((في حقبة ما بعد التاريخ لن يكون ثمة شعر ولا فلسفة)) -فوكو ياما-

منذ وقت مبكر جداً، قد يكون القرن الخامس عشر شاهداً لبدايته، تـنبّه المفكرون والسياسيون الأوربيون على حد سواء، الى الأهمية العظمى التي يمكن أن يؤديها العامل الاجتماعي في مجمل عملية بناء الدولة الحديثة -من حيث كونها -دولة برلمانات ديمقراطية تتأسس جوهرياً على مبدأ تقسيم السلطات وعلى ضرورة فصل نصاب الديني عن السياسي من أجل إخضاع الجميع الى سلطة القانون وحدها.
وربما كان مبعث ارادة بناء الدولة وتأسيسها على مفردات سياسية محضة، مستنداً الى مجموعة من الحقائق الواقعية آنذاك، من أهمها، الفكرية، مضافاً اليها النهضة العلمية التي شهد القرن في ذاته بواكيرها، ثم الانفتاح على التراث اليوناني العظيم في بعديه الفلسفي والسياسي العريقين.


المهم هنا، هو القول، ان (نوع) مجتمع ما واختلافه عن سواه من مجتمعات الأمم، أمر يعزى كلياً الى مجموع عاداته وتقاليده وعقائده ونظامه الاقتصادي وفنونه وأسلوب تفكيره وعمله، أي بكلمة جامعة، الى (ثقافته)..
وهي المسألة التي تمكن من القول: ان عملية التغيير التي حدّث الأوربيون بموجبها دولتهم المدنية، كانت قد اتخذت من (الثقافة). في بعدها الاجتماعي -نظرياً وعملياً- أحد المرتكزات والميادين المهمة لعملية التغيير والبناء تلك، لكن بالانسجام التام مع الخصائص التأريخية والثوابت الحضارية لتلك المجتمعات، من جهة، واستجابة لضرورات تطور المجتمعات الانسانية، تحت رعاية السلطة السياسية المدنية البديلة لسلطة الكنيسة الجائرة آنذاك، من جهة أخرى.


معنى ذلك حصراً - قدر تعلّق الأمر بصلة السياسي بالثقافي ـ ان الثقافة في مجتمع ما لا تمثل هويته وعصارة تأريخية وخبرات أفراده فحسب، بل تمثل أيضاً- وهذا هو المهم عناصر الثبات والقوة والقدرة على الصمود بمقابل العنصر السياسي المعرّض على الدوام للتغير والزوال حين يظهر بوصفه نظام حكم لشعب ما في دولة ما.


مثال ذلك القول، ان الشعب اليوناني -الروماني ذاته، ذلك الذي تعاقبت عليه ثلاث حقب سياسية عاش خلالها تجربة المؤسسات الديمقراطية المدنية لأثينا حيناً، ثم عاش في حين آخر بحرية الرضوخ لأحكام الكنيسة الجائرة ثم تعرف بعد زوال سلطتها على أشكال حكم وأنظمة سياسية مدنية جديدة أرادت له وحده أن يكون مصدر سلطاتها وشرعيتها السياسية والدستورية.


وهذه المسألة برمتها إذ تعني -من جهة- ضرورة المحافظة على صيغة تكاملية بين نمط (وعي المجتمع) أي ثقافته، ونظامه السياسي، مع الأخذ بالاعتبار، مسألة استحقاقات وجود هذه الدولة في العصر الحديث، فانها تعني -من جهة أخرى- أن (الثقافة) في مجتمع ما هي آخر العلامات والرموز والمرجعيات التي تعبر عن نوعه الحضاري وأخلاقه وقابلياته الذهنية النظرية والسلوكية، بل هي آخر القلاع التي تمثل نوعه الوجودي وكينونته أيضاً، المسألة التي تعني صراحة: أن تغيير _(ثقافة) مجتمع ما -لا بفعل تناقضاته الداخلية وضرورات تطوره- بل بفعل عامل خارجي يسعى لتغييرها وسلخها قسراً عن قوالبها الموجودة في أذهان أبنائه وسلوكياتهم مسألة لتعني بالضبط -زوال (نوع) ذلك المجتمع وانهيار منظومة قيمه وعقائده وأخلاقه وحضارته وأسلوب عيشه وتعامله، ثم إحلال منظومة ثقافية -دخيلة- أخرى بديلة عنها.
وهي المسألة التي شهدتها عبر التاريخ الكثير من المجتمعات البدائية حين اضطرت الى التنازل كرهاً عن ثقافتها الخاصة إبّان تعرضها لغزو (حضارة) هذه الدولة أو تلك، بعد أن عجزت أساليبها الدفاعية عن الاحتفاظ بنوعها الثقافي الخاص.


