قلت لصديقي الشيوعي البولشفي العجوز.. ها أنت تشارف على الدخول في العقد التاسع من العمر فما الذي تحب أن تقوله للناس؟ فأجاب..
أنت اليوم ترى وتسمع النقاش يحتدم حول الأخطاء التي قارفتها طلائع الثورة العربية من ناصريين وبعثيين وشيوعيين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تلك الأخطاء التي أفضت إلى فشل الثورة كما تعتقد مختلف الأطراف المشاركة في النقاش على تباينها. أحب أن أؤكد لكل هذه الأطراف أنهم جميعهم بعيدون كل البعد عن كل مقاربة حقيقية لأسباب فشل الثورة ذلك الفشل المأساوي بكل المقاييس الإنسانية والذي لولاه لما تجرّأ البعض مثل حافظ الأسد وصدام حسين على امتهان الثورة بشكل فاضح.

كيف لي أن أنعي على القوميين ضيق الأفق وأنا أجد الشيوعيين سابقاً يتنكرون للوحدة العضوية للثورة العالمية بوجهيها الأممي والقومي، تلك الوحدة التي أكد عليها لينين في رسالته إلى زعماء حركة التحرر في الشرق الإسلامي المجتمعين في باكو 1921 إلى حد اعتبارها شرطاً لازماً ليس لنجاح ثورة التحرر الوطني من ربقة الإمبريالية فقط بل ولنجاح الثورة الإشتراكية أيضاً؛ وقال في ذلك.. quot; قال ماركس يا عمال العالم اتحدوا ! وأنا أقول يا عمال العالم ويا شعوبه المضطهدة اتحدوا ! quot;. كانت الأحزاب الشيوعية تعلّم كوادرها المبدأ اللينيني حول الوحدة العضوية للثورة العالمية وها نحن نرى شيوعيي اليوم يخونون مبادئ ماركس ولينين. الوحدة العضوية للثورة العالمية إنما هي حقيقة تاريخية لا ينبغي أن تغيب عن كل مقاربة لدراسة الثورة العالمية بوجهيها الأممي والقومي.

بناء عليه ليس بوسع أحد أن يتشكك في حقيقة أن فشل الثورة العربية إنما جاء نتيجة حتمية لفشل الثورة الإشتراكية العالمية. هل كان بإمكان قادة الثورة العربية أن يحققوا النجاح التام للثورة بمعزل عن الفشل الذريع للثورة العالمية؟ وبالمقابل، هل كانت الثورة القومية لتنتهي إلى ما انتهت إليه من فشل، مع كل الأخطاء التي قارفتها فصائل الثورة، لو أن الثورة العالمية التي فجرها لينين في روسيا في أكتوبر 1917 ظلت في تصاعد متصل كالتصاعد الذي تحقق ما بين 1917 و 1953؟ أحب أن يعلم الناس لماذا فشلت الثورة العالمية كي يعلموا لماذا وكيف فشلت الثورة العربية بعيداً عن كل الأخطاء التي ارتكبتها فصائل الثورة ومنها تلك الأخطاء الفظيعة التي إقترفها البعثيون بصورة خاصة. أحب أن يعرف الناس كل هذا لأنه بدون ذلك لن يفلح العالم في التقدم بوصة واحدة مهما جند من جهود ومن عقول.

