في البدء لا بد من الإشارة إلى إن وزارة الثقافة في السعودية المولودة حديثاً استطاعت أن تستقطب الغالبية العظمى من المثقفين، بعد أن كان الشأن الثقافي تابعاً لرعاية الشباب المختصة أصلاً بالشأن الرياضي. ونظراً لكون السعودية بلداً حديث النشأة فلم يتم ترسيخ الثقافة كتيار متصل ومتدفق ومتعدد ومختلف ولو بنسبية الوضع العربي رغم اشكالياته. لقد كان قرار تشكيل وزارة للثقافة بمثابة الإعلان المفرح لكثير من المثقفين الذين كانوا يشعرون باليتم وعدم كسب الاعتراف من قبل السلطة، ومع وزارة الثقافة أصبح أغلب المثقفين يمثل ويتمثل شرعيته كسلطة ثقافية. ولأن الثقافة كفعل لا يمكن لها أن تتحقق بلا فضاء مفتوح وحر يتقبل الجدل والاختلاف سعياً وراء تأسيس التيارات الفكرية والثقافية التي تمنح أي مجتمع عمقه وشكله المدني، لهذا السبب ولأسباب أخرى لا يمكن لأي متابع للنشاط الثقافي في السعودية أن يأخذه على محمل الجد!


فالثقافة في السعودية ليست شيئاً أخر غير تكريس الرؤية الرسمية والعمل تحت إيديولوجيا المؤسسة وفي ظلها والارتهان للشروط السياسية المرحلية التي تفرضها مؤسسة السلطة. إنها ثقافة الوصولية بامتياز والمزايدات وإظهار الولاء والتسلق بكل الأشكال الممكنة. ثقافة مصابة بعقد النقص حيال الآخر العربي ومزودة بآليات الطرد والنفي لمن لا يستطيع التكيف مع آليات الفساد والقمع. إنها ثقافة الأنظمة الشمولية ( مع مراعاة الخصوصية السعودية ) التي تم دراستها وتحليلها في قراءة حطام الشيوعية والفاشية وأي نظام شمولي يدعي أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وينطق باسمها.


ومن المثير للسخرية أن تسمع تصريحات المثقفين وتقرأ تنظيراتهم عن نهاية المثقف الرسولي، وأن المثقف ليس مصلحاً اجتماعياً، وإن أدوار المثقف تغيرت، وأن الفن والأدب شأن فردي... الخ وكأن هؤلاء المثقفين هم سلالة سارتر أو جرامشي أو فرانز فانون. مثقفون أكثرهم وعياً يعترف بالجبن إذا تعلق الأمر بمسألة تؤثر على وظيفته وموقعه الاجتماعي. في السعودية سترى مثقفي الاستهلاك على نحو نموذجي، فثمة من يلتهم أكواماً من الكتب دون تغير ملحوظ في الوعي والسلوك.


أظن أن أزمة الوعي فيما يتعلق بالمثقف في السعودية إضافة إلى هشاشة التكوين المعرفي، تتأتى من الخلفية الاجتماعية ذات الأبعاد القبلية والفئوية والمناطقية، فالمثقف إلى الآن لم يتحسس معنى استقلاليته كمثقف، ولم يستطع تفكيك تكوينه البدئي ولم يساءل معنى وجوده الفردي والاجتماعي والسياسي، لم يكن كتلة فردية في وجه السلطة الاجتماعية والسياسية، لازال ابن القبيلة والمنطقة والطائفة والساعي بكل ما يطيق لكسب رضا السلطة ليشعر بالشرعية. ودائماً ما تمثل ثقافة الاختلاف ضرباً من المنطقة المحرمة التي يشعر فيها المثقف بالنبذ واقتراف المحرم، لذا نجد التائبين يتقاطرون إلى حوض التوبة سريعاً ومن لا يتوب يستسلم لحالة الصمت والانتحار الرمزي في العزلة، أو يعود إلى حضن الأب عودة الابن الضال.


وإذا كان من الطبيعي أن يكون لأي سلطة مثقفوها، فليس من الطبيعي قسر كافة المثقفين وإجبارهم على التعامل مع مؤسسات السلطة الثقافية أو الصمت، وهذا ما تحاوله وزارة الثقافة حالياً، إما أن تنضم إلى القطيع أو إلى الجحيم، فبدل من تأسيس اتحادات كتاب مستقلة تكون بمثابة اللبنة الأولى في طريق تأسيس مجتمع المؤسسات والقوانين، وبدل من مساجلة المثقف ومجادلته تصر وزارة الثقافة على تحويله إلى مجرد بوق وأداة ضمن أنشطة مملة وبلا أي معنى وأحياناً تثير الضحك والسخرية كما حدث مؤخراً عندما قرر نادي الرياض الأدبي أن يقيم أمسية ( وفاء ) لتأبين الشاعر سركون بولص الذي مات في ألمانيا، ونادي الرياض الأدبي والدكتور سعد البازعي يعلم أن سركون بولص لوظل حياً لألف عام لما دعاه إلى إقامة أمسية شعرية، لكن عندما يموت فثقافة التأبين والمديح جاهزة لإقامة أمسيات الندب الكئيبة، وبالتأكيد في أجندة أندية وزارة الثقافة والأقسام الثقافية في الصحف السعودية ترتيبات واستعدادات خاصة لتأبين أدونيس درويش سعدي... الخ.. الخ إنها ثقافة تحيا على الجيف، ويبحث أكثر نماذجها وعياً عن إراحة الضمير بتوسل أنشطة من مثل أمسية الوفاء لسركون بولص.


ويمكن لأي متابع لأنشطة أندية وزارة الثقافة وللأقسام الثقافية في الصحف السعودية وهما القناتان الوحيدتان تقريباً للممارسة النشاط الثقافي ( إضافة إلى التواصل الألكتروني عبر الإنترنت ) أن يلاحظ غياب الحيوية والجدية وأي فكر جدلي من شأنه أن يثير أي نوع من النقاش، فمهمة هذه الجهات هو تكريس رؤية سكونية سطحية للعمل الثقافي، وتغييب البعد الفكري والمجتمعي والفلسفي والسياسي لصالح رؤية مائعة وسطحية تلبي متطلبات السلطة مرحلياً.


وأخيراً أظن أن هناك إرهاصات أولى لتشكل مثقف ممكن في السعودية شريطة أن يتشكل خارج إطار المؤسسة الرسمية، مستقلاً يسعى بجرأة إلى حراثة أرض صلبة وغير مطروقة مستعد لتحمل المسئولية كمثقف ويفهم بعمق معنى التضحية الفردية كعامل مكون للشخصية المثقفة بعيداً عن الادعاء أو توهم أدواراً بطولية، مثقف يطرح أسئلته الخاصة عن معنى الأنا والسلطة والوطن والهوية، ويعي أنه محل مجابهة ورفض من كافة أطياف مثقفي السلطة. إنه المثقف الممكن بلا أي سياقات منجزة من عليه أن يفكر بنسبيته في الشأن الاقتصادي والثقافي والسياسي والاجتماعي ما دام مضطراً إلى ذلك في بلد تغيب فيه المؤسسة البحثية النزيهة وتفتقد فيه الآلة الإعلامية للحياد والنزاهة، وتنعدم فيه القوانين المشكلة لمدنية أي مجتمع، ويقع في مرتبة لا يحسد عليها عالمياً.

علي العمري