بل هي المسألة ذاتها، حين نجدها هنا معبّراً عنها بطريقة نظرية أكثر وضوحاً وجرأة في هذا النص لـ(مايكل ليون) أحد أبرز فلاسفة المحافظين الجدد في معهد (أميركان انتربرايز)، اذ يقول مؤكداً هذا المعنى، الذي يضع الثقافة في مجتمع ما، هدفاً أعلى للقوة العسكرية بحيث تصبح عملية تغيير (الثقافة) في ذلك المجتمع هي الضمانة الوحيدة لقبول أفراده بسياسة القوة المحتلة ورضوخهم لمنظومة قيمها الحضارية والاجتماعية والسياسية، يقول ليون:
(التدمير البنّاء، هو أثبت خصائص منهجنا ورؤيتنا فنحن نعمل على تمزيق النظام القديم، وان مناوئينا حين يشاهدون أميركا تفكك المجتمعات التقليدية فأنهم يخافوننا، ويجب أن لا نكترث بنقد سياسيتنا هذه، بل يتعين علينا أن نمضي في طريقنا من أجل دفع مهمتنا التاريخية الى الأمام، ان الحرب الشاملة لا تدمر القوة العسكرية لأهل الشر فحسب، بل تدفع العدو الى أقصى نقطة يكون عندها مستعداً لقبول تغيير كامل في توجهاته الفكرية والثقافية).
فلئن كانت بين أفراد هذا المجتمع أو ذاك مجموعة من المثقفين أو السياسيين ترغب بمثل عملية التغيير لنوعها الثقافي وترتضية لنفسها، بهذه الطريقة التي تطال كينونته من القواعد، فان من مسؤولية المثقفين تذكيرها -في الأقل- بأن مثل هذه العملية لا تكتفي بحدود ضمّ الجماعة المتعاطفة معها اليها أبداً، لا لأنهم لا يمثلون المجتمع كله فحسب، بل لأنها عملية كلية شاملة في جوهرها، تستهدف بالمقام الأول مفهوم الثقافة في صيغة العملية السلوكية العامة، ملاحقة إياه في مؤسساته التعليمية والتربوية والقانونية والأخلاقية المنتجة له، من جهة، ولأن حركة التغير هذه -من جهة أخرى- لا تتقدم بزيّها العلمي والتقني المغري تارة، والعسكري تارة أخرى، بمعزل عن العوامل الاقتصادية والثروات التي تحركها والتي تسعى الى تنمية رؤوس أموال وفتح أسواق استهلاكية جديدة لها، ثم لأن تقنية الآلة واقتصاد السوق الحر الذي يحرك عمليات الغزو في العالم ليست حيادية بازاء ثقافة المجتمع المستهدف، فان عملية الغزو تلك- متعددة المظاهر- لن يهدأ بال، الا بعد استيلائها على ثروات البلد وسيطرتها على اقتصاده سبيلاً لبلوغها النقطة التي يكون عندها
المجتمع (مستعداً لقبول تغيير كامل في توجهاته الفكرية والثقافية) كما مرّ بنا.
اما لأولك الذين لا يملكون الاجابة بعد عن السبب الذي يدعونا الى التمسك
بنوعنا الثقافي ويجعلنا غير راغبين في استبداله بعروض الثقافة
الاوربية المغرية ،فيمكن القول لهم، ان نظام الدولة الحديثة في اوربا كان
قد تأسس بالفعل على قضية انفصال الدين عن السياسة والدولة ،ذلك
الانفصال التاريخي الذي كان يعد بمثابة ضرورةاجتماعية وسياسية قصوى لا
بديل ولا غنى للمجتمعات الاوربية عنها بسبب من طبيعة علاقة
النظام الديني الكنسي بكل من المجتمع والدولة ،العلاقة التي تمثلت
بجور هذا النظام الديني واستحواذه على كل من النظامين الاجتماعي
والسياسي في القارة الاوربية ، وهي المسالة التي لا نجد شبيها لها على
الاطلاق في نمط علاقة الدين الاسلامي بكل من الدولة والمجتمع ،
انما نجد على وجه التحديد نمط علاقة وصراع آخريتمثل بتسمية دقيقة
عامة له: صراع نوعين من فهم الدين الواحد ،كان المجتمع والتاريخ
والفكر على الدوام ضحية له ، الامر الذي يحثنا على البحث عن نمط
تحديث آخر ذي طبيعة تاريخية خاصة بنا، ذلك فضلا عن ان الفلسفة التي
تحكم المجتمعات الاوربية الآن تتعارض جوهريا مع فلسفة المجتمعات
الاسلامية ، فإذ تقوم هذه الاخيرة على الصيغ الجمعية والاخلاقية لعلاقة
افراد المجتمع بينهم ،تتأسس فلسفة المجتمعات الاوربية الحديثة الآن على
(موقف التحلل من القيم والالتزامات الاجتماعية) .


