بعد أن أدى المواطن العراقي المنتمي إلى الطائفة (م)، عملا يكلف مبلغا كبيرا لأحد المتعاملين معه مـــن الطائفة (ن)، حدث ما حدث، ولم يؤد (النوني) حق (الميمي) من دون أن ينكر حقه، ولكنه خشي على نفسه من الحضور إلى محل إقامته ومعه المبلغ، مثلما خشي (الميمي) الذهاب إلى مكان العمل الذي كان آمنا حين قام به لصاحبه (النوني)، كما لم يكلف أحد منهم أحدا آخر إما خوفا عليه أو منه أو على المال الذي بحوزته حتى يعيده، فقرر الاثنان الذهاب إلى عمان عاصمة الأردن ليستوفي كل ذي حق حقه.
(حادثة حقيقية مرمزة)

قد يبدو هذا التساؤل مقلوبا لدى معارضي الفيدرالية، الذين يظنون أنها هي التي ستؤدي إلى تقسيم العراق، سواء منهم من كان على وعي بالمعارضة أم لأغراض توجهها الانتماءات، أم كان متخوفا من نتائجها على وحدة الوطن وسلامته، من الذين يقيسون موقفهم بما امتلكوه من خبرة في الماضي أو الحاضر، أم ممن استسلموا لموجة الرهاب التي تنشرها بعض الأطراف، وتساعد الظروف الصعبة التي أعقبت الاحتلال وسقوط النظام، على أذكاء أثرها. ويبدو أن الرهاب الذي رافق الداعين إلى تكريس الفيدرالية أن يحاولوا ـ من دون جدوى ـ الابتعاد عن الحساسية التي باتت تثيرها هذه الكلمة / المصطلح، فتارة يعبر مريدوها عنها بالاتحادية أو قانون الأقاليم الذي طرح في الدستور وفي مجلس النواب مؤخرا، وأقر على مضض ومعارضة لم تنتهي آثارها ولن تنتهي بسهولة على الرغم من إقرارها من هذا المجلس.


ونعود إلى تساؤلنا الرئيس لنحاول من وجهة نظر صريحة، أن نفكر بهدوء وموضوعية، من دون حماسة أو عاطفية مبالغ في إظهارها، كيف يمكن للفيدرالية أن تحفظ وحدة العراق وتدفع عنه شر التقسيم ؟ ولن أسوق هنا حجج السياسيين ـ الموالين للفيدرالية ـ التي تتناول التجارب الناجحة عالميا دليلا على الخير الذي تحققه الفيدرالية، ولا حجج ـ المعارضين ـ التي تحاول إبطال هذه الحجج، لأن ذلك وإن كانت له وجاهته، في المقايسة على التجارب الناجحة، يبقى أنموذجا خارجيا وعاما، قد لا ينطبق على الوضع العراقي، إذ أن ما حدث في العراق، أوجد ظرفا مغايرا، باستثناء إقليم كردستان، الذي فرض كواقع حال له مسوغاته التاريخية وخصوصية الانتماء وظرفيته الضاغطة باتجاه الإجماع على القبول بها، على ما هي عليه من دون زيادة، وهو ما لا يناسب العراقيين من أهل هذا الإقليم.


