هل سيتم الكشف عن حقيقة الرغبة الكامنة وراء ظهور الأقنعة، ولِمَ يفضل القناع على الوجه، وتتوارى الملامح خلف خطوط الألوان اصطناعية، سواء يحدث ذلك في مشهد مسرحي أم في طقوس العبادة. هل لعبة الأقنعة في حقيقتها كانت مجرد دعابة فنية، أم تمرين أولي على التأويل، وقد تكون إيهاماً عن حقيقة غائبة أو محجوبة. في مناخ كهذا لا يسمح إلا بتداول أوهام مفبركة عن حقائق، لا توجد حقيقة، إنما يوجد وهم عنها، يدعم بسطوته أنساق المعرفة السائدة. لكن هل تم التوقف فعلاً عند الأسباب غير الفنية وراء ظهور الأقنعة، وما هي الحاجة وراء اندلاعها. بالطبع، لا احد بوسعه اللعب مع الحقائق خارج الحلقة الفكرية المسموح الدوران فيها.

وبدلاً من يقوم الفنان بمعالجة آثار الحقائق المشوهة، أو يكمل الحقائق المدفوعة ناقصة إلى حيز الخدمة الفكرية، أخذ يبرر بفنونه قيام الحقائق ويلغي أسوة بمطلقيها الحق في انتخابها. فالحقائق المعلنة فرضت بالإكراه وأبطلت مجادلتها. وبناء عليه، صارت الحرب حقيقة وحلاً وأبطالها هم أإبطال التاريخ، وما التاريخ ليس إلاّ سجل عسكري يحفل ببلاغات انتصار القوة وانكسارها، التاريخ مستودع الحقائق المسلحة، ومهمة الوعي المفروض تسليح الوعي. نعم، فالفنون الأولى لم تعالج ضغوط الألم وانتهاكات الحرمان للإنسان وتدهور أوضاع فرحه، واستحالة بهجته، فيما تكثر رغباته وتقلّ لذاته. لقد تم التخلي الفني والفكري عن الإنسان العادي، وتركه إلى سحقه ومصيره البائس. لا فنان ولا سواه يساوره القلق حيال تدني الفرح وتدهور الضحك في العالم. لكن في المقابل، يجري التنافس على إعادة إنتاج الحزن والمأساة، ويتحولان أي الحزن والمأساة مع إذكاء الصراع وتغذيته بخطاب الكراهية إلى مصدرين للعيش الرغيد وفرصة لنيل الشرف الرفيع. ويخشى هؤلاء المستفيدون على رزقهم ومجدهم من حدوث ضرر قد يؤدي إلى تراجع تشكيلات الأذى من انحسار للعنف وانخفاض في الميل إليه.

الإيديولوجية، الأخلاق والفكر كلها أقنعة لوجه واحد محجوب هو مصادرة الكون وسلب حق الكائن في الاختلاف على ذلك، حتى لو اقتصر هذا الحق على الرأي والاحتجاج. نعم، فالاستيلاء على الكون بالدهاء والقوة، وتحويله إلى مقاطعة خاصة قابل للتجزئة، للمساومة وللبيع، فقد أصاب ذلك الكائن بالشعور بالاغتراب عنه. فمصادرة الكون وازدراء حق الكائن فيه، هو الحقيقة الأولى المتحفظ عليها، الكون مشاعية الكائنات. إن مأساة الإنسان الأولى هي في انتقاله من جمع القوت إلى إنتاجه. إن التفاوت في تقسيم القوت والتفرقة على أساسه، هيأ لصعود الأزمات والمشاكل وأدى بالطرف الأقوى المنتصر إلى الهيمنة واحتكار الحل، والحقيقة والصواب.

