ما الهدف من أي مناظرة دينية؟ هل هو إثبات أن هذا الدين أو ذاك حق وغيره باطل؟ هل غايتها هي فضح التناقضات والثغرات التي تنال من "قدسية" ذاك الدين الذي يعتنقه الملايين من البشر؟ أم أن المقصد من المناظرة هو إبراز مهارات الإقناع وقدرات النزال الفكري وذلاقة اللسان والألمعية عند المناظر؟ الأهم من كل هذا، هل يعقل أن تترك لشخص واحد مهمة تمثيل دين بأكمله أمام منافس يمثل هو الأخر ديناً مختلفاً بأكمله؟
مرة أخرى، تثار قضية جدوى المناظرات الدينية، فور أن طيرت وكالات الأنباء خبر وفاة الداعية أحمد ديدات، في مدنية ديربان بجنوب أفريقيا، عن عمر ناهز السابعة والثمانين، وبعد صراع مع المرض أقعده عن الحركة والكلام مدة تسع سنوات تقريباً.
وكالعادة، دبجت المقالات، وأفردت الحوارات، وشبت نار المراثي لفقدان هذا العلم الكبير في مجال الدعوة. ومع شدة الانفعال والتأثر لفراق الراحل، ظهرت كتابات أنزلت الداعية، ربما دون قصد أو عن غير وعي، منزلة الصحابة والتابعين وأولياء الله الصالحين.هذه الزلة غير المقصودة في مرثية الراحل تجلب معها، اضطرارياً، ضرورة مراجعة واحدة من القضايا التي تسبب الكثير من المشاحنات والبغضاء بين المختلفين عليها، ألا وهي قضية الحوار مع الأديان الأخرى، وهي قضية فكرية لا تخلو من بعد سياسي خبيث، وتتقاطع معها العديد من القضايا الفرعية الأخرى الشائكة، قد تكون المناظرات الدينية إحداها.
لنتفق، مبدئياً، على أن الرسول الكريم نأى تماماً، في سياق تبليغ رسالته، عن لعبة المناظرات في التحاور مع أصحاب الديانات الأخرى.
صحيح أن كتب السيرة تحدثنا عن أكثر من موقف واجه فيه الرسول (صلي الله عليه وسلم) اليهود، فحاولوا التشكيك في الرسالة التي كلف بها، وعملوا على توريطه، غصباً، في مناظرات، لم يكن المقصود منها إجلاء الحقيقة، قدر إحراج النبي الكريم وإنكار الرسالة عليه، إلا أن سيرته، بشكل عام، لم تحمل أي خبر عن موافقته على الدخول في مناظرة مع أهل الكتاب من اليهود أو النصارى.
الطرف الآخر كان ميالاً لهذا النوع من النزاع السفسطائي، لا لشيء إلا للتشويش على أصحاب الرسالات وتثبيط عزيمتهم.
سألوا الرسول الكريم، تحديداً، عن الروح وعن موعد قيام الساعة، ولننتبه إلى أن موضوع السؤالين يدخلان في علم الغيب الذي لا طاقة لعقل البشر باستيعاب حدود هذا العلم، ما يعني أن القصد من السؤال لم يكن وجه الحقيقة والتبصر؛ وإنما الإحراج والتسفيه والإنكار.
ففي مناظرة السؤال عن الروح، يحدثنا المولى عز وجل قائلاً "يسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" (الإسراء 85).
ويقول الأمام القرطبي في تفسيره للآية الكريمة: "وروى البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله قال: بينا أنا مع النبي صلي الله عليه وسلم في حرث وهو متكئ على عسيب إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. فقال : ما رابكم إليه؟ وقال بعضهم: لا يسابقكم بشيء تكرهونه. فقالوا: سلوه. فسألوه عن الروح، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئاً؛ فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" لفظ البخاري". انتهى كلام الأمام القرطبي.
وفي مناظرة السؤال عن موعد قيام الساعة، يخبرنا المولي عز وجل في كتابه الكريم قائلاً: "يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة. يسئلونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون" (الأعراف، الآية 187).
