من المؤشرات المقلقة الجديدة التي برزت على الساحة العراقية هي الدعوات غير السليمة التي خرج بها مؤتمر العشائر العراقية وبعض الأطراف العراقية في الفترة الأخيرة المتعلقة بوقف العمل بالنظام الفيدرالي مؤقتا وتعديل الدستور العراقي الذي وافق عليه الشعب في استفتاء ديمقراطي قل نظيره في المنطقة ليكون الوثيقة المرجعية لإدارة الدولة العراقية في العهد الجديد، في واقع الامر ولا شك ان إطلاق هذه الدعوات غير الوطنية تشكل مسالة في غاية الخطورة لأهميتها على الأوضاع الراهنة على الصعيدين العراقي والكوردستاني لأن مسألة تعديل أو تغيير الدستور وفق طروحات لا تخدم المصلحة العليا للعراق الجديد لأنها تحمل بوادر خلافات جديدة تضر بالأطراف العراقية وهي قد تكون من ورائها أيادي غير عراقية تريد لهذا البلد الجريح الوقوع في كوارث وفواجع جديدة تزيد من المأساة الكبيرة التي يعيشها العراقييون ليطيل أمد الحالة الدموية التي يعيشها العراق على مر فترة سنوات بعد سقوط صنم الطغيان بسبب مصالح قوى داخلية وبسبب تصفية حسابات خارجية مرتبطة بالصراعات الإقليمية والدولية الجارية في المنطقة على حساب العراقيين. ومما يؤسف له ان بعض الشخصيات العشائرية الكوردية قد شارك في هذا المؤتمر مما أضفى على المؤتمر طابع الشمولية العراقية.
لا شك ان هذه الدعوات غير البريئة بهذه النيات غير الصائبة من قبل جهات وفئات عشائرية لا تملك اهتماما للثقافات الليبرالية والحقوقية المرتبطة بالإنسان وفق المفاهيم الدولية الحديثة ولا تملك أرضية صائبة لتحديد العلاقات بين المجاميع القومية والأقلية للعيش المشترك داخل الدولة الواحدة مع الإقرار بالحقوق القومية والأقلية لكل إقليم لحماية الموروث القافي والقومي لكل مجموعة سكانية او بشرية، ستكون وبالا على مجمل الثقافة الوطنية للأمة العراقية التي رسمت لنفسها الإطار العام الذي يعيش فيه العراقييون وفق مفاهيم دستورية جديدة لمنح الحقوق الأساسية لكل فرد للمشاركة في صنع القرار السياسي على نطاق الدولة.
لهذا نأمل أن تكون الدعوة غير العقلانية التي أطلقها بعض الأطراف والتجمع العشائري في العراق سحابة صيف لا استقرار لها، ونأمل أن يساعد المنظور الشرعي للدستور على تغيير التصورات الخاطئة المرسومة لدى البعض بخصوص الدستور الذي يشكل اكبر ضمانة للحفاظ على العراقيين تحت خيمة واحدة وفق معايير جديدة متفق عليها من قبل الجميع، للابتعاد عن الشريعة التي سادت العراق في عهود الانظمة الجائرة السابقة التي ضربت الشعب بكل وسائل القوة المفرطة في العنف والقتل والدمار، أنظمة كانت لها شريعة مستنبطة من قانون الغابة الذي دمر العراق وجلب المطاحن لحرق أبناء الأمة عبر عقود طويلة من الحروب والفواجع والكوارث، وهي شريعة صنعت من دهاليز الأيديولوجية الشوفينية الذي لم يأتي الا بالدمار والخراب للعراقيين عامة وللكورد خاصة، تارة بإسم القومية وتارة بإسم العروبة وتارة بإسم الإسلام.
وكما جاء في الأخبار أن شيوخ العشائر العراقية اتفقوا في مؤتمرهم على تأجيل العمل بنظام الفيدرالية لفترة زمنية، وهيئة العلماء للمسلمين تطالب من أجل الدخول في المصالحة بوقف العمل بالدستور، وهذا ما يجلب حالة عدم الراحة وعدم الاطمئنان والقلق الشديد الى توجهات هذه الإطراف العراقية، خاصة وهي تأتي وقت تسعى فيها حكومة السيد نوري المالكي توحيد كافة الصفوف للقضاء على الارهاب لتأمين الأمن والاستقرار في بغداد والمنطقة الوسطى والعراق بصورة عامة، ولا شك ان طروحات هذه الأطراف لا تصب في هذا المسعى الوطني الكبير بل تصب في باب فتح حسابات نحن في غنى عنها خاصة فيما يتعلق بالحقوق القومية الوطنية للشعب الكوردستاني ومنها كيانها الدستوري المعترف به وحكومتها الموحدة.
