مازلت أعتقد أن الغالبية العظمى من الشعوب العربية تتصف بالإعتدال الديني، وترفض الإرهاب والتطرف وتفطن إلى أن تمسح البعض ما هو إلا وسيلة لتحقيق أهداف سياسية. ومازلت أعتقد أن نسبة المتطرفين الدينيين في المجتمعات العربية مازالت صغيرة وإن كانت تنمو بإطراد مخيف في بعض هذه المجتمعات. لكن التأمل بهدوء في الظروف والأسباب التي تجعل من المجتمعات العربية والإسلامية تبدو كما لو كانت تصطبغ في جلها بالتطرف ربما يبدد بعض القلق الذي ينتاب المعتدلين العقلاء. لعل الصمت المدقع أو السلبية الذي آلت إليه الأغلبية المتسامحة هو أحد أهم هذه الأسباب. لا اناقش هنا سلبية الشعوب تجاه السياسات الحكومية التي تفتقد في كثير من الأحيان للشرعية، ولكن أيضا السلبية تجاه القضايا الاجتماعية التي تمس حياة الفرد اليومية وعلى رأسها التطرف.
من المؤسف أن الإنسان العربي والمسلم لم يعد مهموما بشئ سوي لقمة عيشه بسبب الأوضاع الإقتصادية الصعبة في معظم بلدان المنطقة التي نشأت عن سياسات حكومية خاطئة، والتي جعلت من الحكومات الهم الأول للشعوب. ومن هنا تجاهل المواطن الكادح العديد من المخاطر الأخرى التي تحيق به كالتطرف. لذا يترعرع التطرف حيثما وجد الفقر والتخلف والعطالة، حيث لا مواجهة شعبية. بالطبع أنا لا أكاد أرى دورا إيجابيا ملموسا لمعظم الحكومات العربية والإسلامية في مواجهة التطرف، باستثناء الدور الأمني، رغم أن التطرف الفكري يتطلب مواجهة فكرية بالمقام الأول. ولكن تغاضي الحكوات عن معالجة التطرف لا يدهشني، لأن لهذه الحكومات أولوياتها الخاصة التي ربما لا ترى مصالح شعوبها. ولايغفى على أحد أن بعض الأنظمة السياسية اتخذت من الدين ستارا لإخفاء فضائحها وهو الأمر الذي جعل من الحكومات والتطرف يظهران كما لو كانا وجهين لعملة رديئة واحدة، وجه يحمل الدكتاتورية ووجه يحمل السلفية.
في الواقع لم تكن الحكومات هي الجاني الوحيد وراء صمت الغالبية المعتدلة من الشعوب العربية والإسلامية ولكن كانت هناك عوامل أخرى دولية وإقليمية ساهمت في إسكاتها. على الجانب الدولي كانت بعض السياسات الغربية غير الحكيمة بخاصة في فترة الحرب الباردة التي شجعت التطرف الديني على حساب الإعتدال لإضعاف النفوذ السوفيتي في العالمين العربي والإسلامي. من أبرز هذه السياسات الخاطئة كان تبني الولايات المتحدة للجهاد الإسلامي ضد الإتحاد السوفيتي في أفغانستان بزعامة أسامة بن لادن، وكذا الضغوط التي مارسها الغرب على الحكومات العربية والإسلامية لإضعاف نفوذ القوميين واليسار لمصلحة التيار الديني كالذي حدث في مصر خلال فترة حكم الرئيس السادات. لقد أثبتت سياسات الغرب هذه قصر نظر المسئوليين عنها لأنها ساهمت في الإخلال بالتوازن الاجتماعي والثقافي بالعديد من الدول ذات النفوذ في العالمين العربي والإسلامي.
