كتب جودت سعيد وخالص جلبي حول هذا الموضوع ما يجعل ما سأكتبه تقليدا، وقلة علم.
لكن لا بأس، فأنا أريد فقط أن أحدثكم عن الإكراه الذي نتعرض له يوميا في عالمنا الإسلامي الواسع جدا، والذي لا يسعنا رغم ذلك. فرُحنا نبحث عن جنات الخلد في منهاتن ومونتريال، تاركين القبيلة والحارة لأصحاب الشوارب الطويلة يربون الأطفال بالعصا، ويكيلون اللكمات للنساء وضعاف الشباب.
ما هو حجم الإكراه الذي أتحمله؟ وما أنا حر في فعله؟ هذا فقط ما أريد أن أعرفه.
لقد أسقط القرآن الإكراه في الدين، بعد أن أسقط كل أنواع الإكراه الأخرى، ابتداء بالإكراه الثقافي؛ ففكك الرسول عليه السلام البنية الثقافية للعرب، وأسقط الإكراه السياسي والاقتصادي، فأعاد للمسلمين أموالهم، ووضعها في بيت المال، وجعل الأمر بينهم شورى، وحطم الأصنام السياسية، وأسس لمنطق العدالة وكيف يجب أن يعطى الحق لأهله ولو لم يكونوا من نفس الدين، فأقسط اليهود والنصارى، وفتح البيت في وجه المؤمنين، ودشن عهد الرشد، وولى بذلك زمن القهر إلى غير رجعة، لكن البعض يريد أن يعيشها رومانية/بيزنطية لا مسلمة، فانقلبت الآية وبدأنا نكتب تاريخنا بالدماء والشنق، واغتيلت رسالة النبي برسالة الحكام الملوك، وكتب ابن المقفع رسالة الصحابة في عهد ليس فيه صحابة.
ومنذ ذلك الزمان يعيش المسلم هائما، مكبا على وجهه، لا يمشي سويا، ولا على صراط مستقيم.
ففقد الشباب قدرته، وفقد إرادته، بآراء فقهية تمسكه من العقل، ولا تترك له حق السؤال، وراء يقينيات قطعية تصور العالم وفق تفسير يوناني قديم، حركه المسلمون نحو الأمام شيئا ما، دون أن يتموا الفهم، ولا أن يكملوه، وأتى الغربيون من ورائهم بعلوم شتى، تفسر ما لم يفسَّر، وتدحض ما نعتبره من يقينيات العلم، فأُعيد تأسيس العالم، لكننا لا نسمع ولا نرى. وفي أواخر القرن العشرين قررنا فجأة أن تكون مساهمتنا عن طريق تفجير العالم لا فهمه.
في عالم يسير هكذا، لا نكون مخيرين سوى بين الطاعة والتبعية، أو الموت صمتا.
ولكن لا بد أن ينكسر نسق الإكراه، وأن نعيد طرح أسئلتنا القديمة بمرارة التأخر، ومرارة غياب الأجوبة.
نحن نعيش في عالم يزداد اتساعا، ولكن هل يتوسع عقلنا بالقدر الكافي لاستيعاب إضافات العالم الحديث؟
نعيش في عالم يسير نحو الرشد، يختصره القرآن (لقد تبين الرشد من الغي)، ولكن هل تستجيب مداركنا لنداء العصر؟
يقول جودت سعيد، الغي من الشيطان، وقد قال القرآن ذلك من قبله، ولكن لا أحد انتبه لكلمة الله، ولا لصوت آدمي.
فاتسعت دوائر الإكراه في خمسة محاور، إكراه السياسة، والدين، والمال، والثقافة، والأقارب.
فلا يحق لك أن تنتقد سياسيا، ولا أن تقول أف من الطغيان، ولا أن تتحدث حتى عن جرائم تاريخية ارتكبها السلاطين، بدعوى الحفاظ على نقاوة العصر الذهبي الذي شيدت فيه الجوامع الكبيرة، وأيضا لأن سلالة السلاطين ما تزال حاكمة.
أما الدين، فهو قطعي، ولا يقبل اختلاف في الرأي حول مسألة أو واقعة، بواسطة فقهاء يحرسون شريعة كتبها أيضا بعض فقهاء السلطة، فالدين إلهي المصدر، وتفسيراتنا له قصد إلهي حقيقي، ولا مجال لنقد حتى أعمالنا البشرية الفانية.
