البعث من دون صدام : تقويم المسيرة والمشاركة في السلطة

يحمل الوضع في العراق إشكالية كبيرة، وهي إعادة التشكيل لنسيج سياسي واجتماعي مضى عليه اكثر من ثلاثين عاماً تحت سطوة وتأثير حزب له من العمر ستة عقود وهو وريث الحركات القومية العربية التي ساهمت بشكل فعال في تأسيس الدولة العربية الحديثة.
والحديث عن البعث في العراق لا يعني بالضرورة الحديث عن صدام الذي شوه صورة الحزب الذي ينتمي إليه قبل ان يشوه صورة العراق، وكانت مشكلة هذا الحزب وهو لا يختلف في ذلك عن الأحزاب العربية الشيوعية والدينية، في تسلق الوصوليين الى قيادته وانفرادهم بالقرارات المصيرية وعبادة الفرد.

البعثيون والصنم الصدامي

وهذا ما حدث في العراق الذي حكمه حزب تمكن من حكم قطرين من أهم أقطار المشرق العربي وهما سورية والعراق. ووفق التجارب التاريخية فان المحاولات التي تسعى لإنهاء هذا الحزب وإخراجه من المسرح السياسي سينقصها سوء التقدير وستكون المشكلة اخطر في جو تسوده فوضى سياسية. وبعد مرور عام على احتلال العراق فان مسألة اجتثات البعث اضحت هدفاً ثانوياً بعد ان وجهت الحكومة اجندتها الى الارهاب الذي تمثله جهات يرتبط خطابها السياسي بالاسلام وليس بالفكر القومي او البعثي، ولا سيما ان الكثير من البعثيين ابدوا استعدادهم لمساعدة الحكومة في مواجهة الارهاب. ولعله من الغباء بمكان ألا تشرك الحكومة البعثيين في ادارة شؤون بلدهم وهم يمثلون كادرا متقدما في الدولة وخبرة كبيرة في إرساء دعائم الاستقرار ولا سيما انهم تحرروا من عبادة الصنم الصدامي. وهذا لا يتأتى الا من التخلي عن الجمود الذي رافق الخطاب السياسي لقادة الاحزاب الرئيسية، وان تكون المواطنة والمساواة هي الاساس في اعادة تأهيل المواطن العراقي القادر على خدمة بلده.

تصحيح الاخطاء

ان على البعثيين استثمار الفرص السياسية وان يعلنوا براءتهم من جرائم ارتكبها صدام، وان يهذبوا صفوفهم من القتلة والمجرمين الذين نكلوا بالشعب العراقي، ولا سيما انهم اليوم دون صدام (لا يشكلون خطورة) من وجهة نظر الادارة الأميركية مقارنة بالتيارات الاصولية والجهات الراديكالية والاحزاب الرجعية التي وجدت لها موطئ قدم في عتبة الحكم، ما كانت لتحلم به ايام حكم صدام، كما ان على البعثيين التخلي عن اوهام الدعم الخارجي، وان يستعيدوا ثقة شعبهم العراقي بهم، وان يتنصلوا عما اقترفه صدام بحق الشيعة والاكراد. ولعل امر أعدام صدام يحمل منحى ايجابيا في ان يصحح الحزب اخطاءه في استهانته بابناء الشعب العراقي وجعلهم مشروعا استشهاديا في سبيل الاخوة العرب. كما انه يمنح الفكرة القومية الفرصة لكي تتحرر من وطأة الدكتاتورية مما يتيح لها الانسجام مع حركة المجتمع.

إعادة تإهيل البعث

وليس من الغريب القول ان الولايات المتحدة كانت قد انتبهت الى اشكاليات الوضع السياسي في العراق وسيطرة التيارات السياسية الدينية عليه، سنية وشيعية، فاعادت تأهيل البعثيين المنشقين عن حزب البعث وصدام، وهؤلاء يشكلون جماعات تؤمن بالتغيرات الديمقراطية وتلتقي اهدافهم مع مصالح الادارة الأميركية في الوصول الى الحكم. ولعل الوفاق الوطني العراقي برئاسة اياد علاوي ثمرة لذلك التعاون (البعثي الأميركي) ان صح التعبير.
وعلاوي بدوره لم يفسح المجال لجماعة بعث اليسار من ان تدلي بدلوها في عملية التغيير بل اعتمد على اصحاب الثقة من البعثيينcedil; الذين كانت له ارتباطات قوية بهم في الداخل والخارج قبل سقوط صدام، وأفراد هذه الجماعات يجدون لهم مواقع في الوضع الجديد، باعتبارهم انهم كانوا جزءاً من المعارضة العراقية للنظام، رغم كونهم يحملون فكر البعث الذي لا يمكن إصدار حكم الموت عليه ولا على أي فكر آخر، وهم يقودون اليوم بشكل او بآخر اعادة تأهيل البعثيين.
وافكار علاوي تتلخص في انه لا يمكن حرمان المواطن من الحقوق والواجبات بحجة أنه كان بعثياً وان المواقف المبنية على أحكام مسبقة يجب ان ترفض لأنها ذاتها كانت سلوكاً صدامياً.
ان تداعيات التدخل الأميركي في العراق آل الى مشهد من فوضى سياسية وفكرية، فالقوى السياسية والاحزاب اصبحت امام واقع هيمنة سياسية أميركية تصرف مجريات الامور من جهة، وفوضى في طروحات مقاومة لم تستطع ان تبلور اتجاهاتها وتوضح منهجها.

الكادر الحزبي والمواطنة

ان 9 نيسان يمثل انكسارا كبيرا للايديولوجية القومية، وهذا التاريخ هو تتويج لهزائمها في فلسطين والحروب العربية التي خاضها العرب ضد اسرائيل. ولعل التجرية في العراق حولت القومية الى شعارات تقليدية، ديماغوجية، ارتبطت بالمراهقة السياسية والبداوة والطبقية السوسيولوجية والاستبداد، ما افقد المجتمع النمو التدريجي والتلقائي، واعاد المجتمع إلى ما قبل المرحلة الكولونيالية، لتنقطع بذلك مسيرة المجتمع نحو الديمقراطية، الذي فقد حتى انجازاته التي حققها في الفترة الاستعمارية، مما جعله يفقد ثقته بالانظمة الوطنية والقومية، واتاح للبداوة والعشائرية ورعاع الريف وطبقيي المدينة ان يتحولوا الى كادر حزبي يدمر المواطنة ويعطل التاريخ الذي بدا مزوراً امام اللصوصية والعشائرية والطائفية التي حولت القومية الى عروبة بدوية وشعارات ترتبط بعقال القبيلة وعمامة الطائفة.

وبسبب ذلك كله فان تأهيل البعث في العراق من جديد يتطلب اعادة نظر ليس في السلوك السياسي والاخلاقي فحسب بل في اساسيات الفكر القومي وتقنيات تطبيقه بغية عصرنته واعادة تدجينه داخل المجتمع، بعد ان وسعت الكثير من القوى المضادة هجمتها على الحزب الذي هو براء من الكثير مما قيل، ولعله من المفيد اليوم ان يقوّم البعثيون المرحلة الصدامية وان يفضحوا الاخطاء التي ارتكبها صدام بحق الحزب، وان تبدأ اليوم مرحلة المراجعة والتقييم والنقد الذاتي لمسيرة البعث في العراق حتى تتضح حقيقة ما جرى في العقود الثلاثة الماضية.

عدنان ابو زيد

[email protected]