دأب المعلمون والكتاب المغرورون ووعاظ السلاطين أن يلقنوا الأطفال أن من جد وجد وأن كل من سار على الدرب وصل، وأن النجاح بالمثابرة، والجد في الجد والحرمان في الكسل وأن مستقبل الفرد بيده إلى غير ذلك من أقاويل وأكوام الحكم والنصائح الفارغة. وهي نصائح لا بآس بها لتشجيع الأطفال والتلاميذ الصغار في المدارس على العمل والدراسة ولكن في الواقع نرى أن النجاح والرزق والتفوق ليس دائما من نتائج السعي والتدبير والمثابرة.إن حظوظ الإنسان في الدنيا متعلقة بالمجتمع الذي يعيش فيه. ف من ولد في فرنسا كان حظه أن يعيش صحيح البنية متعلما يتقن مهنة يعيش منها وأن يكون وافر الرزق آمنا في سربه وعنده قوت يومه ويتمتع بالضمانات الصحية والاجتماعية ولا يخشى من مخبر سري أن يكتب في حقه تقريرا كاذبا أو أن يمنع من مغادرة البلد لاعتبارات أمنية، ومن ولد في بلد من بلاد الشرق المنكوب بالاستبداد وطاعون الحزب الواحد ووباء الطائفية وآخر من شكله أزواج، من القبلية واحتقار المرأة والإيمان بالغدر وتأليه الزعيم وعبادة القوة، كان حظه إذا مرض لقي عناية مزرية في مستشفيات، الداخل فيها مفقود والخارج مولود، وأن يكون دخله الشهري لا يغني ولا يسمن من جوع. ومن ولد في كردستان هذه الأيام وكان كرديا عليه أن يعاني من واقعه المرير.ومن ولد في العالم الثالث عليه أن يجوع، ومن ولدت أنثى في بلد لم تحصل فيه المصالحة بين الدين والحداثة لن تتعلم. ومع هذا فقد يولد الإنسان في دولة فقيرة ثم يغيِّر مصيره كما حصل مع الفارين من جمهوريات الخوف والبطالة إلى الديمقراطيات الغربية التي تسبح في السمن والعسل. ومن كان من السعداء النجباء ولد حيث الإنتاج المعرفي ومؤسسات البحث ومصارف المال، ولو بقي ( أحمد زويل ) في مصر لما نال جائزة نوبل، ومات مكوما في أكفان ثقافة ميتة. ولكنها التربة الغربية التي جعلته شجرة باسقة وطلعها هضيم. وهناك الحظ الفردي كأن يولد الإنسان محظوظا فيكون ابن غني أو ذو سلطة ونفوذ في ( جمهلوكيات ) العربان، يأكل بصحاف من ذهب ويلبس ثيابا من موضات باريس ولندن وروما، أو بالعكس أن يولد من عائلة فقيرة ويضطر للعمل في الخليج براتب شهري بخس دراهم معدودة ويسكن مع خمسة أنفار في غرفة واحدة وهو مسرور. وهناك الحظ البيولوجي عندما تولد الفتاة وقد وهبت شكلا جميلا وأخرى دمامة وبشاعة فهذه لا يمكن تغييرها إلا قليلا رغم تقدم الجراحة التجميلية. كل الناس يتوقون للنجاح في حياتهم لان رحلة الحياة تمشي وفق رحلة الاكتمال ولكن الناجحين منهم قليلون لا يتجاوزن خمسة بالمائة من الناس حسب عالم النفس (بريان تريسي) وهم أولئك الذين حققوا أنفسهم.والنجاح الدائم حلم صعب التحقيق وبعيد المنال ويرى البعض إن النجاح يحمل بذرة فشله والفشل ليس رذيلة طالما لن يكون المحطة الأخيرة في تجارب الإنسان في الحياة بل يصبح الفشل فضيلة حين يصبح دافعا للنجاح وسلما للصعود والنهوض والدفع في الاتجاه الصحيح و تحقيق الأهداف.