(2-4)

يبدو الولاء للطائفة أو التعصب الطائفي أشد الأخطار فتكاً بوحدة العراق، إذ إنه يتجاوز الهوية الوطنية، هذا من جهة. ومن الجهة الأخرى فإن الولاء للطائفة (أو التعصب الطائفي) هو أشد انتهاكات حقوق الإنسان فيـه. ومنذ أن احتلت أمريكا ودول التحالف العراق في التاسع من أبريل (نيسان) 2..3، ازدادت عمليات التصفية الطائفية والسيارات المفخخة والعبوات الناسفة والقتل على الهوية التي تستهدف في معظمها أفراداً من الطائفة الشيعية، مثلما أن هويات طائفية وقومية ودينية أخرى قد تستهدف بهذه العمليات... إذ لا زال العشرات يومياً يسقطون ضحايا للتعصب والتطرف الطائفي.
وعلى الرغم من إن انقسام الجماعة الإسلامية في العراق إلى طائفتين رئيستين يعود إلى مرحلةٍ مبكرة من التاريخ الإسلامي، بعكس ما يشاع جهلاً، من أن هذه الظاهرة كانت نتاجاً متأخراً وبفعل عوامل ومؤثرات خارجية، إذ أن ظاهرة الانقسام والتجزؤ هي ظاهرة طبيعية وتاريخية عرفتها كل الأديان وعكست باستمرار (أو تأسست على) مصالحوانقسامات اجتماعية أو إثنية في الجوهر أو رؤى واجتهادات فكرية أو تفسيرية، ولا يشذ الإسلام عن ذلك. وقد نشأ التشيّع كما هو معلوم لمن يتناول التاريخ الإسلامي وفق منهج ورؤى موضوعية تلبية لمطالب وحاجات وانعكاساً لانقسامات ومصالح، وقد وقفالمذهب الشيعي نداً وناقداً لفكر وممارسة مؤسسة الخلافة طيلة قرون عديدة، مما جعل أتباعه ومعتنقيه عرضة لاضطهادات وضغوط استمرتلقرون طويلة وخلفت جراحاتٍ عميقة. ولم يختلف الأمر كثيراً أيام الخلافة العثمانية. ولأن العراق كان، تاريخياً، مركز نشؤ التشيع كظاهرة تاريخية، ولأنقطاعاً لا يستهان به من سكانه كان قد تأثر به ونشأ على اعتناقه، فقد تعرض هؤلاء باستمرار إلى التمييز والقمع من قبل السلطات العثمانية، أو على الأقل الإهمال والإقصاء، واعتمدت الدولة العثمانية في التعامل مع العراق وولاياته على أساس تقريب السنة واعتمادهم وكان ذلك من أسباب تعزيز مشاعر الانقسام، وأسسه الاقتصادية والاجتماعية().
والأمر الواضح خلال التاريخ السياسي للعراق هو إقصاء الشيعة عموماً عن السلطة، خلال قرون طويلة. ولم يعوضّ عن ذلك إلا قليلاً فرض الصفويين المذهب الشيعي على إيران في القرن السادس عشر، أو تحول عدد لا بأس به من قبائل جنوب العراق إلى المذهب الشيعي، أو الدفاع (غير الكافي) عن الشيعة، في وجه تعديّات الوهابين عليهم، والتي وصلت في مطلع القرن التاسع عشر إلى قلب مناطقهم في العراق.
لكن الشيعة، كشيعة، لم يكونوا يتحركون كثيراً لغرض مشاركتهم في القرار. كان هناك نوع من الاستكانة لغربتهم عن السياسة والمؤسسة السياسية، ونوع من التبرير الفقهي لتلك الغربة، هو لا شرعية الأمور كلها بانتظار عودة الإمام الغائب. وقد استفادت السلطات الحاكمة من هذا المنحى كثيراً(). وبالعودة إلى ساحات الصراع الطائفي نجدها مقتصرة على العلاقات الفارسية العثمانية وتنحصر ساحتها في العراق، البلد الوحيد الذي عانى معاناة شديدة من التناحر بين السنة والشيعة().

د. علي وتوت
باحث في سوسيولوجيا السياسة
[email protected]