في رؤية سابقة عن الخطة الأمريكية في العراق، قلنا أن الاستراتيجية الجديدة في حالة عدم احتوائها على برامج اقتصادية واجتماعية عاجلة، فان المعالجة العسكرية سوف لن تأتي معها أية حلول، وستظل الحالة العراقية تسير الى الأسوء وستتجه الى انهيار تام في البنية الحياتية وهذا ما سيحمل معها كارثة على العراقيين وعلى المنطقة برمتها. واليوم بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي عن الخطة الجديدة لمجابهة الإرهاب في العراق والسيطرة على الصراع الطائفي المتزايد فيه، تبين أنها تتضمن ثلاثة محاور أساسية، الأولى هي زيادة عدد القوات المسلحة الأمريكية المتواجدة في بلاد الرافدين بعشرين ألف جندي في المناطق التي توصف بالساخنة جدا والساخنة حسب الروزنامة الأمريكية العسكرية والتي تقع أغلبها في المناطق السنية في الوسط، والثانية هي توجيه ضربات عسكرية ساحقة الى مناطق النفوذ الإيراني والسوري المتواجدة على الساحة العراقية وهي في الأغلب تشمل ميليشيات محددة سيتم التعامل معها عسكريا للقضاء عليها، والثالثة هي تحديد ميزانية محددة بمليار دولار لتحسين الوضع الاقتصادي وإيجاد قرص العمل للعراقيين، على أن ترافق الخطة استراتيجية عراقية اقتصادية وسياسية لمعالجة الوضع من جميع جوانبه.
وكما قلنا في مقال سابق أن الإستراتيجية الأمريكية في العراق بعد سقوط نظام الرئيس العراقي الراحل، لم تقدر في المراحل اللاحقة من رسم طريق لوضع العراقيين على واقع جديد يختلف عن زمن الحكم السابق، بل على العكس فإنها فشلت في تغيير الوقع ايجابيا وخلقت معها حالة معقدة من الصراع العنيف بين مراكز وجماعات ومجموعات إرهابية وبين العراقيين على الساحة مع بروز صراع جديد وهو القتال الطائفي بين بعض المجموعات السنية وبعض المجموعات الشيعية في بغداد والمناطق المجاورة لها، حتى وصل الصراع الى تصفية مناطق سكنية كبيرة من تواجد المذهب الآخر مما خلق معه هجر وترحيل لعدد كبير من العوائل من مناطق سكناهم الى مناطق أخرى من العراق خاصة في إقليم كوردستان والمناطق التي تحظى بأغلبية كوردية.
ولغرض طرح هذه الرؤية بواقعية وموضعية فإننا نبين مظاهر فشل السياسة الأمريكية حسب الوقائع والأحداث التي جرت على الساحة العراقية منذ تواجد القوات المتعددة الجنسيات عليها، وهي كما بيناها في مقال سابق كما يلي: اجتياح الساحة العراقية من قبل الإرهاب الإسلامي الدولي حتى باتت مقاطعات كبيرة من الوحدات الإدارية العراقية ترضخ تحت سيطرة القوى الإرهابية خاصة في المنطقة التي تقطنها أغلبية سنية، مشاهد يومية دموية في بغداد وفي مناطق أخرى بفعل العمليات الانتحارية التي وجدت لنفسها من أرض العراق أرضية خصبة للفتك بأرواح الأبرياء من العراقيين صغارا وكبارا، تدهور اقتصادي رهيب في واقع الحياة المعيشية للعراقيين نتيجة تدهور الخدمات وفقدان الكهرباء وغياب الحاجات الأساسية للحياة العامة واليومية، ضمور أركان الدولة وغياب حضورها في تأمين الحاجات العامة للشعب، ظهور مجموعات إرهابية وإجرامية متخصصة بأعمال القتل والسلب والنهب والخطف والاغتصاب والسطو وارتكاب الجريمة المنظمة والخطف الجماعي لمجموعات كبيرة من المواطنين والعاملين في دوائر الحكومة، سيطرة المليشيات المسلحة التابعة للأطراف السياسية في السلطة على الساحة الحكومية والإدارية والحياتية في الشارع العام وفرض قوتها ودورها على أجهزة الشرطة والقوى العسكرية النظامية الحكومية لوزارتي الداخلية والدفاع، انشغال القيادات السياسية خاصة المتحكمة بالسلطة بالسيطرة على المال العام والموارد المالية والنفطية لأغراض شخصية وحزبية من خلال التحكم بالمنشآت والأنابيب ومؤسسات الصناعة النفطية في العراق، فقدان البرامج الحكومية لتأمين مستوى معين من المعيشة بالحد الأدنى للعراقيين فمواد البطاقة التموينية أصبحت تتلاشى ومحتويات السلة التموينية للعائلة العراقية أصبحت تتبخر وكأن هناك سلب ونهب للأموال المخصصة لهذا البرنامج، تبخر المساعدات والمعونات المالية الكبيرة التي أعلنت عنها السلطة الأمريكية بعشرات ومئات المليارات من الدولارات لأعمار العراق في مشاريع وهمية اشتركت فيها شخصيات سياسية أمريكية وعراقية وكوردية على نهبها واختلاسها، غرز حالة من الفساد الرهيب التي تقشعر لها النفوس في الواقع العراقي والكوردستاني والتي جعلت من العراق أن يحتل موقع متقدم في القائمة السنوية الأخيرة لمنظمة الشفافية الدولية دون حياء ودون خجل من أرباب سلطات الحكومة العراقية.