في 29 آب 1948 كتبت الدكتورة المسئولة عن quot; تخطيط القلب quot; في مستشفى الكرملين، ليديا تيماشوك، تقريراً لأمن الدولة تؤكد فيه أن الطبيبين المشرفين على معالجة جدانوف ـ الرجل الثاني في الحزب والدولة ـ طلبا إليها أن تغير تقريرها فلا تشير إلى الجلطة في الشريان التاجي لدى جدانوف وهي الخطر الداهم على حياته، وبذلك سمح الأطباء لأنفسهم أن يوصوا جدانوف بالسير في حديقة المنزل عوضاً عن الإستراحة التامة في السرير وهو ما تسبب بوفاته عن 52 عاماً فقط بعد أقل من 48 ساعة، في 31 آب. في البداية لم يصدق أحد تقرير تيماشوك ولم يتشكك أحد في نوايا الطبيبين. لربما ما استدعى التحقيق الجدي في شكوك تيماشوك هو رحيل عضو اللجنة المركزية وخليفة مكسيم غوركي، أليكساندر شتشيرباكوف، بذات الطريقة عام 1946. قاد التحقيق في العام 1950 إلى اكتشاف عصابة الأطباء اليهود في مستشفى الكرملين ومخططهم التآمري في إنهاء حياة قادة الحزب وكبار البلاشفة ومنهم ستالين في وقت مبكر. في يناير 1953 قرر المكتب السياسي برئاسة ستالين تقليد الدكتورة تيماشوك أرفع وسام في الدولة هو وسام لينين تقديراً لحرصها على أمن الدولة. وبالمقابل عاب ستالين على رفاقه في القيادة فقدان اليقظة تجاه أمن الدولة مشبهاً إياهم بصغار القطة (blind kittens)ومتسائلا عما ستصير إليه أحوالهم بعد غيابه، وملمحاً بذات الوقت إلى فشل لافرنتي بيريا في السهر على أمن الدولة الذي هو مسئوليته تحديداً. وبعد إيام قليلة جرت تصفية أنصار بيريا وتطهير السلطات في جيورجيا منهم. لعل خوف بيريا من انكشاف أمر علاقته بعصابة الأطباء اليهود هو ما حدا به إلى الإسراع في إنهاء حياة ستالين في الخامس من آذار 1953 وهو ما اعترف به متبجحاً لمولوتوف الذي عبر عن شكوكه بعلم خروتشوف المسبق بأمر المؤامرة، وربما مالينكوف أيضاً. بعد وفاة ستالين بأيام قليلة أعلن بيريا أن كل التحقيقات حول عصابة الأطباء إنما هي مفبركة ولا أساس لها من الصحة فكان أن أطلق سراح الأطباء المتهمين من المعتقل كما قررت القيادة الجديدة سحب وسام لينين من الدكتورة ليديا تيماشوك. وللمراقب هنا أن يستنتج سلامة التحقيق وصحة الإتهامات من السرعة غير العادية بقيام بيريا في لملمة الموضوع وطيه خاصة وأن محاكمة سريعة وسرية جرت لبيريا وتم إعدامه في ديسمبر 1953.

بدأت الثورة العالمية بالإنتكاس مذ تقدم نيكيتا خروتشوف لقيادتها عام 1954. وكان أبرز الشعارات المؤطرة للإنتكاس هو شعار quot; إطفاء بؤر التوتر quot; الذي رفعه خروتشوف بقوة في نهاية الخمسينيات، وهو ما يعني مباشرة إطفاء الثورة العربية بقيادة عبد الناصر حيث كانت الشعوب العربية تخوض معركة حامية الوطيس ضد قوى الإمبريالية في المنطقة وكلب حراستها إسرائيل فكان التوتر الشديد لا ينقطع في المنطقة العربية. الطائرات الإسرائيلية التي دمرت سلاح الجو المصري في مطاراته عبرت مياه المتوسط من فوق السفن الحربية السوفياتية التي كانت تراقب كل التحركات العسكرية في المنطقة ولم تسارع هذه السفن، كما يفترض بها، إلى تحذير مصر من تلك الغارة التي قررت مصير الحرب قبل أن تبدأ، خاصة وأن الإتحاد السوفياتي كان قبل بضع ساعات فقط قد قدم رسمياً من خلال سفيره في القاهرة ضمانات لأمن مصر إن لم تكن البادئة بالحرب. الشعوب العربية رسمت شارة إستفهام كبيرة حول السياسة السوفياتية وسماحها للولايات المتحدة واسرائيل بالإجهاز على مشروع عبد الناصر الثوري في حزيران 67 دون أن تلوي حراكا! وما يلح علينا بالشك في شعار خروتشوف quot; إطفاء بؤر التوترquot; هو أن عبد الناصر مات ميتة جدانوف عن 52 عاماً أيضاً وبالجلطة في الشريان التاجي خاصة وأنه كان يتعالج في ذات المشفى. وليست الصين فقط هي من اتهم الأجهزة السوفياتية بالتآمر على حياة عبد الناصر وقتله.

