عندما تتحدث التقارير الاخبارية عن تحسن ملحوظ في الوضع الامني وانخفاض نسبي لحوادث العنف في مناطق عديدة من العراق، وفي المقدمة منها العاصمة الحبيبة بغداد، فذلك يدعو كل عراقي غيور في الوطن والمهجر ان يرفع وجهه الى السماء ويفتح يداه ويحمد ويشكر، على طريقته، رب الجلالة والعرش العظيم على نعمته الجزيلة على عبيده. ولكن ان تدًعي حكومة قرأ ويقرأ كثيرون عليها الفاتحة، بل ان اطرافها الرئيسية قد غسلت اياديها منها بالماء والصابون، في انها، اي هذه الحكومة، هي وليس غيرها صاحبة هذا النصر الامني فذلك يستحق ان يضع عليه الكثيرون طابورا من علامات التعجب والاستفهام.

ان الحياة تؤكد على ان فاقد الشئ لايعطيه، كما ان الكثيرين ينتابهم الشك في قدرة العليل على مداواة غيره، فهل انقلبت موازين الحياة في العراق، فانتحرت قوانين حفظ الطاقة والكتلة التي تنص على انها لاتخلق من العدم، فاذا باطراف بارزة في الحكومة وخلفها جوقة من الابواق تتحدث باقتدار انها قد اصبحت تمتلك بوق الحياة، حتى انبرى البعض يطالبنا ( باصلاح دفوفنا استعدادا ليوم العرس الكبير )، فتذكرنا بسياسات قديمة، ابتدأت باندلاع الثورات والانقلابات في العراق، حيث الشعب يستلم بتلك الجرع المخدرة التي تخبره في انه اصبح قاب قوسين او ادنى من النصر الكبير وانه قد اكمل ( سلخ اللشة ) ولم يعد باقيا إلا الذيل فاذا بنا نعيش مانعيشه اليوم.

يلعب ابني، البالغ من العمر اثناعشر عاما، كرة القديم مع مجموعة من اقرانه في فريق تابع لاحد النوادي السويدية في المدينة، ويحدث احيانا فيطلب ايصاله الى الملعب الرئيسي في المدينة لان النادي قد طلب من هؤلاء الفتية الصغار المساعدة في مباراة مهمة يلعبها الفريق الرئيسي للنادي من المحترفين، حيث يقتصر دور هؤلاء الفتية الصغار في اعادة الكرات الى الملعب ومؤازرة وتشجيع الفريق. ليس ظلما او تجنيا ان نصف دور الحكومة العراقية في القرار العراقي بما يفعله هؤلاء الفتية في جلب الكرة الى الملعب، وعندما يكون لهؤلاء الفتية دور في تقرير مصير المباراة، يكون لموظفي بلدية المنطقة الخضراء فعل وتأثير على مجريات الاحداث في البلد داخل المنطقة الخضراء وخارجها. فكيف اذن لحكومة لاتملك، حتى شارة ( حكم مراقب الخط ) بل يقتصر دورها على اعادة الكرة وتقديمها لمن يلعب في الساحة، ان تدعي انها تمسك بكل خيوط اللعبة ومفاتيحها؟!

لايخفى على الكثيرين ان العملية السياسية في العراق تعيش مأزقا عويصا فالجهاز التنفيذي ممثلا بالحكومة هو برج ايل للسقوط في اية لحظة بسبب النخر والحفر المستمر في اساساته المتهالكة والمرقعة اصلا، والسلطة التشريعية، وباعتراف اعضائها، هيئة مشلولة لم تستطيع ولن تستطيع القيام بدورها، حتى انها بدأت تعاني من تبخر النواب، حيث قدم البعض استقالاتهم من عضوية مجلس النواب وينادي الاخرون جهارا بحل هذه المؤسسة العقيمة، والرئاسات الثلاث، يجلس كل من اعضائها في واد ويغني على ليلاه بينما يحاول الرئيس الطالباني جاهدا استغلال المداعبة وخفة الدم لايجاد توزيع موسيقي للمقطوعات المختلفة ولكن دون جدوى، كما ان مشروع المصالحة الذي جرى الكلام عنه كثيرا لم يحقق ايا من اهدافه بل على العكس اصبحت ملفات اطراف المصالحة اكثر عددا وتشعبا من السابق، وهكذا لايمكن لعاقل ان يصدق ان هذا المناخ السياسي المفتقر الى ابسط اشكال التعاون بين اطرافه، بل المشحون بالاحتراب والانتهازية السياسية يمكن ان يحقق انجازات عملية على الارض في المجالات المختلفة كالخدمات والامن. فما السر الكامن وراء ذلك والعالم يشكو منذ زمن بعيد من ندرة الاعاجيب!