واختلطت المعرفة الدينية والثقافة بالدين، فتدين الناس بالثقافة، وأصبح الله في صورة أخرى، ودافع العباد عن الثقافة بالسيف، وخلقوا ديانة جديدة من أهم مبادئها: أننا نحب أنفسنا حد الموت، ولا يحق النقد لأحد، ولو كان نقدا ذاتيا، في مؤشر خطير على أننا بعنا أنفسنا للشيطان، مكرسين حب الذات، وتنزيهها عن الخطأ، وادعاء العصمة مثل كنيسة القرون الوسطى والحديثة أيضا.
والمال؛ منذ أن تهدم بيت مال المسلمين، لم يعد لنا مال، وكثر اللصوص والشحاذون والفقراء، واختفت الزكاة أحد أعظم الأعمال التي سنها النبي عليه السلام فجأة، دون أن يسأل أحد سلطة ما عن المكان الذي تذهب إليه أموال المسلمين.
لقد باع المسلم نفسه للمال؛ فإما ملكه المال فأصبح عبدا مملوكا، أو ملك المال من دون تقوى فأصبح مشتريا متواطئا مع السلطة، يشتري العبيد.
والمال لعنة أبدية تلاحق المؤمنين، وصاحب المال يشتري الدين بماله في غالب الأحوال.
وإكراه الثقافة أعم، فلا يحق لك أن تتزوج إلا بالطريقة نفسها، وبالطقوس المعروفة، وعليك أن تصلي بأيدي مبسوطة في أرض، ومرة بالقبض في أرض أخرى، وعليك تقصير الثياب، وإعفاء اللحية وفق معايير محددة، يفرضها زمن لا نعيشه.
فصديقي حرم من الزواج من فرنسية مسلمة بضغط الآباء، والأصدقاء، والثقافة، وانقضى حب دام شهرين، أهديت فيه كتب رائعة، مثل الأمير الصغير لأنطوان دو سانت إكسوبري، والوليمة والجمهورية لأفلاطون، وهكذا تكلم زرادشت لفردريك نيتشه، وأوديب الملك لسوفوكليس، والمنقذ من الضلال للغزالي، في واقعة مفجعة، لعلاقة قائمة على الحب والمعرفة شجعتها بقوة.
لكن للأسف انتهت هذه العلاقة، وكانت سببا دفعني أكتب عن الإكراه حينما يكون بشعا، وحينما لا نملك حولا أو قوة تجاه ظروف سياسية، ودينية، ومالية، وثقافية، واجتماعية، تهدم كل بناء طيب.
ومن اليوم الذي قرأت فيه ما خطته أنامل دعاة العلم واللاعنف؛ جودت سعيد وخالص جلبي، وأنا أتأمل حركة التاريخ تحت عامل الإكراه، فالبشرية وطوال مسيرتها التاريخية لم تتمكن من فعل ما تراه مناسبا إلا في فترات قليله، وأزمنة مشهودة، حددت مصير التاريخ، ولو لم تكن تلك الفلتات لعشنا عصور الظلام إلى الأبد، ولكن منح السماء أكبر من وجودنا، والأنبياء أنعموا علينا بالنور، الذي نفسده بأعمال الشيطان.
الإكراه عتبة أمامنا، من فضلكم لا تكرهوا أحدا على إيمان، أو حب، أو فكرة، أتركوا الناس أحرارا، أتركوهم يتحملون مسؤولياتهم في تحديد مصيرهم.
لقد انقضى عهد الإكراه، من فظلكم أيها الناس لا تشيعوا جو الغي، لا تزرعوا الشك من وراء إيماننا، لا تتركوننا ننتقم منكم حينما تكونوا ضعافا.
نريد إيمانا قويا، لا إيمان الغدر، نريد أن نتحرر أكثر، نريد أن نكتب فكر الأنوار، لا ظلام الثقافة الزائفة.
أتركوا الشباب يسأل، لا تقمعوا أسئلته، أتركوه ينتقد ويتمرد، فهذا الزمن لم يعد يتحمل الإكراه، لا تجعلوا تاريخنا مكتوبا بطريقة سيئة. من فظلكم أيها الناس كونوا راشدين، لا تكونوا من أتباع ثراسيماخس استمعوا قليلا للسيد سقراط، انشروا العدل بين الناس.
استمعوا لعبد الرحمن الكواكبي قائلا في مطلع القرن العشرين أن: المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلها.
لا تكونوا مستبدين حد البشاعة.

رشيد أوراز
[email protected]