إن أي مراجعة علمية وموضوعية لكل السياسات التي انتهجتها عصابة خروتشوف وما رافقها من تغييرات واسعة في قيادات الدولة والحزب ومنها طرد وعزل جميع البلاشفة من القيادة، البرزيديوم، في حزيران 1957، كل ذلك يدل دلالة لا لبس فيها إلى أن المؤامرة الدنيئة التي نجحت في إنهاء حياة القائد التاريخي للثورة الإشتراكية العالمية، جوزيف ستالين، إنما كانت الخطوة الأولى الضرورية لانطلاق الثورة المضادة التي لم تنتهِ قبل التوصل إلى الفشل التام والذريع للثورة العالمية بوجهيها الإشتراكي والقومي. التقرير العام الذي كان آخر تقرير يكتبه ستالين للمؤتمر العام للحزب عام 1952 أشار بكل صراحة إلى تواجد عناصر بيروقراطية غير شيوعية في قيادات الحزب والدولة وحذر من خطورتها الداهمة على مستقبل الثورة. لم يكن عزل البلاشفة من قيادة الحزب هو أهم ما جرى من تغييرات بل كان أيضاً قلب جهاز المخابرات الشهير (KGB) رأساً على عقب هذا الجهاز القوي برئاسة يوري أندروبوف عضو المكتب السياسي منذ 1967، الذي كان موظفاً في حماية الثورة الإشتراكية العالمية فغدا موظفاً في quot; إطفاء بؤر التوتر quot; وهو ما يعني مباشرة مقاومة الثورة الإشتراكية العالمية. إن مشاركة المخابرات (KGB) في الإنقلاب على السلطات الحاكمة في أوروبا الشرقية وخاصة في ألمانيا الشرقية ورومانيا لم تخطئها العين. ألم يكن بإمكان الكي جي بي الحؤول دون حل الإتحاد السوفياتي ومنع الحزب الشيوعي من ممارسة نشاطاته؟! المخابرات دائماً وأبداً تعكس الوجه الحقيقي للدولة والدولة التي رئسها غورباتشوف ويلتسن كانت معادية للشيوعية بمقدار عداء رئيسيها إن لم يكن أكثر.

