ما زال كثير من المثقفين يحجمون عن الخوض في جذور وملابسات وعقد الطائفية في العراق. لا يجوز لوم الكتاب العراقيين في الداخل على عدم الغوص عميقاً في تلافيف القضية الطائفية حيث صار ثمن الموقف أو الكلمة الصائبة النزيهة هناك رأس الكاتب نفسه. كما لابد من ملاحظة أيضاً أن الكثير من الكتاب قد اصطفوا مع طوائفهم أو مع هوى الصحف التي يعملون بها تاركين جمهرة كبيرة من الكتاب المستقلين محاصرين خارج الجو العام الذي يملأه النفير الطائفي!

غياب التحليلات الجادة والحريصة على الحقيقة متوازنة مع مصالح الجميع قدر الإمكان ترك الميدان خالياً لأفكار وطروحات وتحليلات تمثل الطائفية المتعصبة المقيتة لهذا الطرف أو ذاك بينما آراء ومشاعر الناس غير المتورطين بالنزعة الطائفية ضائعة بينهما! واليوم إذ تتصاعد النعرة الطائفية في العراق فإن ذلك يستدعي جهود مثقفين وخبراء عراقيين وعربٍ ليجعلوا من أقلامهم ولو لساعات مباضع دقيقة مرهفة عادلة تجد وتجتهد في تشريح الحالة الطائفية مبينة مكامن عللها وأمراضها ومحاولة تشخيص علاجات ناجعة لها. من غير المتوقع طبعاً أن تكون المقترحات النظرية سريعة المفعول أو إنها ستضع الناس على طريق الخروج من هذا المأزق المأساوي الذي ابتلوا به لمئات السنين لكنها في الأقل قد تساعدهم في درء خطر الفتنة التي يستدرجون إليها الآن من أعدائهم أو أصدقائهم وتبصرهم بالمهالك التي يقادون إليها بأيدي بعض قادتهم ومراجعهم الدينية والسياسية في أكثر الأحيان!

ثمة أمل أن تخرج كتابات بعض مثقفي الخارج عن الجدل والمناوشات المنفعلة المنحازة حيث في القضية الطائفية من المستحيل أن تجد الحقيقة عند طرف دون آخر،ولا بد أن تنتقل للبحث عنها في تلك المساحة الواسعة التي هي بين خندقي الطائفيين وهي أرض الناس وأملهم وكل ما تبقى لهم! وفي هذا الجو يقف كثير من المثقفين العراقيين حيارى قلقين حيال ما يجري اليوم في وطنهم من صراع طائفي وصل إلى مستويات رهيبة لمم يشهده العراق في تاريخه الحديث. ولم يعد من باب الشؤم أو الشطط توقع حرباً أهلية تهرس مئات الآلاف من الناس فيه وتمزق أرضه وسماءه وتضعه على طريق الضياع والاضمحلال! لقد صار ضرباً من السخرية الاستنجاد بواحات الماضي وذكرياته الجميلة والحديث عن كون العراقيين هم من وضعوا أسس أولى الدول والمجتمعات والحضارات فهم اليوم يعيشون واقع ما قبل الدولة وما قبل الحضارة وما قبل المجتمع!
كما صار الحث على التطلع للمستقبل شكلاً من السخرية،إذ أن الحديث عن ثروات العراق النفطية والمعدنية ونهريه وأرضه الخصبة وعقول أبنائه وسواعدهم القوية لم يعد وعداً في تحويل العراق إلى جنات حقيقية ينعم فيه جميع العراقيين بالسعادة والوئام ،فلقد أضحت هذه الإمكانات أقرب لاستثمارات الفساد والإرهاب!

في ظل هكذا محنة يجد المثقف نفسه مضطراً أن يضع جانباً ما بين يديه من عمل إبداعي ربما هو الأكثر ضرورة وجدارة في مضمار قدراته ومهماته ليمسك بتلابيب مصيبة تريد الإجهاز على وطنه، قد لا يقدم هو فيها شيئاً مهماً أو مفيداً جداً لكن عمله هذا يبقى إشارة في طريق صحيح وتأكيد على ترتيب جاد وعادل للأولويات!
لا يجدي اليوم أي حديث يذكر بشعارات الماضي التي ساهمت مع دبابات الجيش القديم والأحزاب والمنابر العالية وبعض المحافل الدولية في وصولنا لهذا الحال من التعاسة والشقاء. ربما يجدينا أن نقترب من مكامن الداء ومصادر الخطر وأصل المشاكل ولو بكلمات قليلة. ربما تسليط بقعة ضوء مهما صغرت تفتح لنا طريقاً نتعلم منه حل المشكلة لا القفز عليها. لقد كان أفدح خطأ أرتكب في مواجهة الطائفية في العراق ومعظم مشاكلنا الأخرى هو عبورها والمرور عليها! والوقوف عند جوانب إلفة أو تلاحم شكليين وتجاهل للشروخ العميقة .فحين كان السقف ينضح ماء يقال إنها ثقب صنعه جرذ لعين وبدلاً من تفحص أسس البيت وجدرانه وسقوفه يهب أهل البيت في معركة مع جرذ ومع أنفسهم ومع الأغراب أيضاً! قبل أن نفكر بوطن جديد ومجتمع سعيد .ينبغي أن تتساقط محرمات فحص الأسس والجدران والحجارة والتراب والماء والكلمات والطرق والأديان والمقدسات والرموز العليا والسفلى . ما سيكتب في هذا المضمار قد يدحض وينهار كله ،وذلك رائع فقط أن يكون على أسس من حوار موضوعي هادئ دقيق،لا بسيل من الشتائم واللعنات ،إذا قدر لكلمات إي مقال أن تثير جدلاً وحواراً نافعاً حتى ولو لم يبق منه شيئاً ويبني على أنقاضه كلام افضل يكون قد أدى ما قصد منه وذلك أمر يبعث على الأمل من جديد ولو لدى قلة من الناس من ذوي النوايا الحسنة !