تكاد تكون الحصيلة السياسية للأنظمة العربية على مدى الستين السنة الأخيرة في وطننا العربي مفزعة، إن لم تكن فعلا أقسى من ذلك. لم تتمكن الدول العربية في مجموعها من التطور إلى ديمقراطيات مواكبة للانفتاح العالمي ومسايرة لروح التقدم والتحديث الذي اجتاح مناطق كثيرة من العالم؛ ولم تتمكن الحكومات العربية من تحقيق الوحدة فيما بينها والتطور إلى كتل اقتصادية فاعلة في الاقتصاد العالمي ومحركة لآلياته؛ ولم تتمكن من تحقيق حلم قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وإنهاء عقبة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ ولم تستطع أن تحاصر النزاعات البينية والإقليمية، فتضمن بذلك لشعوبها الاستقرار والأمن والرخاء ؛ ولم تتمكن من تحقيق تراكم معرفي وعلمي بحجم تاريخ الشعوب العربية وقيمها الحضارية والإنسانية. ولم تتمكن من تجنب الحروب الأهلية في لبنان والجزائر والسودان؛ ولم تستطع أن تجنب العالم العربي كارثة الغزو العراقي للكويت التي أعقبها احتلال العراق وانهيار نظام البعث العراقي.... عكس كل الآمال والأحلام التي رافقت نزعات التحرر والمقاومة والاستقلال، شهد العالم العربي قيام أنظمة سياسية شمولية غير ديمقراطية عبر جميع أرجائه، أفقدت الحضارة العربية ألقها التاريخي واعتبارها الإنساني على المستوى الكوني، وحولت الإنسان العربي إلى كائن هامشي ومغترب، ممزق بين طموحاته القومية والتاريخية وبين إحباطاته السياسية والاجتماعية. اكتشف المثقف العربي مفارقات كثيرة بعيد الاستقلالmdash;من ضمنها أنه وجد نفسه متحمسا وقادرا على حمل شعارات كبرى بحجم أمته في وجه العالم بدافع القومية والهوية والحضارة والتاريخ والجغرافيا واللغة والدين مثلما وجد نفسه محبطا وعاجزا عن حمل شعارات صغرى بحجم ذاته ضد مؤسساته السياسية باسم الحرية وحقوق الإنسان والمواطنة والمدنية والانتماء والديمقراطية والعيش الكريم. وإن كان مستضعفا ومحبطا ومغتربا، إلا أن الإنسان العربي يبقى الشاهد الرئيسي في سجل أحداث التاريخ العربي المعاصر على إخفاقات الأنظمة العربية وتدهورها وتراجعها.
أبرز مثال نسوقه الآن بطبيعة الحال هو احتلال العراق وانهيار نظام صدام حسين الشمولي. ولو كان العراق ديمقراطيا في الأيام البائدات، لما أقدم صدام حسين على غزو الكويت في الثاني من أغسطس سنة 1990، ولما وجدت الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك مسوغا لـquot;تحريرquot; العراق من ديكتاتوريته سنة 2003. وهناك اليوم احتمالات تتطور يوما بعد آخر إلى حقائق بشأن تدهور نظام سوريا الشمولي وانزلاقه إلى عزلة سياسية خانقة قد تقوده حتما إلى الانهيار بفعل الضغوط الإقليمية والدولية المتزايدة والمتلاحقة. كانت أمام سوريا فرصة سانحة عقب وفاة الرئيس حافظ الأسد في العاشر من يونيه سنة 2000 لتخطي إيديولوجية الأمن القومي والتحول من نظام ديكتاتوري وعسكري دام أزيد من ثلاثين عاما إلى نظام ليبرالي وديمقراطي واجتماعي أكثر انسجاما مع النظام العالمي الجديد. ولو اختارت سوريا الديمقراطية لكانت قد حققت لنفسها وللآخرين على المستوى الإقليمي طفرة تاريخية في اتجاه التطور والتحديث والاستقرار. من شأن الديمقراطية في سوريا أن تؤدي إلى خلق مجال إقليمي تنافسي متقدم في الشرق الأوسط، وتقود إلى مزيد من الإصلاح والانفتاح والتعددية في الأردن وفي مصر. إذ لا يمكن للديمقراطية في سوريا إلا أن تنعكس إيجابا على أمن لبنان وتطوره واستقراره، وأن تسهم بما لا يدع مجالا للشك في تصفية الصراع العربي الإسرائيلي في أقرب الآجال الممكنة. إلا أن سوريا لم تختر الديمقراطية في السنوات الأخيرة لاعتبارات محلية وإقليمية وعالمية متداخلة، لكنها في الغالب اعتبارات إيديولوجية غير عقلانية وغير إستراتيجية يمكن إيجازها في حرص الرئيس السوري على الاندفاع نحو إظهار قدرته على قيادة هياكل حزب البعث السوري والدفاع عن مصالحه ومقاومة الضغوط الخارجية وعدم تقديم تنازلات تحسب عليه من طرف الحرس القديم للنظام السياسي السوري.