ومن باب الحيادية نقول إن مظاهر الفشل التي اتسمت بها السياسة الأمريكية في العراق كما بيناها في الصورة أعلاه جعلت من كل عراقي غيور على الوطن والشعب أن يلعن اليوم الذي سقط فيه نظام صدام، وجعل من كل عائلة عراقية أن تحن بكل شدة لأيام الحكم البائد بسبب التدهور الكبير الحاصل في البنية الأمنية والاقتصادية والاجتماعية للعراقيين مما أدى الى فرض نمط حياتي قاسي على المواطنين متسم بفقدان الأمان وغياب الخدمات والمواد وسيطرة الغلاء والتضخم على الأسواق، بينما النظام السابق بالرغم من قمعه واستبداده وطغيانه واضطهاده لمكونات الأمة العراقية بجميع قومياتها ومذاهبها ألا أنه كان في كل الأوقات حريصا شديد الحرص على توفير كافة الحاجات الأساسية من مواد غذائية ومحروقات والخدمات الرئيسية من كهرباء ومياه شرب وخدمات صحية وبلدية وبانتظام وبأسعار جدا مناسبة للمواطن والعائلة العراقية.
أمام هذا الواقع المأساوي الذي يعيشه أهل العراق، وأمام الحالة الجديدة لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية بطرح الخطة الجديدة وفق المحاور التي أسلفنا اليها، فإننا نقول أن الخطة لا زالت ناقصة وكنا نأمل أن تكون أكبر وأشمل من الرؤية المطروحة، لأن الحالة السياسية والإقتصادية التي يعاني منها الشعب العراقي والتي أسلفنا إليه بتلك المظاهر المخربة للبنية الحياتية العراقية، بدأت تسيطر عليها المقومات الاقتصادية والمعيشية، لهذا فإن الحالة تسترعي انتباها أشد وتركيزا أكثر ورؤية أشمل لمعالجة الحالة العراقية من باب الحكمة والتعقل، وليس الى فتح محاور جديدة لخلق أزمات جديدة قد تخلق معها مشاكل أمنية كبيرة على الصعيد الإقليمي تكون بعيدة عن قدرة العراقيين للسيطرة عليها، لهذا فإن الأجدر كان بالخطة أن تضع أولوياتها ضمن معالجة الوضع المعيشي لأهل العراق الذي بات ينحدر إلى مستويات متدنية، نتيجة السياسات الخاطئة وغير المسؤولة لأرباب السلطة في الحكم، حيث بات اقتصاد الدولة ومواردها مرهونا بأيدي مجموعة متسلطة أخضعت هذه الموارد العامة لأغراضها الشخصية والعائلية والحزبية.
كما نقول أن اعتماد الخطة على فتح محاور جديدة متعلقة بإيران وسوريا داخل الإطار العراقي لمعالجة الوضع الأمني العام، قد تخلق واقع جديد تصعب السيطرة عليها عراقيا وإقليميا وأمريكيا، مما تزيد من معانات العراقيين وتفتح لهم دروب مظلمة جديدة إضافة الى الدروب الراهنة التي اعتادوا عليها، لهذا يتبين أن الخطة الجديدة تحمل أهداف غامضة غير مرتبطة بالعراق وإنما هي مرتبطة بأمريكا لمقاصد إقليمية خاصة بها قد تخلق أوضاعا جديدة للتهيئة للتعامل بالقوة مع بعض الدول المجاورة للعراق بالمشاركة مع أطراف دولية أخرى، وفي حقيقة الأمر بالرغم من طرحنا لهذه القراءة فإننا نأمل أن لا تذهب الخطة الى هذا المسار وان تكتفي بمحاورها المتعلقة بالقضايا الأمنية والاقتصادية داخل العراق وليس خارجه.
ومن باب التأكيد نؤكد مرة أخرى أن الخطة الأمريكية الجديدة تجاه العراق تتطلب أن يتم التركيز فيها على وضع الحلول المناسبة لكل القضايا والمشاكل الجوهرية التي يعاني منها العراقيون، خاصة المشاكل التي تطرقنا إليها والمتعلقة بالحالة الحياتية والاقتصادية للمواطن العراقي الذي أخذت تضيق عليه يوما بعد يوم بفعل أرباب السلطة الفاسدة والحالة الأمنية المنفلتة التي أصبحت سلعة رخيصة تتم المتاجرة بها في وضح النهار بين أطراف الحكومة العراقية حسب الولاءات الخارجية والحسابات الإقليمية لإغراق العراقيين في حالة مستمرة من حياة غير طبيعية متسمة بالصعاب والدماء والانفلات الأمني مما أدت إلى زرع حالة محبطة في نفوسهم لعدم ظهور أي أمل أو بارقة ضوء صغيرة من نهاية النفق المظلم الذي وضع فيه العراق.
لهذا إزاء هذه الرؤية الميدانية لوقائع الأمور في حياة العراقيين، وأمام النية الجديدة للأمريكيين للتعامل مع المعضلة العراقية بحالتها الراهنة ومنظورها المستقبلي فان واقع الحال يتطلب وضع آليات محكمة وخارطة طريق مناسبة متعلقة بتحسين حياة العراقيين كما يلي كما أشرنا اليه سابقا في موقع آخر: وضع خطط اقتصادية فعالة لمعالجة الحالة المعيشية والحياتية الفقيرة والقاسية للعراقيين والعمل على رفع مستوياتها، تأمين المحروقات وتزويدها على شكل حصص شهرية لكل عائلة عراقية، طرح برنامج وطني كبير لامتصاص البطالة من الواقع العراقي وتوفير فرص عمل كثيرة خاصة للشباب الذين يعانون من مشاكل اقتصادية وحياتية ومعيشية كبيرة، القضاء على ظاهرة الغلاء التي بدأت تحد من القدرات الشرائية للمواطنين وتوفير الحاجات الأساسية والخدمات الرئيسية، تأمين راتب شهري معتبر لكل امرأة عراقية تعمل ربة بيت في المنزل، وضع برامج وطنية فعالة للتخفيف من الفساد الرهيب المستشري في أوساط أغلب فطاعات الحكومة من مسؤولين واطراف حزبية، وضع برنامج وطني لتامين السكن لكل عائلة عراقية، إعادة الاعتبار إلى الضباط والمراتب من الجيش العراقي السابق ممن كان يتسم عملهم بالمهنية العسكرية للاستفادة منهم في الحياة المدنية وفي الجيش الجديد المبني على أساس الحقوق والواجبات المترتبة حسب الدستور الدائم.
في الختام لا بد من القول، بالرغم أن الخطة الجديدة تتضمن أمورا غامضة بشأن الملفين الإيراني والسوري وعملية الاقتحام الأمريكية للقنصلية الإيرانية في اربيل قد تدخل ضمن هذا المعنى، ألا أنها بخصوص العراق تتضمن نقاطا ايجابيا ولكنها في عين الوقت يجب أن تتضمن أيضا حلولا لأهم القضايا الآنية التي أوجزناها بخصوص الحالة المعيشية للعراقيين، ونأمل أن لا تنحصر الخطة على جانبها العسكري لأنها في حالة التركيز عليه دون طرح معالجات للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية سوف لا تأتي معها إلا بدمار أكثر وخراب أكبر للعراق ولكل المنطقة.

د.جرجيس كوليزادة
[email protected]