لا يمكن النظر إلى نتائج الاقتراع الفلسطيني الأخير بمعزل عن التجليات الأخرى للحرب على الإرهاب في الشرق الأوسط، فالثقب الذي تسربت منه quot;حماسquot; إلى السلطة، يشبه ذاك الذي تخلل منه quot;الإخوانquot; في مصر إلى البرلمان، وفرض به quot;أهل السنةquot; وquot;الحزب الإسلاميquot; وجودهما على المسرح العراقي، وجاء بالتيار السلفي إلى المجالس البلدية السعودية، وأعطي لحركتي quot;النهضة الإسلاميةquot; وquot;الحركة من أجل مجتمع السلمquot; 81 مقعداً في البرلمان الجزائري، ولحزب quot;العدالة والتنميةquot; الإسلامي 42 مقعداً في البرلمان المغربي، كما أن رغبة التغيير التي حملت مجاهدي quot;حماسquot; من المواجهة العسكرية إلى المواءمة السياسية هي ذاتها التي دفعت إلى ثورة الزيدية في اليمن، وتمرد الأباضية في عمان، وما زالت توقد غضب العديد من الحركات المسلحة في أرجاء مختلفة من العالم... اختلفت الأساليب والهدف واحد!
وفي رأيي أن تصاعد شعبية التيار الإسلامي في المنطقة على هذا النحو كان حتمياً بلا جدال، فهو لم يكن فقط بديلاً أكثر فعالية ونشاطاً للحكومات ـ التي quot;عششquot; في أغلبها العنكبوت ـ بل لأنه استفاد بالكامل من إهمال تلك الحكومات لشعوبها، وانشغالها بالانتفاع من السلطة وتكريس قبضتها الأمنية..
لكن الثابت أن الولايات المتحدة هي التي استعجلت حركة التاريخ.. كان يمكن لردة فعل الحركات اليمينية والدينية على عولمة الثمانينات أن تتخذ منعطفاً آخر، وإيقاعاً حركياً آخر، غير أن العقدين الأخيرين شهدا تحريضاً أميركياً مبكراً غير مقصود على ولادة حقبة (الحكم الديني)، ظلت الولايات المتحدة تحقن أوردة العالم بتهديداتها وحروبها المقدسة، وتستفز المنهمكين في عباداتهم، حتى انقلب السحر على الساحر، وغادر الناسكون مساجدهم إما لخنادق الجهاد، أو لمقاعد السلطة والتمثيل النيابي.. ولو لم يعبث الرئيس الأمريكي شخصياً ـ باندفاع صبياني ـ في لوحة المفاتيح الأساسية التي تضبط برنامج التطور الأيديولوجي البشري، لكانت منطقة الشرق الأوسط قد تجاوزت مرحلة المراهقة على رود، وورثت السلطة أحزاب مدنية لا تخبئ في أجنداتها سوى برامج للإصلاح والتنمية والقضاء على الفساد.
في صيف العام 2004 دعاني السفير الأمريكي مارك هامبلي لتبادل الحديث معه على أحد مقاهي ميدان جروسفينور في لندن بالقرب من السفارة الأميركية ـ وكنت أجري وقتها تحقيقاً تلفزياً حول صلة الجمعيات الخيرية بالإرهاب ـ وقد سألته: إلى أين تمضي العلاقات العربية الأميركية؟ فقال بأسف: من سئ لأسوأ..! ثم أضاف مرتاحاً: لكن الحرب على الإرهاب كانت ضرورية!
تلك هي المعضلة.. لقد أخضعت الولايات المتحدة تفسير الإرهاب إلى هوس ديني مبسط إلى حد السذاجة، يقوم على فكرة الصراع بين الخير والشر، بدلاً من النظر إليه في ضوء الحراك المجتمعي والتقلبات السياسية الدولية، واعتبر المغالون في الدين دخلاء على المدنية لا ينبغي الاستماع إليهم والتفاوض معهم، بل الإجهاز عليهم أينما حلّوا، ولم يكتف المنظرون الحمقى بإجهاض كل ما عدا ذلك من تفسيرات، وإنما أخفقوا في الوصول إلى تعريف موضوعي للإرهاب يحمي المدافعين عن أوطانهم، وهكذا خاضت الولايات المتحدة وحلفاؤها حرباً بلا نظرية، وبقدر ما أفضت تلك الحرب الفوضوية إلى مراجعة شاملة للأوراق، لكنها جعلت التيارات الدينية أمام أحد خيارين: إما اندماج قسري مع المجتمع الدولي على الطريقة الأميركية، أو عزلة طوعية عنه، ولتتحمل العواقب..!
ثم فشلت الولايات المتحدة في تجيير السخط الشعبي لصالحها، فقد أرادت أن تؤلف معادلة ديمقراطية على مقاسها، بحيث تحقق الاستقرار الموعود للشعوب البائسة، وتستبعد الإسلاميين من منظومة الحياة السياسية في الوقت ذاته.. وهناك مشكلتان في هذا السياق: أولاهما أن فتح الباب عنوة قبل أن يصطف من خلفه المنتظرون، يؤدي حتماً إلى اندفاع هستيري، وهو ما حدث بالفعل ومازلنا نتابع تداعياته حتى اللحظة.. والثانية أن الديمقراطية ـ كما نفهمها ـ لا يجوز أن تكون انتقائية، وعلى من يتحيز لتطبيقها أن يقرأ عنها أولاً!
الآن على الغرب أن يتعاطى مع واقع جديد، يقف على كل ناصية فيه رجل دين مسلح، لكن هذا الواقع ـ برغم صعوبة تصوره ـ ليس ضبابياً بالكامل، وإن كان ملغوماً، على الأقل بالنسبة للمسرح الفلسطيني الإسرائيلي، وهو الأشد ضراوة على الإطلاق، فالمقاومة الفلسطينية ـ في حال قبلها العالم بزيها المدني الجديد ـ سوف تستأنسها السياسة، ويروضها المجتمع الدولي، وسترغم على مراجعة ثوابتها، كما لن تجد إسرائيل خياراً غير الجلوس مع quot;حماسquot; حول طاولة واحدة، وستؤجل ـ ولن تستبعد تماماً ـ سياسة (العنف بالعنف)، إذ سيستغرق العمل الديبلوماسي الطرفين، وستتذكر quot;حماسquot; طيلة الوقت رهان السياسة الذي قررت أن تفوز به.. عند هذا الحد الواضح سيلائم الواقع الفلسطيني الجديد مسار التسوية السلمية، ولن تخسر إسرائيل أو الولايات المتحدة كثيراً من غياب الأصوات الفلسطينية التقليدية المستعدة للتنازل بالفطرة!
لكن ماذا لو اختنقت quot;حماسquot; بفعل قطع الماء والهواء عنها من قبل المجتمع الدولي؟ ماذا لو واصلت الولايات المتحدة عنادها، وامتنعت عن مساعدة quot;حماسquot;؟ وماذا لو استسلمت إسرائيل لغرورها وأدارت وجهها عن السلطة الفلسطينية المنتخبة؟ سينذر ذلك على الأرجح بظهور جماعات عنف جديدة، وسوف تجد تلك الجماعات من السلطة السياسية الدينية ترحيباً ومساندة، وسوف تترحم إسرائيل وقتئذ على عرفات وحركة فتح، وسوف تتخذ الولايات المتحدة قراراً مندفعاً جديداً، مؤسساً إما على الأكاذيب أو على الحسابات الخاطئة..!

محمد سعيد محفوظ
إعلامي مصري
[email protected]