد نشطة بين الضباط فهم شلل وولاءات! ثم فوجيء الضباط والشعب بقرار قاسم عارف بالتخلص من الحكم الملكي بقرار ثنائي ووضعا الضباط والأحزاب امام الأمر الواقع! وما إن تخلص قاسم من عارف حتى انقسم الشارع العراقي بين تيارين عنيفين هما تيار ( اليسار من شيوعيين وديموقراطيين ومستقلين ) وتيار ( اليمين من قوميين وبعثيين وإسلاميين واقطاعيين ومستقلين ) وكان الشهيد عبد الكريم قاسم قد انفرد بالقرار فلم يشكل مجلس الضباط الاحرار ولم يصغ الى الحكماء بل اثمله تحلق الجماهير حوله! فكل مجمع سكني يبنى انما بناه قاسم وكل قانون يسن انما سنه قاسم! تارة يضيق الحبل على التيار اليميني فإذا ضعف وقوي التيار اليساري ضيق الحبل على التيار اليساري ولعل خطابه في كنيسة مار يوسف خير دليل على تذبذبه فقد اشعل الضوء الاخضر للعدوان على اليساريين! والغريب هي ورطة اليسار مع قاسم فهو يشتمهم ويسجنهم ويطلق ايادي الحصونة والأنصاري والرفيعي في محافظات العراق فقد منع الحصونة مثلا جريدة طريق الشعب من المحافظات الوسطى والجنوبية! بينا محسن الرفيعي يتآمر مع قوى اليمين ضد اليسار وقاسم معا! وبات الشارع نهبا للغوغاء من خلال الشعارات الهجينة!! ثمة الكثير من الشيوعيين ادخلهم قاسم السجن ولم تنفع الشفاعات والبيانات في اطلاق سراحهم فإذا جاء البعثيون في 8 فبروري 1963 وجدوا كثيرا من الشيوعيين في السجون فاخرجوهم ونفذوا فيهم حكم الموت! والسؤال لماذا لبث التقدميون يؤيدون قاسم على تهوره وتخبطه؟ والجواب في نظري ان البديل لقاسم لم يكن مريحا! فقد شكل له حماية من القوميين والشيوعيين وظنه ان كل طرف سيراقب الطرف الآخر!! ان تجربة الدكتور محمد مصدق الذي ثار على سلطة شاه ايران محمد رضا بهلوي وأمم النفط! لكنه كان فردي القرار ولم يتعاون مع حزب تودا فحصل ما يشبه الجفوة بين تودا ومصدق ولم يتحمس شيوعيو ايران لأفكار مصدق فتخلوا عنه مما سهل سقوطه وابتلاع قراراته التقدمية بل ان شاه ايران ضرب حزب تودا والقوى الديموقراطية بشكل يفوق تعامله مع مصق واتباعه! ربما خشي شيوعيو العراق ان يكون سقوط قاسم سانحة لأعدائهم كي يستلموا السلطة ومن ثم التنكيل بالشيوعيين! وقد حصل هذا فعلا! فإذا كان هذا الفرض مقبولا فهل يمكننا تخيل اسباب تعلق التقدميين بعبد الكريم قاسم الذي تسبب بتقلباته السياسية في ذبح الشعب العراقي في شباط الأسود 1963! واذا كان عبد الكريم قاسم شريفا وهو كذلك ووطنيا وهو كذلك ويمكننا غض النظر عن اخطائه فلماذا الإصرار على ان ماحصل في 14 تموز 1958 ثورة شعبية وهي في حقيقتها اجهاض للثورة الشعبية اولا والبوابة التي دخل منها العسكريون للسلطة والحكم مع قلة تجاربهم وعنف قراراتهم وعدم منح السوانح للتكنوقراط والفكر المدني ثانيا! وتواصل الحكم العسكري قرابة نصف قرن وقد وعدوا بالعودة الى الثكنات بفترة قصيرة ثالثا! والمذابح والحروب والتبديد لخزينة العراق على مدى نصف قرن بحيث لو قسنا ضحايا الشعب العراقي في العصور السابقة لـ 14 تموز 1958 بالضحايا بعد هذا التاريخ لوجدنا ان المعادلة غير متعادلة! كل المآسي التي طالت الشعب العراقي بعد تسنم العسكر ومازلنا نسميها ثورة! اهي ثورة على قصر الرحاب الذي تحول فيما بعد مكانا للموت والتعذيب! فقد اتخذ صدام حسين وناظم كزار ومحسن الشيخ راضي وعلي صالح السعدي من قصر الرحاب مقرا لقتل الناس واغتصاب العراقيات! ويمكن القول ان هذا القصر المشؤوم شهد قتل عشرات الآلاف من المناضلين والمفكرين! كما شهد صياغة قرارات الموت ضد المعارضين! فيتم ملاحقتهم على طول امتداد الكرة الأرضية! ان ما نحصده اليوم من عودة البعثيين بعمائم ولحى وسيارات مفخخة والموت المجاني اليومي وافراغ ميزانية الدولة! كل هذه وسواها من ثمار 14 تموز التي اسهم مناخ العراق في هذا الشهر الذي ترتفع فيه درجة الحرارة الى درجة 65 مئوية بحيث يفقد الكثير من الناس قدرتهم على تنظيم تصرفاتهم بدم بارد! ساهم هذا المناخ في جرأة العسكر على الفعل وكسل الحكومة عن حماية رأسها!! والتهاب مشاعر الشارع العراقي الذي دعاه عبد السلام عارف الى مهاجمة قصري الزهور والرحاب وقتل العائلة المالكة! انني ادعو زملائي من المثقفين والمؤرخين الى حالة من الجرأة لمحاكمة يوم 14 جولاي 1958 بمعزل عن العواطف والكليشهات فقد آن الأوان للنظر العلمي دون ان تخيفنا في القول الموضوعي لومة لائم او سخرية متفكه! وتحديد مسؤولية الضباط الاحرار في خراب الوطن والمواطن فضلا عن الحماقات التي مهدت لاحتلال العراق! ليس غريبا ان نقرأ لأنصاف المثقفين عبارات مكررة لايعمل العقل في صياغتها! وقد يكون من نافلة القول ان يوم 14 تموز 1958 انقذني شخصيا من حبل المشنقة بعد اتهامي بمحاولة اغتيال المغفور له الدكتور محمد فاضل الجمالي ( ظلما ومينا ) ولكن النظر الموضوعي ينبغي ان يتجرد من الدوافع الشخصية ورحم الله من قال :
نظرنا بأمر الحاضرين فرابنا فكيف بأمر الغابرين نصدق.


عبد الإله الصائغ – مشيغن
14 جولاي تموز 2005