قد تبرز بعض المشكلات أو القضايا الشائكة مع العلمانيين والسياسيين الأحرار في مواقفهم أو نهجهم حيال التيار الطائفي الجارف سنياً,أو شيعياً، لكنها قابلة للنقاش معهم وللتغير والتطوير من قبل الجميع لما فيه مصلحة الهوية العراقية والإنسانية لكن القضية الطائفية ظلت ولحقب طويلة غير قابلة للنقاش أو التغيير مع المتدينين سياسياً فهي عندهم محسومة معمدة بالدم، لها مرتبة الألوهية والغريب أنها متخفية وراء شعار معاداة الطائفية وتعني بذلك هي تحريم المس بطائفيتها لا طائفتها! متهمة كل من يناقش هذه القضية المحرمة بالطائفية والاصطفاف مع الأعداء والظالمين والكفار!

ورغم الغلواء الطائفية والصخب المتصاعد من الضفتين يمكن ملاحظة أن ثمة رجال دين وقادة لدى الطائفة الشيعية والسنية يحاولون الإفلات من الشرك الطائفي وقد أخذت لغتهم تقترب بشكل واضح من لغة العصر فهم يصرحون علناً بعدم سعيهم لإقامة الدولة الدينية أو الطائفية، وأضحوا أكثر انفتاحاً على بعضهم (بجلوسهم معاً في لجنة صياغة الدستور رغم مجيئه دستورا متخلفاً كثيراً حتى عن القانون المؤقت لإدارة الدولة ) وانفتاحهم على العالم السياسي والثقافي العراقي ( بظهورهم في ندوات تلفزيونية وصحفية وجماهيرية واستعدادهم للإجابة على أسئلة صريحة وملتاعة رغم إن الكثير من إجاباتهم ما زالت غير مقنعة) ( أو حديثهم الساخن عن المصالحة الوطنية ) كل ذلك يفتح بوابة نور لتفاعل أعمق بينهما قد يساعد في حل الخلافات السياسية والمذهبية بين الطائفتين حول نظرتهم لشكل الحكم وأحكامه وطرائق ممارسته وأسلوب تعاملهم مع المجتمع.ومع هذا فثمة مخاوف من أن لا يكون توحدهما من أجل تحقيق نقلة حضارية في ذهنية الطائفتين وتجاوز للجو الطائفي الخانق بل توحداً ضيقاً آخر لتكوين كتلة صلدة تحكم قبضة الدين على عنق الدولة، وقبضة الدولة على عنق الدين، وتكوين حلف مقدس بوجه العلمانيين والمدنيين والمثقفين الأحرار من أبناء الشيعة والسنة!

ثمة امتدادات جديدة وخطيرة للطائفية إذ راحت تتغلغل في الواقع الثقافي العراقي وتعمل على تلويثه وتخريبه بنعراتها الحاقدة والمشوهة، فبرزت بعض الاصطفافات والتيارات والثلل الطائفية طالت حتى حقول الأدب والفن. لكن متانة الثقافة العراقية وجذورها العميقة والضاربة في أعماق التاريخ كفيلة بعزل هذه التوجهات المكروهة والمنبوذة وتصفيتها والإبقاء على وجه الثقافة العراقية المعروف بأصالته وإنسانيته!

أفضل مجرى فكري أو روحي ينبغي لفت الانتباه له هو حث قادة الطائفتين في العراق الشيعية والسنية على مراجعة الذات! أو بالأحرى أجراء مكاشفة وجدانية وعقلية شجاعة وعميقة مع النفس للوقوف على الأسباب القريبة والبعيدة التي جعلت الطائفية في بلدنا تستشري وتأخذ هذا الطور الخطير وتنذر بما هو أخطر!
لا ينبغي لهذه المراجعة أن تقف عند حد بل عليها أن تكون هي الأخرى ضاربة في أعماق الماضي مثلما هي الكوارث الدموية تضرب في أعماق الحاضر والمستقبل! إن الحديث الصريح والموجع مع النفس هو شكل من أشكال التطهير الفردي الذي قد يقود لحركة تأمل ومراجعة وتطهير جماعي!
لا بد لقادة ومراجع الطائفتين من الصدق مع النفس ومع الآخر ومع مثلهم الدينية المشتركة التي يقولون أنها مركز قوتهم الروحية والمادية!
إن أية إشارة لمحاور هذه المراجعة لا تعني انتقاصاً أو مساً في الحالة أو الحق الإنساني لأحد بل هي أيضاً مكاشفة صريحة وحميمة تهدف الوصول للحقيقة المجدية لا الحقيقة المطمئنة تارة أو المؤذية تارة أخرى! وبما إننا اليوم صرنا أمام عراق يطفح بالدم والضلال معاً وقد بلغ فيه الألم الإنساني منتهاه ولم يعد السكوت ممكناً كما لم يعد الكلام المجامل أو المداري مفيداً إلا للأعداء والمتفرجين!

