في المجتمع العربي يهيمن المعنى الاجتماعي - اللغوي على مفاهيم الحياة بعيدا عن الحقيقة العلمية، فالعرف الاجتماعي الذي شكل المصطلح اللغوي وطبع مفاهيم المجتمع بطابعه يطلق لنفسه الحرية في هذيان بلا حدود لتصنيف المفاهيم والافكار والسلوك بدون اية معايير عقلية علمية.



والتعامل الخاطيء مع مفهوم التسكع نموذج لهذه المجانية والهذيان حيث يمارس العرف الاجتماعي مجزرة وحشية بحق أجمل ممارسة انسانية روحية وفكرية للانسان.. اذ يسمح المجتمع العربي لنفسه بأطلاق احكام اخلاقية ضد التسكع ويضعه في خانة المثالب الاخلاقية التي تستوجب الادانة والتجريم!


ماذا يقول التحليل النفسي عن التسكع؟


يقول عالم النفس الفرنسي (( بيير داكو )) الذي ينتمي الى مدرسة علم النفس التحليلي أو سايكولوجيا الاعماق التي أسسها عالم النفس (( يونغ)) والتي أرجو ان أقدم للقراء مستقبلاً مخلصاً عن الفروق بينها وبين مدرسة (( فرويد )) يقول داكو في كتابه (( الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث )) عن التسكع:


(( انه ليشق على الانسان ان يلاحظ ان كثيرا من الناس ليسوا شيئاً بالقياس الى ما يكونوا عليه. لقد انقطعت الاتصالات الانسانية، وحل الجمهور والطبقة محل الفرد الواعي، واعتبر الناس التسكع كسلاً، واصبح الهدوء والصحو يثيران الفضول )).



واذا علمنا ان داكو يتذمر من نظرة المجتمع الفرنسي السلبية للتسكع.. ستهون علينا مشكلة تخلف المجتمع العربي ونكتشف اننا لسنا وحدنا في الميدان، وحتى الكسل لايدينه التحليل النفسي ولايعتبره عيباً اخلاقياً، فالانسان السليم الطبيعي نفسياً وصحياً تدفعه غريزة الحياة وتحقيق الذات الى الحلم والطموح والعمل والسعي للتميز، وما يسمى اجتماعيا بالكسول هو شخص غير مسؤول عن حالته هذه التي تعتبر واحدة من الحالات الانسانية المألوفة في حياة البشر وعليهم تفهمها وقبولها من دون أية أدانة وتجريم.



واشارة داكو بقوله: (( وحل الجمهور والطبقة محل الفرد الواعي، واعتبر الناس التسكع كسلاً )) اشارة هامة جدا، فالتحليل النفسي هنا يقدم تفسيراً ايجابياً مغايراً للتسكع ويربطه بالتفكير والتأمل والاستقلال والحرية والتفرد، والتعبير الأصيل عن شخصية الفرد بعيداً عن الذوبان في جموع قطيع المجتمع وإلغاء انسانية الفرد في عموميات تنتهك كل ماهو انساني وجميل في حياة الفرد.



فالتسكع هو القبض على عمر الانسان والأمساك به من التبعثر والضياع بين جموع الناس، وهو السياحة الفكرية والروحية في ملكوت الله، انه تأمل العقل المفتوح على كل شيء، وعناق المكان ودلالاته والحوار معه، وهو البحث في معاني ملامح وجوه البشر.



يعاني الانسان العربي من مشكلة غياب الاستقلال النفسي والأتكال العاطفي على الاخرين، فهو لايستطيع الاستمتاع بمباهج الحياة بمفرده، اذ انه لايتمكن من الذهاب بمفرده الى السينما والمسرح والمقهى، والتجول في الاسواق والشوارع والمدن والبلدان... والسبب لأن موروثه التربوي -الاجتماعي لم يسمح له بتنمية الاستقلال النفسي والاستمتاع بحياته بشكل فردي، فهو في كل شيء يريد ان يصطحب معه صديق أو اكثر، ويخاف من البقاء وحده لانه يشعر بالغربة من نفسه والوحشة!



وكلام داكو حول مشكلة انقطاع الاتصالات الانسانية قصد به اتصال الانسان بنفسه والنزول الى أعماقه.. الى ينابيع الروح واللاشعور الفردي والجمعي بحسب مدرسة يونغ، فالانغمار في حركة المجتمع الخارجية هو سرقة لسنين العمر ولمساحة العقل والروح وضياع للفردية وانسانية الانسان التي تتجلى في التعرف على فروقه الفردية عن باقي البشر وتمتعه بحرية التعبير عنها وتحقيق رغباتها المشروعه وعندها يتحقق الانسان السوي وربما السعيد، ونحصل على معنى الحياة.

خضير طاهر

[email protected]