كيف انتقلت الثورة المضادة إلى العالم العربي؟

من يعتقد أننا نرجم بالغيب في مثل هذا الموضوع المركزي والخطير فعليه قبلئذٍ أن يعلل مسألة في غاية الأهمية وقاطعة الدلالة بغير علتها الحقيقية التي تؤكد كل ما ذهبنا إليه. المسألة تقول أن الهواري بومدين قام بانقلاب عسكري ضد الرئيس الشرعي لجمهورية الجزائر الديموقراطية الشعبية، أحمد بن بلاّ، بعد أن أكد هذا الأخير بأن حكومته ستشرع بتنمية البلاد على طريق الإشتراكية العلمية الماركسية بأسابيع قليلة وكما لو أن الإنقلاب موجه ضد اليسار الماركسي. لكن هذا البومدين تمتع بحظوة لا نظير لها لدى بريجينيف والقيادة السوفياتية آنذاك !! أما حافظ الأسد فقد قام بإنقلاب عسكري أيضاً ضد يسار حزب البعث بقيادة صلاح جديد ونور الدين الأتاسي اللذين وجها المؤتمر العام لحزب البعث لتبني طريق الإشتراكية العلمية ( الماركسية ) ومع ذلك كانت طلبات الأسد أوامر لا ترد لدى القيادة السوفياتية وخاصة يوري أندروبوف. كان للمراقب عن بعد أن يعتقد بأن الضابطين بومدين من الجزائر وحافظ الأسد من سوريا إنما هما عميلان أميركيان معاديين للشيوعية لكنهما في الحقيقة، ولمفاجئة الجميع، عميلان سوفييتيان ومعاديان للشيوعية وللثورة طلبت إليهما القيادة السوفياتية أن يقوما على السلطة الإشتراكية الثورية في بلديهما ويخنقا كل قوى التحرر الثورية فيهما ويصادرا كل الحريات العامة لشعبيهما. تحت هذين العميلين السوفياتيين، حافظ الأسد والهواري بومدين، أصبحت سوريا، قلب العروبة النابض، والجزائر، بلد المليون شهيد، أصبحتا سجناً خانقاً لشعبيهما. إنطفأت شعلة الثورة في كل من سوريا والجزائر الإنطفاء الذي نادى به خروتشوف ورفعه شعاراً عالياً لثورته المضادة. لقد قام هذان العميلان بسحق بلديهما تماماً تحت نعال بساطير العسكر.
انقطعت أخبار الجزائر تحت بومدين ولم يتسنَ مراقبة أمورها عن كثب خاصة وأنها في أقصى المغرب العربي بخلاف سوريا الجارة التي لا بد وأن يسمع لهاثها وهي تكابد الإفتراس.

نذكر دخول الدبابات السورية شمال الأردن لمساعد الفدائيين الفلسطينيين في مواجهة الجيش الأردني في أحداث أيلول الأسود 1970. تعرضت تلك الدبابات لقصف جوي من قبل عدد محدود من المقاتلات الأردنية ثم ما لبث الطيران الإسرائيلي أن بدأ يهدد أمن وسلامة القوات السورية، كما بدأ الأسطول السادس الأميركي بإنزال المارينز في (أضنة) التركية القريبة من سوريا. إذّاك دب الرعب في أوصال القيادة في الكرملين فأرسلت طلباً عاجلاً إلى الحكومة السورية يقضي بسحب قواتها من الأردن في الحال. تجاهلت الحكومة السورية هذا الطلب غير المتوقع. لكن حين طلبت رئاسة الأركان السورية quot; صلاح جديد quot; من قائد سلاح الطيران quot; حافظ الأسد quot; أن يوفر الحماية الجوية للدبابات السورية المكشوفة حينذاك، وكان واجبه العسكري والوطني أن يفعل ذلك حالاً ودون أدنى ترر، فوجئت القيادة بالأسد يرفض تنفيذ الأمر العسكري. القاعدة العامة في مثل هذه الحالة تستوجب المحاكمة الآنية والحكم بالإعدام رمياً بالرصاص. لكن التقاليد البورجوازية في حزب البعث لم تكن لتسمح بذلك. كيف تجرأ الأسد أن يرفض تنفيذ الأمر العسكري في حالة الحرب ودباباته تتعرض للقصف الجوي؟ ألم يكن ذلك الرفض تنفيذاً للطلب السوفياتي. عدم توفير الغطاء الجوي حدا بطواقم الدبابات إلى ترك دباباتهم في الموقع والعودة هروباً إلى سوريا.
في نقاش حاد مع أحد أعضاء القيادة القومية المحترمين جداً من كتلة جديد ـ الأتاسي قصّ علي هذا العضو الطيب كيف أن السفارة السوفياتية في دمشق اتصلت هاتفياً ذات مساء من أواخر تشرين أكتوبر 1970 بالقيادة القومية لتعلمها بأن لدى السفير السوفياتي رغبة في زيارتهم. رحبت القيادة بالزيارة وحين جاءها السفير مستعجلا طلب إلى المسؤول أن ينقل لقيادة الدولة استياء القيادة السوفياتية من روح المغامرة السائدة في السياسة السورية. وكان رد المضيف في الحال أن السياسة السورية يقررها الحزب بصورة ديموقراطية ولا تخضع لرغبات فردية. لـدى علم قيادة الدولة برسالة السفير فضلت تجاهلها لأنها خارجة على اللياقة. لكن لدهشة الجميع وبعد أقل من أسبوعين جاءت رسالة مكتوبة هذه المرة وبنفس المعنى من القيادة السوفياتية إلى القيادة في سوريا. لم يكن لدى نور الدين الأتاسي رئيس الجمهورية أو يوسف زعيّن رئيس الحكومة أو صلاح جديد رئيس الأركان جواب رفاقي لمثل تلك الرسالة المستهجنة فاستمروا في تجاهل الأمر. لم تمضِ أيام كثيرة بعدئذٍ قبل أن يقوم حافظ الأسد بإنقلاب رجعي سماه quot;الحركة التصحيحيةquot; في 16 نوفمبر 1970 ويسوق كل رفاقه في القيادة إلى السجن لتبلى حيواتهم فيه، ذلك الإنقلاب الذي عرف شعبياً بانقلاب quot; تجار سوق الحميدية quot; الذين قاموا بتوزيع الحلوى على المارة في السوق. والمفارقة الكبرى الدالة هنا هو أن قائد الإنقلاب، حافظ الأسد، تأخر في تشكيل حكومته لأكثر من أسبوعيين، علماً بأن الإنقلابيين عادة لا يتأخرون ساعة عن تشكيل حكومتهم بسبب خطورة ذلك على مصائرهم، تأخر لأن الشيوعيين بقيادة خالد بكداش لم يوافقوا خلالها على الإشتراك في الحكومة بسبب معارضتهم للإنقلاب إلى أن صدعوا أخيراً للضغط من قبل موسكو ( بوريس بونامارييف ) وشاركوا بوزيرين ـ مع أن الرجل الثاني في الإنقلاب، عبد الحليم خدام، برر الإنقلاب كونه قطع الطريق على quot; الرفاق quot; الذين تأثروا بقادة الدول الإشتراكية في شرق أوروبا وقرروا أن يحذوا حذوهم في تطبيق الإشتراكية السوفياتية.