لذا لا بد من القول أن أولى خطوات هذه المراجعة أن يسأل الأشخاص الذين يقودون الطائفتين وينطقون باسمها، ويتخذون القرارات والمواقف نيابة عنهما: من الذي نصبهم في مواقعهم وأعطاهم الصلاحية والشرعية في ذلك؟ هل أجتمع السنة في مكان، والشيعة في مكان آخر فانتخبوهم ووضعوهم على عروشهم؟ وإذا ما تذرع هؤلاء القادة اليوم بالانتخابات فصناديق الاقتراع (وبغض النظر عن عمليات العزل والترهيب الدموي في المناطق السنية، وفتاوى الابتزاز الديني المخالفة للقانون والتزوير في المناطق الشيعية)قد منحتهم تمثيل ناخبيهم ولم تمنحهم الحق للنطق باسمي الطائفتين حيث نسبة كبيرة منهما صوتت للعلمانيين أو المدنيين ونسبة أخرى كبيرة اعتكفت في بيوتها ولم تشارك في الانتخابات مصابة بالإحباط من كل شيء!

هل فكر هؤلاء القادة أن تبوء مواقع ليست لهم هي بمثابة سطو وانتحال واغتصاب وكل هذا محرم وفق الشريعة التي يقولون إنهم فقهاؤها وحماتها؟
وإذا ما قبل هذا على مضض وكأمر واقع، فإن هؤلاء القادة يمكن أن يثبتوا جدارتهم لقيادة طائفتيهما إذا ما تولوا العمل على وضعهما على طريق التآلف والتقارب والتلاحم، لا على دروب المزيد من الخلاف والتباعد والتصادم خاصة في المجال الاجتماعي والحياتي اليومي. zwj;ولابد لهؤلاء القادة أن يسألوا أنفسهم : هل الزخم الطائفي الحاد والمتصاعد لديهم هو ذاته لدى الناس في طائفتيهما,وهم في معظمهم طيبون ومسالمون؟ ومن هم الطائفيون المتعصبون؟ هل هم قادة الطائفة أم الطائفة نفسها؟أليست الطائفية المتعصبة والعدوانية هي في كثير من الأحيان مزاج القادة الخاص وقد انعكس على الجماهير في انتحالات وتهييج وتثوير مستمرين ووفق حسابات شخصية وسياسية خاصة لا يفقه بها هؤلاء الناس البسطاء المنهمكون في البحث عن لقمة الخبز والكهرباء والماء وصفيحة النفط!
هل أعطى القادة مثالاً في التسامح والانفتاح والعيش المنسجم والمتكافئ بينما أصرت الطائفة على التزمت والانغلاق؟ .بسؤال إجمالي: من هو الأكثر تحضراً وامتثالاً لضرورات العصر والحياة لبناء عراق جديد موحد منسجم، الطائفة أم قادتها الطائفيون؟

لابد من تأمل جريء لمعرفة أولاً جذور وأغوار هذه الكارثة التاريخية الاجتماعية الرهيبة التي شقت أمة عريقة ( خاصة في العراق صانع أقدم الحضارات ) ولمئات السنين واستنزفت قواها وأضعفتها وساهمت في فتح أبوابها للغزاة على مر العصور ووضعتها في تطاحن واحتراب مع ذاتها ومع أشقائها وأصدقائها بدلاً من أن تكون أمة موحدة منسجمة متماسكة تنفق طاقاتها لا في الصراع الداخلي والتمزق الروحي بل في صراع مع واقع التخلف والعوز والشقاء!
عبر تأمل هذا المسار الطويل للصراع والخلاف التاريخي بين الطائفتين والوقوف بصراحة وشجاعة للسؤال: هل تبقى لهذا الخلاف ما يبرره اليوم؟ أليسوا هم جميعاً قد ورثوا ورغماً عنهم خلافات وعقداً ونزاعات كانت لها في زمانها أسبابها ودواعيها وفتنها ودسائسها وقد حل عصر جديد لهم فيه جميعاً سنة وشيعة حياة جديدة ومصالح ومفاهيم جديدة!إلى متى تبقى الأجيال الحاضرة تتحمل وزر أخطاء أو ذنوب أو تجاوزات وقعت لأسلاف ربما لو قدر لهم أن يعودوا اليوم لحياتنا لتصالحوا وتعانقوا واعترف المخطئ بخطيئته وعفا الضحية والشهداء عن قتلتهم! ترى كيف يكون الدم الذي أريق قبل ألف وأربعمائة ساخناً، والدم الذي يراق اليوم بارداً فينسى ولا نعمل شيئاً من أجله ومن أجل حقن دماء بريئة أخرى! ألم يحل السأم والضجر من كل ما جرى ويجري ؟ ألا يبدو التاريخ اليوم عبئاً على الحاضر والمستقبل بدلاً من يكون معيناً للناس بخبراته وذكرياته الطيبة والمفرحة؟ لماذا تبقى هذه الأسئلة محرمة أو مؤجلة، وجروحاً تجمع قيحها في الصدور ولا ينبري مفكرون من الطائفتين لفتحها بدراية الأطباء الحكماء والعمل على علاجها وتخليص أجيالنا المقبلة من آلامها وعذاباتها ؟
إن تسيس الدين، واستبدال الدين الروحي بالدين السياسي هو المنزلق الأول الذي يجر للطائفية، وكلما تصاعدت حمى صراعات الدين السياسي على الجانبين تفاقمت أكثر التوترات الطائفية ودفعت الأوضاع في لحظات انفعال وهوس إلى الحرب الطائفية .لذا فإن صمام الأمان الأكبر ضد الحرب الطائفية هو إبعاد الدين عن السياسية وفصل الدين عن الدولة. ويمكن القول بوضوح ودقة إن أعدى أعداء الدين هم رجال الدين المسيسون والذين يسيئون استخدام الدين فيكرسونه للسياسة ولمصالحهم السياسية والمادية!