لماذا يرتمي في أحضان جدته؟
لم يحصل لي الشرف وأنا الذي تشرفت بمخالطة الألمان ومقاسمتهم رغيف الخبز منذ عقد ونيف أن رأيت من هذا الشعب العريق والمعتد بأصوله وتفوقه العلمي والتقني عموما حرجا أو قلقا من وجود مقيمين أجانب على أراضيه يحترمون القانون ويتعايشون معه في كنف الأمن والطمأنينة،ولكن الذي حصل صراحة هو ان التوظيف الاعلامي المغرض لجملة من الأحداث الاجرامية الأليمة والتي كانت أمريكا الدولة الأعظم مسرحا لها أو بعض دول الجوار الأوربي هو الذي دفع بكثير من الدوائر الاعلامية أو السياسية لتسليط الأضواء على حياة حوالي ثلاثة ملايين ونصف على الأقل من المسلمين يعيشون فوق أرضه وبين حدوده.
لم يكن الزواج المختلط بين ألمان وعرب ومسلمين يثير على الاطلاق حفيظة أبناء هذا المجتمع،ولعل ماتناقلته بعض وسائل الاعلام التونسية الرسمية أو المعارضة من قصة زواج نادر الحصول الم أقل لم يحدث فيما سبق لي من علم منذ ان عايشت حياة أهل هذه البلاد الأصليين،كان صراحة من باب الرغبة في الاثارة الاعلامية التي يقصد منها الترويج للصحف الرسمية الكاسدة في سوق اشتدت فيه المنافسة اللاأخلاقية في زمن مزاحمة الفضائيات وشبكة الانترنيت وغياب حرية الاعلام الجادة.
الحديث عن شاب تونسي في أواسط العقد الثاني أراد الاقتران مع عجوز ألمانية بلغت من العمر الثلاثة وثمانين سنة،لا أظنه حدثا يثير اهتمام الألمان وهو ليس بخبر يمكن أن يتصدر اطلاقا صحفهم الجادة،وباستثناء صحيفة واحدة تنتمي الى عالم صحافة الاثارة وهي صحيفة البيلد تسايتونغ فان بقية الصحف التي عرفت بسمعتها العالمية لايمكن أن تجعل من هذا الخبر موضوعا رئيسيا يتطرق اليه اعلامها
ولايغيب عني وأنا أتحدث عن الصحافة الألمانية والاعلام المتطور في متابعة الخبر السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي ورصده وتحليله في كثير من الموضوعية،أن أنوه الى أن الخريطة السياسية عموما وفيما عدى الحزب الديمقراطي المسيحي لايمكن أن تجعل من هذه القصة الاجتماعية النادرة جدا حدثا ترتكز عليه في موضوع اسناد الاقامات أو رخص الضيافة،اذ أن السياسة في ألمانيا هذا البلد العملاق تحدد معالمها توازنات دولية استراتيجية ومراكز بحوث متخصصة ورأي عام يأخذ بعين الاعتبار عند الاستحقاقات الانتخابية الكبرى.
وبناء عليه أعود بالموضوع لأحلله في سياق دلالاته الاجتماعية والسياسية التونسية حيث يكمن الخلل فيمن ضخم الحدث وأراد أن يجعل منه مربطا للفرسان.
أولا هناك دلالة اجتماعية واقتصادية واضحة لمثل هذا الخبر،حيث أن تفشي ظاهرة الفقر والحاجة والخصاصة والعطالة وضيق الأفق الاجتماعي هو الذي يدفع شباب تونس الى التسكع على شواطئ تونس قصد التعلق بأي امراة أوربية تحمله الى الضفة الأخرى من المتوسط.
تعلق شباب تونس بأهداب الأوربيات في المراقص والفنادق والحانات هو ادانة للسياسات الاجتماعية والاقتصادية التي أقدمت عليها السلطة منذ زمن طويل، ومثل هذه السياسات أدت بشباب تونس الى الاقبال على زوارق وقوارب الموت،وما قبورهم التي تعد بالمئات والالاف في جزيرة لامبدوزا الايطالية الا خير شاهد على ذلك.