في التاسع من حزيران 1982 تمكنت إسرائيل من تدمير القواعد الصاروخية للجيش السوري في وادي البقاع معددها 19 قاعدة بالإضافة إلى إسقاط 22 مقاتلة سورية من طراز ميغ 21 و23 ودون أن تسقط ولو طائرة واحدة إسرائيلية وهو ما شكلّ قصم ظهر الجيش السوري. بعد عدة أيام توجه السيد محسن ذلّول وكان نائب رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي اللبناني وعلى علاقة وثيقة بحافظ الأسد، توجه إلى دمشق لتعزية الأسد بالخسائر البشرية للجيش السوري ولإبداء التضامن الذي لا يتزعزع مع الشقيقة سوريا بالرغم من قيامها باغتيال الزعيم التاريخي كمال جنبلاط. يقول ذلول أنه وجد الأسد محبطاً وبمعنويات هابطة تماماً. تنبّه الأسد للأمر ومن قبيل الحرص على ألا ينقل ضيفه مثل هذا الإنطباع قام بافشاء سر كبير من شأنه أن يرفع المعنويات الهابطة. قال الأسد لصديقه المقرب جداً.. quot; لا تهتم، لي صديق صدوق في موسكو طمأنني إلى أنه سيعيد سريعاً التوازن الإستراتيجي مع إسرائيل لصالح سوريا وأنه سيجعل من لبنان مستنقعاً ساخناً تغرق فيه الولايات المتحدة الأميركية quot;. ولما استعظم ذلول الوعد سأل الأسد.. quot; ومن هو هذا الصديق الصدوق؟ quot; قال الأسد quot; أندروبوف، يوري أندروبوف quot; وأندروبوف لمن لا يعلم كان في حزيران ما زال رئيساً للمخابرات(KGB) قبل أن يصبح رئيساً للإتحاد السوفياتي في نوفمبر، بعد خمسة شهور.
السؤال المفصلي في هذا السياق هو.. كيف لرئيس دولة أن يصادق رئيس جـهاز مخابرات دولة عظمى مثل (KGB)؟ مثل هذا الأمر هو من أولى المحاذير في العلاقات الدبلوماسية. التفسير الوحيد لهذه الحقيقة هو أن quot; الصداقة quot; كانت قد بدأت حين كان الأسد مجرد ضابط طيار صغير مبعوث في دورة تدريبية للإتحاد السوفياتي عامي 1959 و1960 وقد غدت المخابرات السوفياتية بحاجة إلى عملاء فيما كانت تسميه الدوائر السوفياتية في عهد خروتشوف quot; بؤر التوتر quot; وهي تفاوض الغرب الإمبريالي على إطفائها، وحين كان أندروبوف المسؤول عن قسم الإتصالات (Liaison Dept.) مع البلدان الإشتراكية وهي الدائرة ذات العلاقة الوثيقة مع المخابرات (KGB). quot; الصداقة quot; التي تفاخر بها حافظ الأسد، وحق له أن يفعل ذلك، كانت قد قامت فعلاً بين الضابط المتدرب الطيار حافظ الأسد ومدير قسم الإتصالات مع البلدان الإشتراكية والصديقة يوري أندروبوف ؛ حقّ له أن يتفاخر ليس فقط لأن المخابرات السوفياتية صنعت منه، وهو الضابط الصغير المغمور عام 1959، صنعت منه رئيساً للجمهورية السورية التي طالما لعبت دوراً محورياً في تقرير سياسات المنطقة ومصائرها بل أيضاً لأن الإتحاد السوفياتي كان قد قرر التخل العسكري الواسع في الحرب بعد أن خسر الجيش السوري أهم المعارك في الجولان، أكتوبر 73، وغامر بالدخول في حرب عالمية نوويه من أجل حماية نظام الأسد ؛ ومرة أخرى سارع السوفيات إلى إعادة التوازن الإستراتيجي لصالح الأسد حالما فقده في المواجهة مع سلاح الجو الإسرائيلي في 9 يونيوه 1982. بتفاخر كان الأسد يروي كيف أن صديقه الصدوق، يوري أندروبوف، رئيس جهاز المخابرات السوفياتية آنذاك، في العاشر من يونيوه ليسأله عن أعداد الطائرات من نوع ميغ 21 وميغ 23 وفيما إذا يحتاجها مع طيارين أو بدون طيارين !! مع الوعد بأنه سيجعل من لبنان سبخة حارقة تحرق مؤخرات الأمريكان !! ـ ولسنا ننسى هنا الرسالة التي وجهها بريجينيف إلى quot; الرفيق quot; بومدين quot; بتاريخ 21 أكتوبر يذكره فيها بواجب تأمين التضامن العربي الكامل مع كل من سوريا ومصر.

بعيداً عن كل اجتهاد وما يتبعه من استنتاج فإن الحقائق الماثلة بكل وضوح أمام أنظار كل العرب هي أن حافظ الأسد قام بخنق الثورة العربية في دمشق الشام وقام الهواري بومدين بخنق الثور الجزائرية في الجزائر؛ وأن هذين الضابطين الإنقلابيين احتفظا بشكل خاص من دون سائر الزعماء العرب بأطيب العلاقات مع السلطات الحاكمة في الكرملين بالرغم من أنهما إنقلبا على أحمد بن بلاّ وجماعة جديد ـ الأتاسي وهؤلاء جميعاً من المؤمنين بالإشتراكية الماركسية !!

تلك هي الحقائق التي لا يجوز لأي مفكر عربي إغفالها وله بعد ذلك ألا يشاركني فيما ذهبت إليه من استنتاجات.

عبد الغني مصطفى