أن واقعا جديدا أفرزته السنوات التي أعقبت تهشم القبضة الحديدية التي كان النظام السابق ـ على ضعفه العام ـ يفرض بها وحدة العراق ومركزية حكمه، خارج محافظات إقليم كردستان في التسعينيات، فقد أخذ الانقسام يظهر شيئا فشيئا، سواء أكان بدافع خارجي إقليمي تنفذ إرادته أذرع متعددة من خارج العراق وداخله، ممن فقدوا امتيازاتهم التي وفرها النظام لهم أو الذين وجدوا في سقوطه فرصة للبروز، وتنفيذ ما كان صعبا في أيامه. لقد بدت جماعات من مكون طائفي تحارب الوجود الاجتماعي لمكون آخر، لمجرد أن ذلك المكون قد بدأ يأخذ شيئا من حقه الطبيعي سياسيا واقتصاديا، تناسبا مع حجمه التمثيلي في المواطنة من حيث الكم والكفاءة بالطبع لا من حيث النوع، وبدأ شبح الأكثرية يقض المضاجع، وأصبح الظرف الذي أنتج ثقافة الحرية في الطرح الضرب على وتر ضياع الحقوق ومن قام به، وهم الأمريكيون مستهدفون، وصارت التصفيات العشوائية والانتقائية تحدث لطرف الأكثرية، بحجة التعاون مع المحتل،والمعرقل للمقاومة فوجب تصفية أفراده (هل هو حلم المعادلة العددية، عن طريق إنقاص العدد، قتلا وتشريدا، كان مخبوءا في هذه الممارسات؟!!)، على الرغم من أن قطاعا ليس بالهين الحضور والعدد أسهم في مقاومة المحتل من خلال الصدام وفضل الآخرون المقاومة السلمية للاحتلال، وحدثت موجات التهجير وعمليات التصفية العرقية/ المذهبية، وقطع الطرق على المسافرين تضغط ومهاجمة مقدسات الآخر، باتجاه التصعيد وكانت التهدئة هي ديدن المرجعيات الدينية التي تخشى الفتنة، والمرجعيات السياسية التي تخشى ضياع المكاسب، أيامها لم تكن ثمة، مرجعيات دينية من الطرف الآخر تخشى الفتنة، مثلما كان الأمر قبل تشكيل مجلس الحكم على أساس المحاصصة القومية والطائفية، لأنها مشغولة بالرغبة في جعل البلد جحيما على المحتلين ومن لا يقاتلهم !! ولم تكن مستعدة لسماع استغاثة من يطلبها من الطرف المقابل، كما لم تكن مستعدة لتصديق الوعيد الذي يطلق بين آونة وأخرى يحذر من رد الفعل ويومها لم تكن هناك طبقة أو مرجعيات سياسية، غير محسوبة على النظام المخلوع، يمكن أن تؤثر وتؤمن بالحلول السياسية للإشكالات ـ وربما حتى الآن مع الأسف ـ حتى حدث الانفجار الذي يؤرخ لما قبله وما بعده ويصدق عليه استعارة حدث 11أيلول العراق، لقد ضرب رأس العقيدة، وفجر المغالون في إذكاء نار الحرب الطائفية ضريح الإمامين الهادي العسكري (ع) في سامراء، بشكل مؤلم متغلغل الأثر في العمق فلم يكن لصوت العقل أو الحكمة أو حتى الحرص أي حضور في رد فعل لم يميز بين الفاعل والراضي أو حتى المستنكر على استحياء أو مداراة ( تلك اختلافات عقائدية وفكرية وعاطفية لا تحل بسهولة )، وعند ذلك صار ما يدعى يتوازن الرعب، وأخذ اليائسون من تدخل الأمريكان أو الأمن المنتظر الذي تعد به الحكومة يحطمون كل عائق يحول دون رد الفعل، وأصبح القتل على الهوية لعبة أو لعنة تؤديها كل الأطراف بعد أن كانت من طرف واحد، وهنا دخلت الأطراف السياسية في لعبة الصراع السري والتوافق العلني. حتى أن المبادرة الأخيرة ـ ولاسيما وثيقة رمضان ـ التي أكد بها رئيس الوزراء نوري المالكي دعوته لتفعيل مشروع المصالحة، كشفت بوضوح عن الصراع الحقيقي بين الداخلين في العملية السياسية، فكيف بمن هم خارجها؟!


بإزاء ذلك كله هل ثمة دلائل أكثر على التقسيم الذي يمر به البلد حين يكون كل فعل من طرف له ما يحمله على المحمل السيئ من الطرف الآخر، وصارت الانتماءات للخارج أو لاتهام بها تفوق بكثير الانتماء إلى هذا الوطن، وقد انشقت وحدة أبنائه اجتماعيا وتصدعت بناه الهشة الالتحام على ما يبدو وكانت أسرة كل استفزاز مهما صغر شأنه. أما علاما ت التقسيم فيمكن إجمالها في :
نفسيا : حيث لم تعد هنالك براءة من التعامل مع الآخر المختلف مذهبيا، مهما تظاهر المتعامل مع مَن يعرف انتماؤه، وأصبح كل فعل ورد فعل محسوبا على وفق حسابات خاصة لا يبرأ الآخر من الاتهام، التعامل مع من لا يعرف.


اجتماعيا : حيث أصبحت العلاقات أو الصلات ودرجة عمقها ونوع المقاربة المبنية على وفقها مقيسة بالانتماء إلى هذا المذهب أو ذاك، أو هذه القومية أو تلك في مناطق الصراع القومي، ولاسيما في العلاقات الحديثة أما العلاقات القديمة فقد أصبحت وزرا على من يريد إدامتها، من هذا الطرف أو ذاك وعلاقات المصاهرة دليل على ذلك، فضلا عن علاقة التعايش والجوار الذي تؤكد الإحصائيات تزايدها، وتعاظم حجمها.
اقتصاديا: مع أن المصلحة لا تعتمد القرابة في الصلة لدى المحترفين من أصحابها، وعلى الرغم من أن المال لا انتماء له ما دام يحقق الربح ويتزايد، فقد أصبح التعامل الحر مع الآخر محكوما بالمحيط الذي يعرقل ذلك ودخل عامل فقدان الثقة لاعبا رئيسا في هذه المعادلة، مما وجه ضربة قاسية لأعمال المال والتجارة، فضلا عن الصناعة التي تعطل سيرها إما بسبب الأعمال المعادية المخربة أو بسبب حرمان الكوادر المنتمية إلى طائفة ما من العمل في أماكن ذات أغلبية من الطائفة الأخرى.