اليوم وقد شهد موضوع الهجرة السرية تنسيقا أمنيا مشتركا بين ضفتي المتوسط لم يعد أمام شباب المنطقة التي تعثرت سياساتها الاجتماعية والاقتصادية،الا أن يتعلق باهداب الحلول البديلة حتى ولو كانت من قبيل المحرمات الأخلاقية والاجتماعية كحال صاحبنا المسكين والذي شهر به حتى أخاله لعن اليوم والمكان والزمان الذي عرف فيه هذه الألمانية.
ثانيا ان تضخيم هذه الأحداث وجعلها مفتاحا لترويج الصحافة البائرة،من شأنه أن يكشف عمق أزمة الاعلام في أوساطنا التونسية،وانني أهيب بهذه الأقلام التي تصدت للموضوع في انتهازية غير مقبولة ومحمودة،أن تجرئ أقلامها وأذهانها على التعاطي مع الأسباب الحقيقية لمثل هذه الظواهر الشاذة والتي لايقاس عليها،اذ أنه لو كان الوطن فسيحا لمواطنيه وموفرا لحاجاتهم الأساسية وملبيا لطموحاتهم المشروعة لما أقدم هذا الشاب أو غيره من شباب تونس على أن يرمي بنفسه في أحضان المذلة والمهانة أو أقول أحيانا في أحضان مستقبل مجهول العواقب والمناكب.
ان التعاطي الاعلامي مع القضايا الاجتماعية الحساسة لابد أن يلامس أعماق المكبوت السياسي والاعلامي والثقافي والنفسي،حيث يسود المواطن شعور باليأس والاكتئاب والهزيمة لا تجد له جوابا الا في كثير من الظواهر الاجتماعية الشاذة وعلى هذا فلنقس ظواهر انتشار تعاطي المخدرات والاقبال على الكحوليات وتفشي ظاهرة السرقة والجريمة والاغتصاب والرذيلة في صفوف القاصرات،حيث لم يتعد دور اعلامنا مستوى الاخبار والتشهير والاثارة قصد ترفيع حجم المبيعات.
أما عن الحلول العميقة والتي تقدم بلسما لجراحات هذا الشباب المحبط واليائس فلا مجال للحديث عنها،ولعل ماتقدمه قناة تونس سبعة بهذا الصدد ظل مبتورا ومنقوصا لأنه لم يلامس المكبوت الجنسي والسياسي والديني في واقع مجتمعنا التونسي، حيث اقتصرت ندوات quot;المنظارquot; أو برنامج quot;قضايا ومجتمعquot; على تقديم الرؤى النفسية وعلم الاجتماعية دون أن يعطى للفضيلة والأخلاق والدين السمح ورجال السياسة المسؤولين عن هذه الظواهر بطريقة أو بأخرى مساحة لمعالجة هذه القضايا في بعدها التربوي والأخلاقي والاقتصادي والثقافي العميق،واذا حصل واستدعي لذلك رجال سياسة او أنصافهم أو أشباههم فان المناقشة تتحول الى فولكلور يهمش قضايا الوطن الحقيقية.
وعندئذ لم يبق لي الا أن أصرخ ومن ورائي مثل هذا الشاب وكل شباب تونس الذين تقطعت بهم السبل بعد أن ضاق عليهم الوطن بما رحب:ارحموا شباب تونس،ارحموا شباب تونس،ارحموا شباب تونس وكفى متاجرة بماسي الاخرين وقدموا حلولا جذرية وعملية للعاطلين والمحرومين والبالغين واليائسين وكل ابن سبيل لم ير في أرضه ووطنه مراغما وسعة.
مرسل الكسيبي
اعلامي وكاتب مستقل
[email protected]
3-01-2006
3 ذو الحجة 1426 هجري
- آخر تحديث :
التعليقات