ما أردت التوصل اليه عقب تلك المقدمة الطويلة، عن حقيقة الواقع الثقافي والدور المهم الذي يمكن أن تلعبه الثقافة في بناء الدولة الحديثة وتحديد النوع السياسي الحاكم لها، هو القول الصريح، بأنه لم يعد من الممكن أو الصحيح، النظر الى ثقافة العالم الغربي في عصر ما بعد الحداثة، على أنها نتاج جمعي وعفوي لقوالب التفكير والسلوك العلمي في مجتمعاتها، فمثل هذا التعريف والنظر للثقافة، قد أصبح الآن خاصاً مقتصراً صالحاً فقط، لوصف المجتمعات التقليدية المغلقة على تاريخها الخاص ومركباتها الحضارية، أما مفهوم (الثقافة) في مجتمعات ما بعد الحداثة، فهو مفهوم، لا عفوية ولا جماعية فيه أبداً، بل هو ما ينبغي أن يتأسس على إهمال التاريخ والأنظمة الأخلاقية وعلى نسبية المعرفة والفردية، وعلى (رفض جميع السرديات الكبرى التي قامت عليها الحضارة الانسانية والتشكيك بجميع الصروح الفلسفية ورفض جميع النصوص التي قامت عليها الديانات السماوية).


انها اذن، ثقافة الاختلاف والتباين لا ثقافة الائتلاف والتطابق، وهي الثقافة التي يتم تصنيعها كلياً بالاتفاق مع قيم العولمة في مختبرات ومصانع الاعلام الموجّه والمصالح السياسية الكبرى، يقول هابرماز (ان شرط ما بعد الحداثة مرهون بحال ومستوى المعرفة الخاصة بالمجتمع ما بعد الصناعي، أي المجتمع الذي تتخذ فيه القرارات من خلال تكنولوجيا ثقافية حقيقية) فلا عجب إذن، أن يطلق المفكرون الغر بيون على الثقافة في عصر ما بعد الحداثة، عصر صناعة الثقافة، حين يطلقون على المجتمعات التي يحظر هذا النوع الثقافي فيها اسم (مجتمعات الاستهلاك) أو (المجتمع المبرمج) أي المجتمع الذي (يحتل فيه الانتاج والتوزيع الضخم للثروات الثقافية، مكاناً هاماً كانت تشغله في ما سبق الثروات المادية في المجتمع الصناعي كما يقول الآن تورين).


اذن، فنحن الآن ازاء قيم ثقافية تصنعها وتنتجها وسائل الاعلام الغربي بالاتفاق التام مع سياسته واقتصاده وتقنياته والأفكار المرتبطة بهذه الوسائل والمعبرة عنها نظرياً، الأمر الذي يصنع التوسع والغزو الثقافي واستهداف ثقافة الآخر هدفاً ماثلاً للعيان، لابد لثقافة الغرب المرتبطة بشدة بمصالحه الاقتصادية والسياسية والاعلامية من بلوغه واحتوائه ذات يوم قريب أو بعيد.
وهي مسألة تستدعي من كل مثقف حقيقي، أن تكون ردة فعله مما يحدث هي (الذعر)!ّ، ذعر اليقظة التي تريه بوضوح مشهد تخلفه حاضراً أمامه، حيث لم تزل ذهنيته مغلقة على نوع ثقافي محلي تخييلي الطابع، جرى اختزاله الى أقصى حد ممكن من أدبية النصوص، في الشعر والقصة والنقد، أي البضاعة الثقافية التي لا يجد في محتواها كلها ما يصلح لمواجهة ثقافة العالم الغربي المسلحة، الثقافة التي تنتج قيمتها الفردية الاستهلاكية المتعية، قيم السوق والآلة وقرارات البيع والشراء والواقع الفائق المزيف الذي تعمل وسائل الاعلام على العناية الفائقة في خلقه من أجل أن يعرض على الناس ويبدو لهم بطريقة تحمل من الصدق والواقعية أكثر بكثير مما يحمله الواقع الحقيقي المعاش نفسه!!.