ان تحسن الوضع الامني، بالرغم من اثره الايجابي على حياة المواطن البسيط، لكنه يحمل دلالات خطيرة تتمثل في انه جاء ثمرة لاتفاقات ومساومات محلية واقليمية ودولية ليس لسلطة الدولة العراقية ومؤسساتها اي دور رئيسي او ثانوي فيها مما يعطي انطباعا بهشاشة هذه السلطة وعدم فعاليتها، كما ان هذا التحسن في الية حدوثه يشير الى ان الوضع العراقي اشبه بقنبلة موقوتة تتحكم بتوقيت انفجارها او إبطال مفعولها اطراف عديدة، ليست بكل تاكيد السلطة الرسمية العراقية الحالية رقما رئيسيا او ثانويا فيها، لان بعض من يمثل عنوانا رسميا في السلطة لايستند في ثقله وتأثيره الى العنوان الرسمي الذي يشغله بقدر ما يتكأ على خلفيته الحزبية و القومية والمذهبية او عصاه الميلشياوية او ظهره الاقليمي او الدولي، واذا كان هذا التحسن الامني قد اظهر قدرة النظام الايراني البارعة في ضبط من يمثله على الساحة العراقية ليتوج نفسه باستحقاق لاعبا رئيسيا في اشعال او اخماد نار العنف في العراق، فانه يكشف في الوقت نفسه ان الادارة الامريكية قد قررت كما يبدو التعامل والحوار وعقد الصفقات مع اطراف وقوى محلية عراقية خارج الخارطة السياسية الحالية كالتقارير التي تتحدث عن اجتماعات سرية في البحر الميت واجتماعات اخرى ربما سيعلن عنها لاحقا، اظافة الى التنسيق مع الاطراف الاقليمية.

ان تحسن الوضع الامني ليس وليدا شرعيا للحكومة العراقية الحالية حتى تنسبه لنفسها، فإن كان هذا التحسن، في ننسبة منه، حصيلة لجهد عمل مايسمى ( بالصحوات ) فان وجود هذه الصحوات برهان على ضعف الحكومة، وإن كان هذا التحسن بادرة على حسن النية لدى اطراف محلية واقليمية اتجاه صفقات ومساومات تم الوصول اليها فان اولى ضحايا تلك الصفقات والمساومات في حالة تنفيذها او التنصل عنها ستكون بالتاكيد الحكومة العراقية الحالية.
ان العراقي الغيور يأمل في اجماع شعبي ونكران للذات ومصالحة حقيقية صادقة بين جميع الاطراف التي تدعي الحرص على مصلحة البلد لانقاذ مايمكن انقاذه والعمل لبناء وضع مستقر امن على قاعدة راسخة اساسها سلطة وطنية قوية حقيقية لدولة المؤسسات، لان قمة المأساة تكمن في ان يتحول العراق، هذا البلد العظيم وطنا وشعبا وحضارة، دما وحياة، الى سلعة رخيصة في سوق الساومات الدنيئة،ويسمح البعض لانفسهم بالاعتقاد في ان تبني لقيط تلك المساومات، افضل من امتلاك شجاعة الجهر بأبوة الفشل السياسي.

د. وديع بتي حنا
[email protected]