وفي نفس التفسير، يقول الأمام القرطبي في شأن هذه الآية:" وكانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت نبياً فأخبرنا عن الساعة متى تقوم. وروي أن المشركين قالوا ذلك لفرط الإنكار".
معنى هذا أن الهدف كان إحراج النبي وتسفيه رسالته والحط منها، بتوريطه في مناظرات رأى النبي أنها لا تزيد الحق إحقاقاُ ولا الباطل بطلاناً. لذلك، لم يظهر في سيرة النبي الكريم ما ينبئنا عن قيامه بعقد مناظرات مع أهل الكتاب، يهوداً أو نصارى، رغم أنه الموكل بتبليغ رسالة الإسلام ونشرها. لكنه لم يفعل، ربما لإدراكه أن المناظرات ليست هي الأداة المثلي لدعوة الناس إلى رسالته، وأن الأصح هو، كما قال المولى عز وجل، " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن" (سورة النحل، آية 125)، والمناظرات، على شاكلة التي خاضها الراحل أحمد ديدات، لا حكمة فيها ولا موعظة، ولا تدعو لأي شيء، كما أنها أبعد ما تكون عن الجدال الحسن؛ فمن أين سيأتي الجدال الحسن وفن المناظرة وفلسفتها يعتمدان أساساً على مواضيع دقيقة تدخل في صلب العقيدة، وتوغر صدر منْ لا يقدر على الدفاع عن نقائص ومتناقضات وأباطيل عقيدته، ناهيك عن إقناع الآخرين بسلامة أفكار ها وعقلانيتها.
وقد تناول إمام الحرمين الجويني، في مصنفه "الكافية في الجدل"، مسألة المناظرات وشرعيتها ومدى نفعها، أو بالأجدى حجم ضررها ومحدودية تأثيرها في مجال الدعوة إلى الإسلام، فبدأ بإيراد العديد من التعريفات لكلمات الجدل والجدال والمناظرة، وانتهي إلى أنه لا فرق يذكر بين هذه الكلمات الثلاثة، ووضع تعريفا دقيقا للجدل على أنه "إظهار المتنازعَيْن مقتضى نَظْرَتِهما على التدافع والتنافي بالعبارة أو ما يقوم مقامها من الإشارة والدلالة"، ثم أشار إلى أنه لا فرق بين الجدل والجدال والمناظرة، وأن الأخيرة "مختصة بتراجع الكلام مع خصم لا يرى رأيك على سبيل إثبات صواب قولك وبطلان قوله فيكون المراد منها الظهور والغلبة، ولا يبحث فيها فيما إذا كان قوله صواب أم فيه شيء من الصواب ليتبعه المناظر، وإنما كل طرف من أطراف المناظرة يبتغي العلو على مناظريه بالحجة، ويريد أن يقطع حجج خصومه".
معنى الكلام أن الغاية الحقيقية، المستترة، المقصودة من وراء المناظرات الدينية ليس إبراز الصواب لدى طرف حتى يتبعه الطرف الآخر، وإنما ابتغاء العلو والغلبة، وهذا الأمر يبعد الداعية، أي داعية، عن المهمة الأساسية التي من المفترض أن يكرس لها جل مهاراته ومؤهلاته وقدراته.
ثم ما كل هذا العدد من المناظرات التي خاضها الراحل أحمد ديدات؟
فأكثر الكتابات التي تناولت بالتفصيل سيرته الذاتية تخبرنا بأن حصيلة مناظراته قاربت 235 مناظرة، بعضها دفع إليها دفعاً، وأكثرها تمت باتفاق بينه وبين أسماء كبيرة في عالم اللاهوت المسيحي من قساوسة ومبشرين، من أمثال القس جيمي سوجارات وأنيس شروش وعالم اللاهوت البريطاني الشهير فلويد إيجلارك. وتركزت أكثر مواضيع تلك المناظرات على صلب الأفكار والمبادئ التي تقوم عليها الديانة المسيحية، وأبرزها تأليه السيد المسيح و قدسية الكتاب المقدس (بحثت كي أعرف إن كان الفقيد قد دخل في مناظرة مع أي حبر أو كاهن يهودي أم لا؛ ولم أصل إلى نتيجة قاطعة!).