وهو الأمر الذي سيضع المثقف العربي الحقيقي، حتماً، في موضع مواجهة سافرة مع نفسه ومسؤولياته أمام مجتمعه، عبر السؤال المدمر (ماذا أفعل؟) وأقول (مدمراً) لأنه لا شيء مجدياً بيده، يمكنه الآن أن يفعله، ذلك لأن ما لديه من عدة معرفية وأوراق يتوهم صلاحيتها وإمكان دخوله اللعبة بواسطتها، تستند في حقيقتها الى أسس عقلية وأخلاقية وابداعية، وهي الأسس التي تم للثقافة الغربية تصفيتها والقضاء عليها وتجاوزها، بل والنظر باشمئزاز ومقت اليها، لأنها أصبحت في عرف ثقافته أشياء تشير الى ماضٍ الانسانية مذكرة إياه بحروبه وصراعاته الايديولوجية وانسلاخه عن لذة الحياة الحاضرة لديه حسب، يقول فوكوياما (الصراع الايديولوجي على نطاق العالم الذي يستثير الجسارة والشجاعة والمثالية والخيال، ستحل محله جميعاً الحسابات الاقتصادية والحلول التي لا تنتهي للمشاكل التقنية واشباع المطالب، في حقبة ما بعد التاريخ، لن يكون ثمة شعر ولا فلسفة، فقط الوصاية الرائجة على متحف التاريخ الانساني).


من هنا، (فماذا أفعل؟) هو السؤال الذي ينبغي أن يواجه المثقفون به أنفسهم على الدوام، عبر تحويله الى (هم) ذاتي، تهدد الذات والمجتمع، أية إجابة تغفله أو ترجئ الاجابة عنه الى وقت لاحق قريب، (ماذا أفعل؟)، هو سؤال الحيرة، لكنها ليست حيرة العاجز، بل حيرة اختيار الطريقة المثلى للحل والمواجهة.
(ماذا أفعل)، سؤال يحثنا بقوة على التخلي عن ثقافة العجز والاسترخاء والنرجسية، الثقافة التي جرى اختزالها الى عناصر تخييلية فقط، من أlt;جل أن نبحث عن عناصر القوة في مكنونات إرثنا الثقافي الخاص عبر قراءة نقدية شاملة له في أبعاده الدينية والحضارية والفكرية والاجتماعية والسياسية، سبيلاً لاستحضار عناصر البقاء -ما يصلح اتخاذه مادة للانطلاق والتحاور مع الآخر.


(ماذا أفعل؟) سؤال يحيلنا بشكل مباشر للتعرف على حقيقة ثقافة المجتمع الغربي في عصر الحداثة وما بعدها، وما هي العوامل التأريخية والفكرية والسياسية والاقتصادية والعلمية التي جعلت كل تلك التحولات ممكنة بالنسبة اليه؟ ثم هل يمكن لمجتمعاتنا ذات الطابع التاريخي والحضارة الخاصة بنا، أن ترتضي مثل هذه التحولات لنفسها؟ ما الذي يمكن التعامل معه وقبوله منها؟


وما الذي يمكن شجبه والوقوف ضداً أمامه؟ وهل نمتلك الآن من القدرات الذهنية والمادية ما يؤهلنا لخوض هذه المواجهة؟ وما السبيل لامتلاكها؟ ما علاقة الثقافة بالدولة في مجتمعاتنا وهل يمتلك المثقفون حرية البحث والتأسيس الكاملين للنهوض بالواقع الثقافي لمجتمعاتهم، أم أن إذناً مسبقاً من الدولة ينبغي لهم استحصاله منها قبل ذلك؟ ثم اذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك حقاً، فما السبل التي يمكن للمثقفين باتباعها أن يجبروا الدولة على رفع يد وصايتها عنهم؟


هذه هي الحال الواقعية المعاصرة التي ينبغي أن يجد المثقفون المعاصرون أنفسهم فيها، فان لم تكن مثل هذ الحالة ممكنة معاشة في ذواتهم موجودة بهذا القدر أو ذاك في هذه اللحظة، فان عملهم المستقبلي الوحيد المثمر، سيتمثل حتماً في الشروع بخلق هذا الواقع الجديد للثقافة في مجتمعاته، اذا أرادوا حقاً أن يكونوا مثقفين فاعلين في عالم القرية التكنولوجية الصغيرة، موصولة الأخبار والاعلام والاقتصاد عبر شبكة الانترنت التي توحد العالم.

عادل عبد الله
[email protected]