من المعروف ومنذ مئات السنين أن الطائفتين الشيعية والسنية في العراق والبلاد الإسلامية قد نظمتا نفسيهما في أحزاب وجيوش وحركات سياسية وفكرية سرية وعلنية واختلفت في شدة نبضها الطائفي حسب الأزمان والبلدان. ولكن الطائفية اليوم في العراق تظهر على شكل أحزاب وميليشيات أو جيوش سرية وعلنية لكنها تختلف عما سبقها في كونها قد نست تماماً أي هم أو جدل ديني أو فكري أو فلسفي وغرقت في السياسية المحمومة والمتشنجة وفي الصراع الحاد والملغوم وفي الاستقطاب الطائفي من أجل السلطة والتي قلبت فيها أطراف القضايا ومحاورها وقوانينها، حيث لم يعد الحزب مستنداً على الناس في المجتمع أو الطائفة بل على طائفية الطائفة! فاليوم نرى أحزاباً سياسية سنية صرفة، وأحزاباً شيعية صرفة لم يعد يهمها الانتماء للدين وأصوله وأحكامه العامة قدر اهتمامها بالانتماء لخلافاتها وعنعناتها واحتقاناتها المتراكمة. لقد بلغ النبض الطائفي في هذه الأحزاب الدينية السياسية أوجه. وقد وجد الكثير من الصحف والفضائيات ومراكز الإعلام والأنصار والمريدين المحليين والإقليمين والمهيجين له ليبلغ حالة ضغط الدم المنذرة بجلطات ونزف مميت!
لعل أخطر حقيقة في الحالة الطائفية في العراق أنها أضحت مرتعاً سرياً لصراع النفوذ الإيراني ومطامعه من جهة ونفوذ دول عربية مجاورة وبعيدة ومطامحها في الهيمنة على العراق من جهة أخرى. وما الشيعة والسنة سوى أقنعة لهذا الصراع الذي نزف العراقيون على مر العصور من جرائه دماءهم وأحلامهم، وصاروا اليوم بلا حضارة بينما كان أسلافهم الأولون هم من وضعوا لبناتها الأولى!
تتكيف الطائفية في العراق بطرق خبيثة ومتقلبة ومتنوعة فهناك شقها الذي ينتهج العنف والذي لديه عصابات وجيوش وأسلحة فتاكة يستعملها يومياً فعلاً ضد أبناء الطائفة الأخرى. والبعض الآخر يهدد باستعمالها وعلى نطاق واسع لفرض مشاريع طائفته على الطائفة الأخرى ثم المجتمع كله جاعلاً الإرهاب جواً عاماً للبلاد!
وهناك الشق الآخر من الطائفية غير المسلح الذي لا يقل عنه في شروره و خطورته فهو يعيش ضمن الحياة المدنية بهدوء وصمت الأفعى نافثاً عنفه وعدوانيته وإزعاجه في أشكال من السلوك والدعوات والخطابات والتحرشات أو عمليات التقاطع والعزل، متسلقاً الحياة السياسية من أجل جعل وجوده وتوجهاته في الهيكل السياسي والثقافي طاغياً ومهيمناً على البلاد كلها!
لا يستطيع زعماء الطائفة أن يحكموا قبضاتهم على رقاب طائفتهم إلا في الإبقاء عليهم في تناقض وتوتر وهواجس وخوف من الطائفة الأخرى. لذلك تراهم يتحدثون في النهار عن الأخوة والمحبة بين الطائفتين، وفي الليل يشحنون أفئدة أتباعهم بالبغضاء والحقد ضد الطائفة الأخرى ويزيدون نار الطائفية اشتعالاً!