تمثل الديمقراطية بالنسبة للعالم العربي اليوم خيارا استراتيجيا وأداة متقدمة لتحقيق الوحدة العربية في إطار من التواصل والتكامل الكونيين. ولا يمكن استنباتها في العالم العربي إلا باقتناع الجميع، سياسيين، واقتصاديين، ومثقفين، وشعوبا، بكون الديمقراطية ليست بالضرورة معاكسة للشعور القومي العربي أو مناهضة لطموحاته الثقافية والسياسية والحضارية المشروعة. إن قبول الديمقراطية في العالم العربي سيعني تطور المؤسسات السياسية الموجودة في الدول العربية إلى مؤسسات دستورية عقلانية تستمد شرعيتها وقوتها من اختيارات الشعوب وقناعاتهم بدلا من سطوة تلك المؤسسات أو إصرارها على عدم التطور واستمرارها في ممارسة التسلط وقمع الحريات والاستفراد بالقرارات. إلا أن ما يلزم التنبيه إليه في هذا المقال هو أن العالم العربي في الظرف الحالي مؤهل بأغلب أنظمته السياسية القائمة لاحتضان الديمقراطية وجعلها خيارا سياسيا واجتماعيا وحضاريا وأسلوبا للتدبير السياسي والتواصل الإنساني. لنقتنع جميعا أننا لسنا في حاجة في عالمنا العربي إلى قلب الأنظمة لتطبيق الديمقراطية؛ بل إننا في حاجة إلى فكر ديمقراطي وليبرالي ومجتمعي قادر، بتوجيه من المثقفين والمفكرين العرب العقلانيين، على تطوير المؤسسات السياسية القائمة وتحويلها إلى آليات لصون الديمقراطية وتكريسها بوصفها خيارا مجتمعيا متكاملا. فالتيارات الدينية المتنامية في العالم العربي في ظل الغياب شبه المطلق للحريات المدنية وفي ظل التهميش التام للمثقف العربي العقلاني، تمثل تهديدا حقيقيا للمشروع الديمقراطي العربي المتنور والمنفتح والمتقدم. لقد أسهمت الديكتاتوريات العربية، من دون أن تقصد، في تبلور الظاهرة الدينية السياسية وانتشارها داخل المجتمعات العربية، ومنحتها فرصا عديدة ومناسبات كثيرة للتطور إلى أجهزة أيدلوجية مفتوحة الاستقطاب وذات خطورة حقيقة على مستقبل الديمقراطية في العالم العربي. إن أغلب هذه التيارات الدينية تحرض على الأسلوب الانقلابي في التغيير وهي بذلك لا تختلف تقنيا من حيث المبدأ عن الأنظمة الشمولية ذات التوجهات الأحادية والسلطوية التي كرستها الانقلابات العسكرية في العديد من الأقطار العربية فأدت إلى ما نعيشه اليوم من أزمات على مختلف الأصعدة. غير أن خطر هذه التيارات الحقيقي يكمن في افتقارها لتصورات عقلانية متنورة ومتسامحة واستنادها، على العكس، إلى مرجعيات تراثية أو عقدية أو طائفية عاجزة عن استيعاب أو تمثل المشروع الديمقراطي الليبرالي المتنور القائم على حرية التعبير وحقوق الإنسان والتعددية وقوة المؤسسات الدستورية.
إن العالم العربي في حاجة ملحة إلى الديمقراطية باعتبارها أسلوبا كونيا وإنسانيا لتدبير الشأن السياسي والمجتمعي__ديمقراطية تقوي مؤسسات الدولة وتزيح عنها آفة التسلط والاستبداد، وتعيد للإنسان العربي كرامته واعتباره، وتمنح المثقف العربي حرية فسيحة للتأمل والتفكير والتعبير والتواصل والتحرك والعطاء. ولا يمكن أن تتحقق الديمقراطية في العالم العربي في المرحلة الأولى إلا بتشكل quot;مجالات ديمقراطية إقليميةquot; تضم أكثر من دولة واحدة وقادرة على استيعاب التناقضات السياسية للجغرافية العربية واستثمارها لترسيخ ثقافة التعدد والاختلاف والتنوير وحفز التنافس بين الدول. بإمكان دول مثل المغرب وتونس ومصر ولبنان والإمارات العربية المتحدة والأردن وغيرها، أن تسهم بفعالية في تشكيل هذه المجالات الإقليمية للديمقراطية عبر العالم العربي باعتبار مؤهلاتها المؤسساتية أو السياسية وقدرتها على التواصل الإيجابي مع المتغيرات العالمية الراهنة.وهذه الدول هي الأقدر على التطور والتحول بوتيرة أسرع في سياق النظام العالمي الجديد والتأثير في محيطها الإقليمي. إن خلق ما أسميه quot;مجالات إقليمية للديمقراطيةquot; في العالم العربي من شأنه أن يسرع بدمقرطة العالم العربي في إطار من التكتلات الاقتصادية والتنسيق السياسي المرن والواقعي والتحول الثقافي المنتج والمتفاعل. ولن تمثل هذه المجالات الديمقراطية تجاوزا لدور جامعة الدول العربية، بل ستسهم حتما في إعادة صياغة بنية الجامعة وتقوية آلياتها الإقليمية بما يتوافق مع الشروط المجتمعية والسياسية والثقافية الجديدة للدول العربية. إلا أن الانتقال الديمقراطي في العالم العربي لن يتم بإرادة سياسية فحسب، بل بتحول مجتمعي وإقليمي شامل نحو التنوير والتغيير ومنفتح على قيم النظام العالمي الجديد ومقتنع بفتح الحدود وتحقيق التواصل الإقليمي والدولي. من شأن الديمقراطية في العالم العربي أن تقوي المؤسسات، وتجنب العالم العربي ويلات الحروب وآفة التخلف وتعزز التواصل بين الشعوب العربية وتخلق مناخا سياسيا ومجتمعيا وإقليميا مستقرا ومشجعا على المبادرات الحرة والمبدعة. لقد أضاع العالم العربي أكثر من نصف قرن في البحث عن وحدة قومية بدون ديمقراطية فلم يتوصل إلى ذلك. وحان الوقت الآن لأن يدافع عن كينونته القومية بتبني الخيارات الديمقراطية والتخلي عن قوانين الطوارئ وحالات الاستثناء.

عن الديموقراطية ومسالة الوحدة العربية 1

الدكتور جمال الدين بنحيون
[email protected]