عندما فشل المخترع العظيم ( أديسون) في خمسة آلاف تجربة قبل إضاءة العالم لم يعتبر عمله فشلاً بل كان يردد: (أنا لم أفشل خمسة آلاف مرة.. أنا تعلمت خمسة آلاف طريقة جديدة). وليست هناك مشكلة بدون حل وابحثوا تجدوا واقرعوا يفتح لكم واطلبوا تعطوا. والمجتمعات الغربية اليوم لم تعد تعتبر التفوق الدراسي معيارا فاصلا للنجاح العملي ولا للفهم النظري وإنما هو مؤشر واحد من بين مؤشرات كثيرة ومتنوعة. لذا نراها تشجع البزوغ والإشراف للمواهب المتفتحة خارج الأسوار المدرسية وتجعل النجاح العملي هو المعيار الأساسي في تقييم الأفراد. ومن المعلوم أن الكثيرين من المبدعين والمتميزين في العلم والفكر والفن والأدب وفي القيادة الاجتماعية والإدارية والسياسية لم يكونوا ناجحين بالمعيار المدرسي ف (توماس أديسون) و ( دالتون ) و ( جيمس وات ) و ( أناتول فرانس ) و ( جان جاك روسو ) و ( جورج برنارد شو ) و ( إرنست همنجواي ) و ( جورج أورويل ) و ( وليم فولكنر ) و ( انطونيو غرامشي ) و ( أندريه جيد ) و ( مارسيل بروست ) و ( هنري ميللر ) و ( تولستوي ) و ( مكسيم غوركي ) و ( غوستاف فلوبير ) و ( أوسكار وايلد ) و ( جورج صاند ) و ( غابريل غارسيا ماركيز ) وغيرهم من ذوي الشهرة العالمية الذين توقفوا في الدراسة النظامية بعد المرحلة الثانوية أو مادونها و كذلك هناك أسماء كثيرة في العالم العربي نذكر من بينها ( عباس محمود العقاد ) و ( محمد حسنين هيكل ) و ( حنا مينا ) و ( محمود درويش ) و ( غسان كنفاني ) و ( جمال الغيطاني ) و ( محمود شاكر ) و ( كاتب ياسين ) وغيرهم من المبدعين الذين لم يكونوا متفوقين بالمعايير المدرسية ولكنهم في الذروة بمعايير الثقافة والفكر والعلم والفن والأدب والإبداع.

وذات يوم تلقيت بالبريد الالكتروني كلاما جميلا عن الفرق بين الناجح والفاشل وفكرت في نشره هنا بعد التعديل عليه ليعم التفاؤل والفائدة، فالفرق بين الناجح والفاشل أن الناجح يفكر فيه الحل والفاشل آخر ما يفكر في الحل ويلقي اللوم على الأقدار وينسب فشله على الآخرين. والناجح يرى حلا لكل مشكلة والفاشل يرى مشكلة في كل حل.و الناجح يقول: الحل صعب لكنه ممكن والفاشل يقول: الحل ممكن لكنه صعب.والناجح لا تنضب أفكاره والفاشل لا تنضب أعذاره.و الناجح يساعد الآخرين والفاشل يتوقع المساعدة منهم.و الناجح لديه أحلام يحققها والفاشل لديه أوهام وأضغاث أحلام يبددها.والناجح يقول: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك والفاشل يقول: اخدع الناس قبل أن يخدعوك. والناجح يرى في الدنيا أملاً والفاشل يرى الدنيا ألماً. والناجح يختار فيقول والفاشل يقول كيفما كان. والناجح م ت فائل وفعال والفاشل متشائم وسلبي.والناجح يتعلق بجلائل الأعمال وعظائم الأمور والفاشل يتعلق بالترهات والقشور وسفا سف الأمور.وبكلمة أخرى الناجح يصنع الأحداث والفاشل تصنعه الأحداث.

