لبنان الحمامة البيضاء طريدة المستنقعات العربية الموحلة والآسنة، لبنان رهينة عصابة تدعي أنها حزب الله، تلك المدججة بالسلاح من هامة الرأس إلى أخمص القدمين، والمتسترة بجحافل من الدروع البشرية، لا تحارب بها فقط ما يسمى بالعدو الإسرائيلي، وإنما توجه تلك الجحافل المغيبة بأيديولوجيا الكراهية، والمأسورة بما قدمت لها العصابة من خدمات ومعونات، لم تكن يوماً من قبيل المحبة والإنسانية، وإنما بغية تدجين تلك الجماهير إلى حين الدفع بها إلى محرقة مغامرات تدميرية، توجه تلك الجماهير لبث الرعب في قلوب جماهير الليبرالية وقادتها، فبمجرد إشارة من رأس السيد المقدسة، أو حتى إصبعه الخنصر، تخرج تلك الجماهير لتهتف وترعد وتدمر، في مجرد إنذار وتلويح بما يمكن أن يحدث، لو افترض وصدر عن هذا أو ذاك ما قد يغضب السيد، أو يعكر مزاجه المقدس.
وتحت لافتة شعار جدير وبراق هو quot;الحفاظ على وحدة الصف اللبنانيquot;، يمارس ويستمرئ السيد ارتهان لبنان بمكوناته المسالمة المتطلعة لحياة أفضل، والراغبة في توظيف قدراتها الفائقة على البناء الحضاري، تلك القدرات الضاربة بجذورها حتى فجر التاريخ الإنساني، إلى يوم علم الفينيقيون الأجداد العالم فن الملاحة، وأهدوا الإنسانية حروف الأبجدية، وبمسوغ من ذات الشعار أيضاً يبرر قادة الطليعة المتحضرة (من جماعة 14 آذار) استكانتهم وتخاذلهم، عن مواجهة ما يعلمون جيداً أن يتحتم عليهم مواجهته، لكنهم يؤثرون السلامة، وأشباح الماضي القريب تطاردهم، فيما دماء الأخوة المتقاتلين لم تكد تتشربها الأرض بعد، فيجرجرون أقدامهم إلى مائدة حوار كما للطرشان، يستسلمون للمماطلة وإهدار الوقت، الذي لم يتصوروا أنه من ذهب، متظاهرين باقتناعهم أنهم يقومون بحوار وطني جاد، كفيل بوضع الأمور في نصابها، وإنشاء دولة حديثة قادرة على البقاء والبناء، ولربما من يقدمون لسعادتهم فناجين الشاي والقهوة خلال جلساتهم الممتدة إلى ما لانهاية، يدركون جيداً أن سادتهم يتحركون quot;محلك سرquot;، وأن طريقهم مسدود. مسدود. مسدود . . يا ولدي!!
ليس من المستهجن والحالة هذه أن يحسن العماد ميشيل عون (بطل التحرير الذي كان) قراءة المصير، فإذا كانت لبنان ستظل إلى أجل غير منظور أسيرة السيد وعصابته، فلماذا لا ينسلخ عن المتظاهرين بتصديق تمثيلية الحوار، وبتصديق كلمات السيد المعسولة والمغموسة بالوعيد والتهديد، ليلعب لعبته الخاصة، أيضاً متستراً بذات الشعار المنتهك: quot;الحفاظ على وحدة الصف اللبنانيquot;، فيميل تجاه سماحة السيد يلتمس بركاته، عله يحوز قصب السبق ويحرز تاج الجزيرة (السلطانية)، فيعتلي سدة رئاسة الجمهورية، ليخلص لبنان من quot;ظل سورياquot;، ليوقعها بين يدي quot;ظل السيدquot; الرحيمة!!
وفيما الجميع بين غافل وطامح وطامع ومتململ ومتبرم، يثبت السيد أنه وحده القائد المبادر والمقدام، إذ يفاجئ الجميع بأخذه لبنان الحمامة الرهينة، ليدفع بها إلى ما بين فكي الأسد الإسرائيلي بعد أن استثاره إلى حد الهياج، محققاً بذلك ضرب عدة عصافير بحجر واحد:
middot; وضع حد للطلبات الساذجة والمملة بنزع سلاح عصابته، فها هو يثبت للجميع قدرته على فرض إرادته على العدو الذي يخشاه الكل، الأغلب معتمداً على حكمة العدو في محدودية رد الفعل، وعلى فاعلية تكتيك quot;ضربني وبكى، وسبقني واشتكىquot;، ولا نظنه في هذا المجال قد صدق كذبة توازن الرعب، التي حاول إقناع الجميع بها، نقول ذلك ثقة في ذكاء السيد، حتى وإن كان ذكاؤه هذا يوشك أن يقوده إلى حتفه!!
middot; خدمة أسياده الإيرانيين quot;بضرب كرسي في الكلوبquot;، على عادة البلطجية في المقاهي والأفراح المصرية، خلال مناقشة المجتمع العالمي لملف إيران النووي، ليس فقط بهدف صرف النظر عن القضية إلى اتجاه آخر أكثر سخونة، بل أيضاً للبرهنة على ذراع إيران الطويلة في المنطقة، وتقديم عينة مما تستطيع فعله، رغم أنف القوى العظمى والأنظمة الإقليمية العاجزة، ليس فقط في مواجهة عدوها، بل عاجزة عن حيازة الحد الأدنى المقبول من ثقة شعوبها.