إن طبيعة المواضيع التي دارت حولها مناظرات أحمد ديدات، فضلاً عن ظروف عقدها، والمناخ العام الذي كانت تعقد في أجواءها، وطبيعة الجمهور الذي كان يحرص على متابعتها، إما حضوراً في وقت عقدها، أو بمشاهدتها على أشرطة الفيديو، كل هذه المعطيات تفرض علامات استفهام محرجة حول طبيعة وحقيقة الدور الذي مارسه أحمد ديدات على مدار تاريخه الدعوى، وحول إسهام مناظراته في نشر الإسلام، مع أسئلة أكثر تعقيداً حول مسألة الحوار بين الأديان، ودوره في هذا الحوار إن كان له دور من الأصل.
إن الأسئلة المعقدة التي لم يعالجها أحد حتى الآن بموضوعية وحيادية في قضية الحوار مع الأديان الأخرى لكثيرة وتاريخية:كيف تمكن إقامة حوار بين دينين مختلفين؟ هل يجب أن ينتهي الحوار بإثبات حقيقة أنك على خطأ وأنا على صواب، وبالتالي عليك أن تذعن وتخضع وتدخل تحت عباءتي؟ هل وظيفة الحوار هي وأد وتفريغ كل فرص الصراع والصدام المحتملة، أم أنه يؤسس لاستقطاب واستلاب الطرف المنهزم وطمس هويته في جدلية الحوار؟
في كتاب "مناظرة العصر بين العلامة أحمد ديدات والقس الدكتور أنيس شروش"، يصف لنا المترجم على الجوهري الذي كلف نفسه عناء ترجمة المناظرة وضمها بين دفتي كتاب، يصف الطريقة التي تم بها الاتفاق على البادئ بالكلام في المناظرة، وهي طريقة تفصح عن دلالات عميقة، أبسطها أن المناظرة، وخاصة من تلك النوعية التي خاضها ديدات، ما هي إلا "مباراة" بين لاعبين، لابد أن يتفوق إحداهما على الآخر في ركل "الكرة" وتسديدها في مرمى الآخر، حتى وإن كانت هذه الكرة هي الدين بذاته.
ترجم على الجوهري قائلاً :
"وفي يوم 14 من أغسطس 1985، كان الدكتور "شروش" قد أرسل إلى العلامة ديدات برقية يخطره فيها أنه يفضل – مادامت له ميزة اختيار الموضوع- أن يكون موضوع المحاضرة هو "هل عيسى هو ابن الله حقاً؟"، كما اقترح أن يكون هو أول المتحدثين لمدة خمسين دقيقة. ويدلي العلامة ديدات بآرائه في الموضوع لمدة ستين دقيقة. ويحظى الدكتور شروش بعشر دقائق أخيرة تكملة لساعته. وكان التحايل واضحاً في هذا الاقتراح فيما يتعلق بكيفية إجراء المناظرة. وحتى يوم 15 ديسمبر 1985، وقبل بدء المناظرة بوقت قليل، لم يكن قد تم الاتفاق على كيفية إجرائها. وأخيراً، وقبل إجراء المناظرة مباشرة، وافق الدكتور شروش على النظام التالي للمناظرة:
خمسون دقيقة للمتحدث الأول
خمسون دقيقة للمتحدث الثاني
ثماني دقائق للمتحدث الأول
ثماني دقائق للمتحدث الثاني
ووعد العلامة ديدات بأنه يوافق على أي نظام يقترحه الدكتور شروش تاركاً كل شيء لله ولما تقضى به القرعة التي تستخدم لإجرائها "قطعة معدنية"". انتهت ترجمة الجوهري.
هكذا..."بعملة معدنية" تضرب بالأنامل في الهواء، يتم تحديد البادئ بالكلام في أمور حساسة تتعلق بالعقائد والأديان. ومن المفترض أن تنتهي هذه المباراة، التي بدأت بعملة معدنية مضروبة بالأنامل في الهواء، بغلبة طرف على طرف آخر، أو من المفترض أنها توطئة لحوار راق بين دينين سماويين!




التعليقات