لهذا اننا في الوقت الذي نشد على أيدي شيوخ العشائر العراقية في مقرراتهم التي أكدت على حرمة الدم العراقي والقتل على الهوية، وتحريم التهجير القسري ومقاضاة كل من يقوم بذلك، والمحافظة على وحدة العراق والتأكيد على دور العشائر العراقية وتعويض العراقيين المتضررين من جراء الأعمال الإرهابية وفتح فروع للجان المصالحة الوطنية في المحافظات من اجل ان يكون لها دور فعال في تنفيذ بنود المصالحة وإعادة البنى التحتية للبلاد والتخلص من البطالة وإيقاف هجرة العقول المفكرة من العراق والعمل على إعادتها، الا إننا في نفس الوقت لا نرى ضرورة ومصلحة للبلاد في الدعوات التي دعوا اليها شيوخ العشائر العراقية في مؤتمرهم بخصوص تعديل الدستور والوقف المؤقت للعمل بالنظام الفيدرالي، لان هذين الأمرين يمثلان الشعرة الرفيعة التي تمسك بوحدة البلاد في الواقع الراهن وفي حالة قطع هذه الشعرة فان اتجاهات الأوضاع في العراقي ستأخذ أبعادا غير متوقعة وأوضاعا غير مطمئنة لصالح الحفاظ على وحدة العراق وهو الحرص الذي يتمسك بها الشعب الكوردستاني بكل قوة لحماية هذه الوحدة لصالح توحيد العراقيين تحت خيمة أمة واحدة مع الإقرار بالحقوق الدستورية لكل الأطراف العراقية ومن ضمنها الحقوق الوطنية والقومية للكورد.
واستنادا الى القراءات المستنبطة من الدعوات التي خرج بها مؤتمر العشائر العراقية والمطالب التي طرحتها بعض الجهات العراقية، فان القلق الذي تولد بهذا الشأن بخصوص الفيدرالية وتعديل الدستور يشكل مصدر خطر جدي على العلاقة التي تربط الكوردستانيين بالعراق ولكي لا تأخذ هذه الدعوات أبعادا أكثر لشق الصف والترابط الوطني العراقي الكوردستاني والذي يحرص عليه الكورد وقيادته السياسية كل الحرص للحفاظ عليه، فان المؤتمر بحاجة الى إعادة النظر في هذين الأمرين وإعلان التراجع عنهما لكي يكون التركيز مركزا على الدعوات الأخرى المتعلقة بترتيبات الوضع الأمني في العراق والعمل على تحقيقها لمصلحة العراقيين، وكذلك الأمر بالنسبة لهيئة علماء المسلمين، ولا شك ان دعوتنا هذه لم تأتي من القراءة اليسيرة لمقررات الطرفين إنما تأتي نتيجة لما تتضمنها السطور فيها وما تحويها ما بينها، لأن خروج مثل هذه المقررات لا تحمل نيات طيبة ولا تحمل رؤى وطنية صادقة باتجاه المصالحة وباتجاه حل الوضع العراقي.
ولهذا في الوقت الذي نؤكد على الرؤية الوطنية الايجابية تجاه العراق وتجاه إبداء الحرص على الحفاظ على وحدته السياسية والوطنية فإننا لا نخفي القلق من خطورة إطلاق مثل هذه الدعوات غير البريئة المتعلقة بتعديل الدستور وإعادة النظر في النظام الفيدرالي في هذا الوقت بالذات، وفي الوقت نفسه نحذر أن تكون عملية المصالحة الوطنية العراقية على حساب الشعب الكوردستاني لان الحالة السياسية والدستورية التي وصل اليها الكوردستانيين لم تأتي استعطافا من احد ولا هبة من دولة أو نظام، وإنما وصل اليها الشعب الكوردي بفضل نضاله وكفاحه من أجل نيل حقوقه الوطنية والقومية على مر عقود طويلة دفع من أجلها مئات الألوف من الضحايا والشهداء وضحى من أجل هذه المطالب العادلة كل غالي وكل نفيس، والمسيرة النضالية للحركة التحررية الكوردية بكفاحها السياسي و بقواتها النظامية من البيشمركة مشهود لها على هذا الصعيد على المستوى العراقي والإقليمي والدولي.
لهذا وكما جاء في تصريح رئاسة الاقليم في كوردستان بخصوص الدعوات والشروط التي أطلقها بعض الجهات العراقية بخصوص المصالحة العراقية ليست في محلها، وأكد على quot;أن موقف كوردستان في غاية الوضوح والشفافية وهو اننا مع عملية المصالحة الوطنية بالكامل ونفضل مشاركة كافة الأطراف لتأسيس عراق فدرالي وديمقراطي ونؤيد فدرالية الجنوب والوسط بشكل الذي تقره جماهير الإقليمين، ولكن الشيء الذي لا يمكن قبوله هو استكمال هذه العملية على حساب شعب كوردستانquot;، وأكد أيضا quot;ان الذين يريدون بقاء العراق موحداً، عليهم الكف عن الحكم الشمولي والتسلط ويجب عليهم الالتزام بهذا الدستور الذي صوت عليه واقره أكثرية الشعوب العراقية وتقدير إرادة شعب كوردستان عن شكل الفدرالية التي اختارها هذا الشعب ونعلن تأكيدنا الالتزام بهذا الدستور الذي صادق عليه أكثرية الشعوب العراقيةquot;.
بعد هذا العرض للرأي نؤكد من جديد ان إطلاق مثل هذه الدعوات غير الوطنية ليست في صالح العراقيين وهي تحمل بذور شريرة في مكوناتها وهي لا تحمل احترام ولا تقدير للاتفاق الذي أجمع عليه العراقييون من خلال تأييدهم للدستور العراقي الدائم الذي أقر شكل الادارة الدستورية للبلاد من خلال تحديد سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهي الأسس الجديدة التي أخذت طريقها الى العراق في العهد الجديد بعد تخلص العراقيين من عهود الظلام والطغيان والاستبداد.

د.جرجيس كوليزادة
كاتب كوردي عراقي
[email protected]