middot; ممارسة الدور الأساسي الذي يلعبه بالمنطقة ndash;مع منظمات حماس والجهاد- وهو إفشال عملية السلام العربية الإسرائيلية، كلما ظهرت بوادر للتقدم، فليس من قبيل المصادفة تزامن مغامرة حزب الله مع مغامرة حماس بخطف الجندي الإسرائيلي، في ذات توقيت اضطرار حماس إلى الموافقة على وثيقة الأسرى، بما يهدد بالبدء في التوجه نحو تسوية سلمية للصراع المزمن.
middot; دفع المنطقة إلى دوامة العنف والدماء يزيد من حالة العداء والكراهية، المطلوب أن تتأجج نيرانها كلما أوشكت على الخمود، لتدعيم عملية تجييش الجماهير، للبقاء في حالة احتقان واستنفار وعداء للعالم، بما يعني المزيد من ارتماء الجماهير في أحضان أيديولوجيات التطرف ورموزها، وقطع الطريق على أي محاولات في الاتجاه المعاكس، ترمي إلى استزراع ثقافة السلام والليبرالية.
أهم ما يعنينا هنا أن لبنان الرهينة تصورت للوهلة الأولى فور اشتعال تلك الحرب المجنونة أن السيد وعصابته سوف يتم استئصالهم، هذا أيضاً ما تصورته كونديليزا رايس وهي تبشر بالشرق الجديد، شرق خال من عصابات الكراهية والقتل، فكان أن تحدثت الرهينة بشجاعة وحرية، فطالب السنيورة بأن لا يعود الوضع أبداً إلى ما كان عليه، واندفع في إعلان نقاطه السبع بنية خالصة، نية تخليص لبنان من أسرها الذي طال، والذي لم يتصور أحد أنه من الممكن أن ينتهي، في المستقبل المنظور على الأقل، وعلى هذا النحو أيضاً تشجعت بعض النظم العربية (المعتدلة)، وألمحت دون تسمية إلى استنكارها لمغامرة السيد، فيما بدا وكأنه بداية عهد جديد من العقلانية العربية غير المسبوقة ولا المعتادة.
لكن عندما ظهر من سير الحرب أن السيد يحقق نصراً فريداً وغير مسبوق في تاريخ الصراعات البشرية، قوامه أن يتم تدمير لبنان على رأس أهله، فيما يظل السيد والبقية الباقية من عصابته قادرين على تشغيل قناة المنار التليفزيونية، وإطلاق بعض الصواريخ على إسرائيل، انطلاقاً من غرف النوم في بيوت المدنيين الآمنين، أو الذين كانوا آمنين حتى تعرفوا على سماحة السيد، هنا أيقن السنيورة وصحبه أن الشرق الجديد لن تتم ولادته على يد إسرائيل والمجتمع العالمي، وإنما سيكون على أحرار لبنان (جماعة 14 آذار) استكمال عملية الولادة القيصرية، بتجريد حزب الله من سلاحه، ومحاكمة المسئولين عن الكارثة التي حاقت بالبلاد والضالعين في العمل لصالح جهات خارجية بما يضر بالوطن، ووضع حد لحالة اختطاف الجماهير وحقنها بسموم الكراهية والعنف، وهنا أيضاً بدأ الذئب الجريح مدعي الانتصار يكشر عما تبقى من أنيابه، فكان أن ارتعدت الفرائص، وبدأت الرهينة تتحدث والمسدس في ظهرها، فدارت حول نفسها مائة وثمانين درجة، ليسهل تأويل النقاط السبع بما يفرغها من مضمونها الأصلي، وليتم العودة للمفاهيم القديمة الغامضة والمطاطة، ليأتي على ذات النهج قرار إرسال 15 ألف جندي لبناني إلى الجنوب، بالطبع دون التطرق إلى ما إذا كان هؤلاء الجنود سيدفعون أفراد حزب الله إلى شمال الليطاني، أو سينزعون سلاحهم، أم سيبقى الحال على قديمه، وينتشر الجنود كما في تشريفة، لتبقى القوة الحقيقية بيد عصابة السيد المنبثة بين الجماهير برضاها أو رغماً عنها، وترفض الرهينة أيضاً قوة دولية حقيقية ذات فاعلية، وتتمسك بقوة اليونيفيل التي في رعايتها سبق وأن فعل حزب الله كل ما يحلو له.
بهذا يتضح لكل صاحب نظر أن صوت الحكومة اللبنانية الشرعية الآن ليس هو صوت لبنان الحر، إنما هو صوت لبنان الأسير، صوت الرهينة التي تتحدث والمسدس في ظهرها، هي تطالب وتناشد بلسانها، لكن من يحدق في عيونها يستطيع قراءة مناشدات أخرى أهمها:
لا تصدقوني. . أغيثوني.
لا يفعل هذا لبنان وحده، فهذا هو حال جوقة من كذابين الزفة، الذين وجدوا أنفسهم أيضاً مضطرين إلى نفاق السيد الذي صار صاحب شعبية جارفة، لكنهم في دخيلتهم، أو في همسهم فيما بينهم وبعضهم البعض يتمنون زوال الكابوس، ويا حبذا لو تم ذلك على يد العدو الصهيوني.
[email protected]
التعليقات