سياسيا : وفي هذا المجال تتجلى التصدعات لا في الاتهامات في كل عمل وكل نية وكل طرح قابل للاختلاف بل حتى في الأمور الواجب الاتفاق بشأنها، إذ لا تريد كل فرقة أن يكون غير سباقا في البدء بما يحقق الفائدة لذا يصار إلى كبحه وعرقله، على الرغم من إظهار التوافق في العلن أو حتى في الجلسات الخاصة التي تنقلب إلى عداوة أمام الإعلام مما يشدد من التأزيم بين طبقات الشعب المختلفة، وكأن لا وجود للذات إلا باتهام الآخر والوقوف ضد ما يأتي به وإن كان في مصلحة الجميع، بالطبع أن هذا الأمر مختلف من حيث النسبة والدرجة بين طرف وآخر، بحسب درجة التوتر التي توجه عمل كل طرف.


إداريا ووظيفيا : عملت التوافقات في كثر من المؤسسات على أن لا ينفرد طرف بالإدارة من دون وجود ممثل عن الطرف الآخر، مما أسهم في عرقلة الكثير من الأعمال، في الوظائف الإدارات غير المتوافقة، وإن وجدت نماذج من رجال الدولة الوطنيين الذين يقدمون المصلحة الوطنية على الانتماء الجزئي، ومع ذلك فلا عدم الميل من هذا الطرف أو ذاك إلى مكونه وإلا اتهم بالخيانة من حاضنته، أما ف المحافظات والأقاليم (المطأفنة) أو (المقومنة) فلا يمكن أن يمارس أي دي عمل عمله وهو غريب عن الموضع الذي يعمل فيه، وهنا استعمل الأقاليم لأشمل المتحقق رسميا منها أو غير المتحقق رسميا ولكنه موجود عمليا، ويظهر ذلك جلا في الأعمال الأمنية والعسكرية.


ما ورد فيما مر وغيره من المجالات، لا يمثل حالا مطلقة فثمة علامات مهمة على وجود الشعور الوطني والرغبة الصادقة في خير الشعب كله والوطن بكامل انتماءاته موجودة في كل الأطراف لكنها لا يمكن أن تلغي الآثار التي يفرزها التصدع الآخذ بالتصاعد، ولا ننسى أن ممارسة القوة الغالبة (الراعية لعملية التغيير) التي تحاول أن تسوء الأمور، فتدعم هذا الطرف تارة وتشجه ذلك الطرف تارة أخرى عامل مهم في تأكيد الانقسامات.
أمام هذه التحديات والحقائق المرة، ومضاعفة عامل فقدان الثقة من الجميع ألا يمهد ذلك لانقسام العراق ولكن بطرق مسكوت عنها، أو غير متحققة رسميا؟ ثم ألا يمكن أن تعيد الفيدرالية إذا ما توافرت على ضمانات وطنية، يلتزم الجميع بها ويثقف المواطن بفضائلها اتقاءً لشرور الصدام المستمر،الوحدة المقودة بزوال عامل الاحتكاك المثير للحساسية؟ ويمكن عندئذ أن تنجو البلاد العباد من شر الانقسام والصراع المرير المستمر إلى أزمان لا حد لأمدها، ثم دعونا نتساءل بصراحة، ماذا فعل الداعون إلى الوحدة وعدم تجزئة البلد إلى أقاليم وفيدراليات من مبادرات تقنع المواطن من غير المنتمين إليهم بأن استبعاد الحل الفيدرالي، هو الضمان لحياته ومستقبله، في وقت يسعى كل مواطن أن يعمل بعيدا عن منطقة الآخر، قريبا من حمى أهله! ولو بضع كيلومترات لينعم بالطمأنينة، وكأننا نستعيد عصر داحس والغبراء، وحرب البسوس ؟ وثمة تساؤل لمن تعترضون على التوقيت، هل يمكن أن تعطون زمنا محددا لوقف نزيف العراقيين، إنكم من وراء تحصينات حماياتكم، أو من عواصم الخارج، حيث الاسترخاء والطمأنينة، لا تعدون الوقت بالجثث والانفجارات، فكيف يمكنكم أن تحسوا بالزمن الراقي الغالي هذه الأيام؟

د. فائز الشرع