تتكون الطائفة من بشر لهم مشاعرهم وعواطفهم وهم اجتماعيون ومتآلفون بالطبع لكن زعماء الطائفة حريصون على الحدود بين الطائفتين حرص الملاكين على حدود مزارعهم، أو حقول دواجنهم، لذلك فهم يخافون أن تذوب طائفتهم في علاقات المحبة والصداقة والتجاور مع الطائفة الأخرى. فأسسوا قديماً الأحياء المغلقة لطوائفهم كأنها أقفاص تمنعهم من الطيران من أيديهم. لكنها كثيراً ما تمردت عليهم و تداخلت واختلطت مع نمو النزعة الحضارية والمدنية والاقتصادية في بلادنا. تصاعد الموجة الطائفية في هذه الأيام أحيا نعرة الانعزال والتقوقع ثانية فخرج زعماء الطائفة عن لغتهم الخشبية العتيقة وراحوا يتحدثون عن الفدرالية لا عن فهم وإدراك لمضامينها الرائعة والصحيحة في نظام سياسي وإداري مرموق ومجرب عالمياً يمنح الناس المزيد من حرياتهم وحقوقهم وفرص خيرهم وسعادتهم ضمن الوطن القوي المتماسك، بل عن فهم غريب ملتوٍ يحقق لهم خطف ملايين الناس دفعة واحدة ووضعهم في خندق أو جيب مغلق كرهائن يمارسون عليهم نزواتهم وإرادتهم في تغيبهم عن العصر و تشكيلهم ذهنياً ودينياً بما يضمن بقاءهم أسياداً عليهم وحسب مزاجهم وأفكارهم المتخلفة القائمة على كره العلم والعالم معاً، والانسلاخ بأسرع وقت عن أشقائهم، وتقريبهم أو دمجهم في دولة أو مجتمع آخر أجنبي غريب لا يضمر لهم غير الاستحواذ والهيمنة وتخريب جذورهم الأصلية وقطعها عن وطنهم الحقيقي!
الطائفية اليوم مهووسة حد الجنون بهويتها الخاصة لا تريد أن تقر أو حتى تعرف أن الهوية الطائفية هي غير الهوية العراقية أو الوطنية . ما يهمها أن تقتطع بأنياب فولاذية أكبر قطعة من الوطن تقيم عليها غيتو أو كانتون أو دويلة لرعاياها المغلوبين على أمرهم وإلحاقهم بهوية أخرى ومن يرفض هندستها أو طرائقها في التفكير أو العيش يرمى بالخيانة ويعاقب بالموت، ويلقى في روعه الحرمان من الشفيع والجنة الموعودة! ويبرر الطائفيون تقوقعهم الطائفي بعدوانية الطائفة الأخرى. جاهلين أو متجاهلين أن طائفيتهم تحمل شحنة عدوانية مماثلة وإن التقوقع سيزيدهما احتقاناً بينما الانفتاح والحوار والتمسك بالوحدة الوطنية هو الذي يخفف من الشحنات العدائية في نفوس أفراد الطائفيتين ويساهم في إسكات الإرهابيين ويوصل لحلول وئام جدية لكل طائفة ويبقي الوطن للطوائف كلها. خاصة تلك التي من الأديان الأخرى التي تتحمل عادة الكثير من ويلات وشظايا الصراع بين الطائفتين الرئيسيتين دون ذنب أو مشاركة منها بل هي مبعدة غير مسموح لها أي تدخل حيث تبرز الطهرانية الدينية كعوازل مرعبة!
وحين يعارض قادة الطائفة الأخرى هذا التوجه الفدرالي الطائفي فإنهم يعارضونه انطلاقاً من موقف طائفي أيضاً، فهم ليسوا حريصين على بقاء الطائفة الأكبر ضمن إطار الوطن وفي صميم وحدته الإنسانية بل خائفين أن تفلت الأرض الواسعة الغنية التي تسكنها الطائفة الأخرى من المورد العام ولو كانوا أكثر نباهة وحرصاً على الوطن، لكفوا عنهم أذى العصابات الإرهابية المتخندقة في مناطقهم ولدعوا لفدرالية حقيقية بعيدة عن الأثرة والتقوقع الطائفي ولعملوا على تحقيقها في مناطقهم أيضاً فهي تضمن تكافؤاً راقياً في توزيع ثروات البلاد وعيشاً كريماً للجميع وتبقي أرض الوطن وحدة واحدة متماسكة أكثر بتنوعها وعبر حسن إدارة الفدرالية وحسن إدارة الحكومة المركزية للعراق!
يتبع
التعليقات