في الواقع للفشل أسباب كثيرة منها: ما يتعلق بالشخص نفسه من ضعف الهمة وقلة الخبرة، وتعجُّل النتائج والتسرع بالإضافة إلى نقص القدرات والخوف المرضي من الفشل وعدم الثقة بالنفس.وكذلك التقصد والتكلف والتعجل يكبت ويقمع وحي اللاشعور ويكون وراء فشل الإنسان.إن الإرادة وحدها لا تكفي للنجاح وربما تكون عقبة تعرقل سبيل النجاح أحيانا. فالنجاح على قدر الهدوء والعفوية والاسترسال وعدم التكلف.والكمال أمر اعتباري ولذا قيل الخطأ طريق الصواب. ومن أسباب الفشل كذلك ما يتعلق بالأهداف ذاتها، كأن تكون الأهداف مثلاً غامضة وغير محددة، أو تكون غير واقعية كأن يضع الفرد هدفا لإنجاز مشروع ما خلال فترة زمنية قصيرة في حين أن الوقت اللازم لإنجاز هذا المشروع يحتاج لفترة زمنية أطول مثلاً، كذلك يقع الفشل عندما تكون الأهداف روتينية لا ترتبط بالإثابة والتحفيز.
ومن أكثر أسباب الفشل داخل المؤسسات والمجتمعات النزاع وكثرة الخلافات.كذلك تفشل الإدارة عندما تتعدّد وتتضارب الأوامر والتوجيهات الصادرة للأفراد أو عند تعدّد القيادات للعمل الواحد، وتفشل الإدارة حين ينقصها المنهج والتخطيط العلميان، وحين تسند الأمور إلى غير أهلها.

وهنا يطرح على كل باحث ودارس سؤال له صلة مباشرة بموضوع النجاح والفشل وهو ما هي العبقرية؟ لايزال الباحثون وعلماء النفس والتربية مختلفين في تفسير العبقرية ويرى الكثيرون منهم أن ثمة تشابه بين بعض ظواهر العبقرية وعلامات الجنون.وفي اللغة العربية تنسب كلمة العبقرية إلى وادي عبقر وهو واد تسكنه الجن حسب اعتقاد عرب الجاهلية.وحسب عالم الاجتماع ( علي الوردي ) فان القوى النفسية الخارقة تنبعث من أغوار النفس العبقرية حيث يستطيع أن يرى ثمة ما لا يراه المتحذلقون والمتكلفون. ويرى أن تطور المجتمع البشري ناجم عن المنافسة الحادة التي تدفع كل فرد لأن يبرع ويتفوق على غيره، فالتطور قائم على أكوام أبدان الضحايا، أبدان أولئك الذين فشلوا في الحياة، فصعد على أكتافهم الناجحون.لقد ثبت علميا بأن قسطا كبيرا من هذه الانجازات الخالدة التي قام بها هؤلاء الناجحون والنابغون جاء نتيجة الإلهام الذي انبثق من أغوار اللاشعور. أما الأديب الانكليزي المعروف ( كيتس ) قال انه كان يشعر عند الإنتاج بأن شخصا آخر في داخله يملي عليه، وهو لا يكاد يدرك جمال الأفكار التي يأتي بها إلا بعد أن ينتهي من كتابتها. ولقد بحث ثلاثة من كبار الفلاسفة في ظاهرة العبقرية وهم ( شوبنهور ) و ( هنري برجسون ) و ( آرنولد توينبي ).

فأما ( شوبنهور ) الألماني فيعتقد بأن العبقري يختلف عن الفرد العادي بشيء واحد هو قلة التقيد بما يتقيد به عامة الناس من اندفاع في سبيل الحياة وتنازع على البقاء.و إرادة الحياة في نظره هي الدافع الرئيس الذي يدفع الفرد العادي نحو أعماله وأفكاره المتنوعة وأما العبقري فهو يسمو عن ذلك ويحاول أن يفهم الحياة على أساس موضوعي بحت. يقول العبقرية هي الموضوعية الخالصة في الفكر.وهي تلك القوة التي تجعل صاحبها يهمل مصالحه ورغباته وأهدافه..وفي رأيه المعرفة هي التي تسير الحياة عند العبقري بينما هي تخضع لإرادة الحياة عند عامة الناس وهي مسيرة عادة في سبيل المصالح الشخصية والمنافع الخاصة.