الكلام علامة الإنسان الفارقة، صار لعنة عليه، فبسببه، كان الحرمان والقهر من نصيبه، وعليه السكوت والتواطؤ على حجب أغلب حقائقه، وقبول أنصاف الحقائق وتشويهاتها. ولو وفرنا القناعة بأهمية الكشف عن الحاجة إلى الكذب وسر ظهور الأقنعة، فالميل في تناول التاريخ سيبرأ السبب ويقيم الحدّ على النتيجة. مما يجعل من غير المفيد البحث في صفحاته عن حقيقة أول كذبة في التاريخ، من بدأها، حاكم أم محكوم، رجل أم امرأة، غني أم فقير. وهل وقع الكاذب ضحية تخلف الصدق عن جلب الفوائد. إن تواري الوجه الواحد وظهوره بأقنعة متعددة، وضع الفكر البشري على حافة الترميز. الترميز قناع الأسئلة.

عهدنا تاريخياً على إدانة النتيجة وتبرئة السبب، النتيجة شأن فردي، فيما السبب مسؤولية جماعية. واحتواءً لمضاعفات الأسئلة، تحصنت الجماعة المنتصرة بموقيات منها أسبغت بالمقدسة، فشرعت المبادئ. المبدأ شطحة العقل الأولى، وهو نية مغرضة قامت على فرضية بروز خرق لإجماع لم يصوّت عليه. لكن هل يمكن تصور المجتمعات المتفاوتة الأفراد بالمال، والجمال، بلا كذب ولا قناع ولا ماكياج. وهل سيكون ذلك منتجاً لو فضحنا سرّ نزوع الإنسان إلى حجب وجهه بأقنعة متعددة. لا أعتقد ذلك. الكذب صار حلبة واسعة، فالمستبد يدعي الديمقراطية، القاتل يرتدي قناع المقاتل، الإرهابي يتقنع بالمجاهد والردة ترتدي قناع الصحوة. فالكذب لم يعد أبيض أو مخرجاً من مأزق بل صار مأساوياً.

ثم ما الذي يدفع الوجه على التنحي لصالح قناع أو ماكياج، ولماذا يلجأ الإنسان إلى التجميل، هل بدافع الغيرة على الجمال، والتغطية على نقص الطبيعة فيه. وهل التجميل هو وقاية من تجنب أو إهمال. ثم من أوحى للوجه بالماكياج، صراحة المرآة أم صفحة الماء، أم عزوف العين عن النظر. الماكياج انتحال مشروع.

في كل عصر يتم طرح مواصفات الجمال، وعندما يخرج الوجه والقوام عليها، يسرحان من الاهتمام البصري. الجمال قيمة ثقافية، أكثر مما هو ظاهرة طبيعية، الجمال تجربة ذوقية، يعمق الشعور باللذّة. لكنه مفهوم ثقافي أيضاً، مفهوم متحول، يعاد مرحلياً إنتاج مواصفاته وتعميمها. و يشير أي الجمال إلى وضع الإنسان الثقافي في مرحلة اجتماعية وعهد سياسي معينين، ويغدو مصنفاً فنياَ يخضع لشروط السوق في الإعلان والعرض والطلب. فالجمال عرض فيما التجميل استعراض، التجميل حيلة لجذب الانتباه واحتواء إهمال، ووسيلة يتم اللجوء إليها للاستحواذ على الانتباه. والتجميل يعبر أيضاً عن خشية من تضاؤل حضور الإنسان وتراجع كاريزميته. نعم، فالجمال قيمة في وعي البشر ثم صار فناً للمساومة والعرض. لكن ما الذي يدفع الإنسان إلى حجب وجهه والظهور بأقنعة متعددة، هل هي الرغبة في أن يقطع الإنسان طريق ظهوره آمناً حتى نهايته، أم هي الحاجة إلى الاحتفاظ بسريان عضويته في النادي الاجتماعي.

النظر إلى الماء

لو أودعوا
كل المرايا في العتمة
وكفنوا
كل الزجاج بالأسود
وساقوا
كل الأمشاط إلى الموت
ومنعوا
أن تحدّق عين بعين
وصادروا
النظر إلى الماء
هل
سينتفض الوجه
ويتمرد الشَعْر؟

منعم الفقير

مداخلة في ندوة quot;وجه واحد وأقنعة متعددةquot;