إذا انتقلنا إلي العوامل المحلية التي أسهمت في إسكات الأغلبية المتسامحة، فسنجد أن أهمها على الإطلاق هو القوة المتعاظمة للفكر المتطرف والتي ربما لا تتناسب مع حجمه. فالفكر المتطرف وإن كان ينمو باضطراد إلا أن نسبة صغيرة ـ لحسن الحظ ـ من المسلمين تعتنقه. ولعل النفوذ الذي يلعبه الدين في حياة الشرقيين هو ما يمنح المتطرفون القوة التي تفوق بمراحل حجمهم. هم يستخدمون قداسة الدين لدى المسلمين لبلوغ غاياتهم. فلو استخدم المتطرفون لغة السياسة أو الاقتصاد او الاجتماع، لأصبحوا مجرد حزب سياسي أو حركة إجتماعية تكون أراؤهم عرضة للصواب والخطأز ولكن المتطرفين يستخدمون ما هو صحيح على إطلاقه وما هو معصوم من الخطأ لإسكات الأخرين. ومن هنا يتلك المتطرفون الحقيقة ـ برأي البسطاء ـالتي يعلو صوتها فوق أي رأي أخر. إنها سلطة الدين اللامحدودة على البسطاء التي تترك لهم مساحة ضئيلة لاستخدام وتفعيل العقل.
لا يقتصر المتطرفون على استخدام سلطة الدين فحسب، ولكنهم يوظفون لمصلحتهم كتائب إعلامية وامكانات مادية هائلة لبلوغ أهدافهم. فامتلك المتطرفون أبواقا متنوعة من وسائل مقرؤة ومسموعة ومرئية استمرأت بث الدين المتطرف وشجعت على منهاضة ونبذ قيم الاعتدال والتسامح. وفي كثير من الأحوال وجد المتطرفون دعما من بعض وسائل الإعلام الرسمية المنافقة التي اتخذت من الدين غطاء لإكساب الأنظمة السياسية المتحدثة باسمها بعض الشعبية. ومن ثم كانت المزايدة على التطرف بين المتطرفين وأبواقهم والحكومات ووسائل إعلامها. في المقابل لم يعد هناك منابر تذكر للأصوات المعتدلة وحتى حين وجدت بعض المنابر الحرة كانت أصواتها ضعيفة وغير مسموعة إما بسبب ضعف الإمكانات المادية أو بسبب تدخل محاكم التفتيش أوالرقابة الحكومية أو بسبب الإرهاب الفكري الذي مارسه المتطرفون لخنق وإسكات المعتدلين.
ولا ينبغي إغفال الدور الذي لعبه الإرهاب المسلح ضد النخبة المعتدلة في إضعاف الأصوات المنفتحة والعلمانية، فجاء اغتيال بعض الكتاب والمفكرين والتهديدات التي استهدفت البعض الأخر ليصيب الاعتدال في مقتل حيث اغتيل البعض وتوقف البعض الأخر طواعية. وقد كان لممارسة الإرهاب بشكل أوسع وعشوائي ضد المواطنين كما في حالات الجزائر ومصر الدور الأبرز في ترهيب وإسكات الجميع من كتاب ومواطنين. فأصبح الحوار مونولوجا من طرف المتطرفين، وأصبح على الأخرين الصمت والإنصات.
إذ كانت الغالبية العظمى من شعوبنا قد أصيبت باليأس والإحباط من غياب الديمقراطية والتعددية السياسية وانفراد الحكومات الغير منتخبة بالسلطات التنفيذية والتشريعية والرقابية، فإن على الأغلبية ألا تفقد الأمل في مستقبل أفضل. ولكن هذا المستقبل لن يتحقق بالصمت والسلبية، وإنما بالمشاركة بإيجابية في رفض التطرف والإرهاب. وفي هذا الصدد أتوجه بالتحية للدكتور سالم سلام رئيس قسم الأطفال بكلية طب المنيا بمصر على موقفه الواضح وغير المسبوق في رفض تطرف زملائه بالقسم تجاه تعيين قبطية مسيحية معيدا بالقسم. لو أن كل شخص أو مسئول تصرف في مجاله بمثل هذه الشجاعة لما نهشت أنياب التطرف أجساد مجتمعاتنا، ولما هدد الإرهاب مستقبل بلداننا.
جوزيف بشارة
- آخر تحديث :
التعليقات