quot;لانريد تغييرالنظام وإنما نريد تغيير سلوكيته quot;؛ هذه العبارة المبهمة، المتخمة بعناصر التعارض والتناقض، القابلة لمختلف التأويلات والتخريجات، يتردد ذكرها هنا وهناك على ألسنة المسؤولين الأمريكيين في سياق تناولهم لموقف إدارتهم من النظام السوري. فهم يعتبرون أن المشكلة تكمن في جملة المواقف التي يتخذها، ويتمسك بها أصحاب القرار في الحلقة الضيقة التي تسّير النظام. أما طبيعة النظام نفسه التي تتشخص في افتقاره إلى الحدود الدنيا، بما في ذلك تلك الشكلية التي تمنح السلطة السياسية في أية دولة السيادة والمسوّغ والهيبة؛ إن الطبيعة المعنية تظل خارج حدود دائرة عدم الرضى، لإنها - وفق ما يذهب إليه هؤلاء- تخص السوريين وحدهم على المستويين الرسمي والشعبي. هذا مع أن الجميع يدرك أن النظام المذكور يستمد أسباب بقائه من العرّاب الدولي، وقبول النظام العربي الرسمي. والكارثة الكبرى بالنسبة إلى الزمرة الحاكمة في سورية تتجسّد راهناً في المخاطر التي تلوح في الأفق، وتنذر بإمكانية رفع الغطاء الدولي، وانحسار المباركة العربية، ألأمر الذي سيكون مؤداه العراء السياسي الذي سيكشف المستور على حقيقته، بعيداً عن رتوش التزيين والتزييف.
لكن المهم والأهم بالنسبة إلى الشعب السوري بكل انتماءاته من دون أية استثناءات يتمثل في ضرورة تغيير النظام نفسه، الأمر الذي سيترتب عليه سلوك جديد يتمفصل حول الهم الوطني، وينسجم مع المستجدات الاقليمية، ويمدّ جسور التفاهم والمصالح المشتركة مع المحيط الدولي.
فالسلوكية المرضية التي عانى منها الداخل السوري على مدار عقود طويلة، وما زال يئن تحت وطأة ممارساتها النزواتية التي توجهها المصالح الأنانية، إنما هي حصيلة طبيعية لوضعية غير طبيعية، فرضت على الشعب والوطن منذ الاستيلاء المسلح الأخير على السلطة عام 1993. وضعية تفاقمت نتيجة التفاعل مع التصفيات الداخلية؛ وأدت في نهاية المطاف إلى واقع الحال الذي يجسد امتداداً وتكريساً لسيطرة لامشروعة على السلطة، سيطرة لم تتمكن من الاستحواذ على عقول الناس وأفئدتهم؛ فاختار أصحابها سبيل المواجهة مع الجميع، معتمدين أسلوب إثارة النعرات، ودغدغة المشاعر المللية، وكل ذلك في إطار لعبة تقضي قواعدها أن تكون الخيوط جميعها في قبضة زمرة القرار الشبحية، الزمرة التي تكبّل الوطن وأهله بأحزمة من أجهزة اخطبوطية تحصي الأنفاس، وتتحكم في الأرزاق والمصائر، وتتنصّل من الأوزار جميعها بفضل يافطة الحزب المنقاد والحكومة المحكومة.

والتغيير المنشود للنظام لن يكون مجدياً ما لم يكن في إطار مشروع وطني يقطع الصلة مع العصبيات بأشكالها ومسمياتها كافة. مشروع يحترم الحقوق والخصوصيات، ويطمئن الجميع - قوميات، أديان، مذاهب، طوائف، أتجاهات فكرية وسياسية، شرائح وأفراد ndash; بعهود مكتوبة ذات مصداقية راسخة، لاتتأثر بتصريحات صبيانية ساذجة، واخرى هستيرية غاضبة، تصريحات لايستفيد منها سوى النظام نفسه، هذا النظام الذي يستخدم الأوراق المذهبية والدينية والقومية بمثابة أدوات للتستّر والتفريق، وبث روح الإنكماش والتوجس لدى الجميع.
والمشروع الوطني المعني هذا لن يكون قابلاً للتحقيق ما لم تتفق فصائل المعارضة بمختلف أطيافها ومشاربها على ضرورة القطع مع النظام القائم بمعزل عن الخلفية الإنتمائية لممثليه. وبعيداً عن عقلية الثأر والإنتقام التي لن تضيف سوى الخراب إلى اليباب، والهباب إلى السراب، وستقوّض وحدة النسيبج الوطني السوري الذي ما زال يمثل الأمل والملاذ، على الرغم من كل الجهود الإيقاعية التي لم يتوان النظام عن الإقدام عليها بقصد تكريس روحية الخوف والتشكيك داخل المكوّن الواحد، وبينه وبين المكوّنات الأخرى، وضرب هذه الأخير بعضها ببعض، كل ذلك بغرض استمرار الإستبداد الشمولي، والفساد بصيغتيه: الفاعل والمفعول.
والقطع مع النظام المعني يستوجب قبل أي شيء آخر التحرر من هيمنة منظومته الشعارتية، وعدم الوقوع في براثن أحابيله التضليلة، والتعامل مع المعطيات والمعادلات الداخلية والإقليمية والدولية بموازين العقل الناضج الذي لا يركن إلى الانفعالات الهوجاء، ولايغترّ ببريق وصخب الأحاسيس الجيّاشة التي تكون غالباً آداة للتسطيح والتحكّم والتوجيه؛ خاصة في ظل واقع غياب الفعل المعارض المؤثر.
إن المنطقة بأسرها في طريقها إلى التغيير، وسورية شاءت أم أبت ستكون جزءاً من هذا التغيير؛ و السؤال الرئيس الذي يفرض ذاته بإلحاح في مجالس سائر السوريين هذه الأيام هو: هل سيقتصر التغيير على سلوكية النظام الذي يمنّي النفس في هذه الحالة بتجديد عقد التكليف، وفق شروط مغايرة تتوافق مع المستجدات؟ أم أن التغيير سيكون بنيوياً، يفسح المجال أمام نظام ديمقراطي، يستمد مشروعيته من مصالح الشعب السوري بكل انتماءاته وتوجهاته؛ نظام يضع البلاد على طريق الاستقرار الفعلي، والتنمية الحقيقية، ويمكّن سورية من أخذ موقعها الإقليمي البنّاء، ويمكنها من استعادة دورها الحضاري على المستوى الدولي.

د.عبدالباسط سيدا