و ( هنري برجسون ) الفرنسي يقول في تفسير العبقرية إن الإنسان ميال بطبيعته إلى موافقة الجماعة التي ينتمي إليها أما العبقري فيشعر انه ينتمي إلى البشرية جمعاء ولذا فهو يخترق حدود الجماعة التي نشأ فيها ويثور على العرف الذي يدعم كيانها. انه يخاطب الإنسانية كلها بلغة من الحب وكأنه إنسان من نوع جديد.ويرى برجسون بأن العبقري فيه نزعة من التصوف، ذلك انه حين ينغمر في ساعة الإبداع يغيب عن وعيه ويدخل ما يشبه الوجد الصوفي أو الغيبوبة.ويرى المؤرخ والفيلسوف الحجة ( توينبي ) الانكليزي أن العبقرية هي سبب التطور في المدنيات البشرية.فالفرد العادي في نظره محافظ جامد يميل إلى التشبث بالعادات الموروثة أما العبقري فهو على النقيض من ذلك يحب الإبداع والثورة على التقاليد.إن العبقري يشعر انه بأنه مكلف برسالة وكثيرا ما يحب الفناء في هذه الرسالة بحيث يصبح كالعاشق الولهان لا يعرف من الدنيا إلا إياها،فهو مقلق للنظام الاجتماعي مهدد لكيانه إذ هو يبغي أن يحوله من حال إلى حال ولا يبالي أن ينال في سبيل ذلك ما ينال. وفي عام 1982 جاء الباحث الأمريكي ( هوارد غاردنر ) بنظرية جديدة مفادها إن الذكاء ليس نوعا واحدا بل هو سبعة أنواع. فآينشتاين صاحب نظرية النسبية كان في طفولته لا يجيد الكلام وظل كذلك حتى آخر حياته.وقد ظن أهله أنه لا خير فيه لأنهم كانوا يقيسون الذكاء بفصاحة اللسان وجودة النطق فهم لم يكونوا يعرفون أن آينشتاين (توماس أديسون) لديه درجة عالية من نوع آخر من الذكاء ولو عاش آينشتاين في مجتمع متخلف لما تمكن من استثمار ذكائه الممتاز ولبقي طيلة حياته لا خير فيه.واليوم نحن نعرف أن الذكاء ليس عقلا صرفا بل عقل وعاطفة. ويروى عن (توماس أديسون) انه وصف الاختراع الذي يبدعه أي مخترع بأنه في معظمه حصيلة الجهد والتعب أما الإلهام فليس له في انجاز الاختراع سوى نصيب قليل جدا.إن الله يخلق البشر من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً فيجعل لهم السمع والبصر والفؤاد، وما يجعل الإنسان ينمو هو العلم، وقل رب زدني علما، ورجل صالح عالم علم النبي موسى الأسرار. وليس هناك من إنسان متفوق وإنسان دون ذلك إلا بالجهد والاهتمام القوي.وان جهدا علميا متتابعا مكثفا لعشر سنوات يجعل من العادي عبقريا ومن المهمل عالما كبيرا، علمه من علمه وغفل عنه من غفل، ومن يغفل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه. لا يولد الإنسان بقدرات وإنما يولد بقابليات و القدرات يجري تكوينها وبناؤها من الطفولة إلى الشيخوخة بالثقافات والقيم. هذه القدرات في حالة تغير وصيرورة ولا يمكن أن تبلغ الكمال. والإنسان في معادلة هو خلاصة مكثفة للجهد الواعي في وحدات الزمن المتدفقة. والمجتمع لا يتقدم إلا بالفكر على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع، و التاريخ تقدمي. وقراءة التاريخ مفيدة لمعرفة منحى حركته. وأما الزبد فيذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض.

صبحي درويش