يتشكل مفهوم الهوية الوطنية في اعتقادي من سياقات تاريخية طويلة ومعقدة، تتداخل فيها المؤثرات الانتروبولوجية والثقافية والسياسية والجغرافية والاقتصادية. فأي هوية وطنية ليست معطىً جاهزاً، ولا كتلة جامدة، كما أن كل هوية قابلة للتحول والتغير ضمن ظروف ومؤثرات كثيرة. وسيجد المتأمل لهذا المفهوم في الوطن العربي ما بعد المرحلة الاستعمارية أن ثمة اشكاليات كبيرة ومكبوتة في كافة الأقطار العربية تقريباً تطال مفهوم الوطن والمواطنة. فكافة أنظمة الحكم العربية التي بدأت في إحكام القبضة ما بعد الاستقلال جاءت لتراهن أولاً وبشكل نهائي على مفهومها الخاص للوطنية ليس ضمن رؤى متعددة ومختلفة بل ضمن رؤية فئة مسيطرة تجعل من الوطن أداة لترسيخ قواعد القمع والاستبداد، مما جعل من مفاهيم كالوطن والوطنية شعارات لا تثير إلا السخرية والنقمة عندما لا يعنى الوطن شيئاً إلا نوعاً من المعتقل إما فعلياً لمن يتجرأ على المجابهة أو رمزياً لمن يؤثر الصمت.


ومفهوم الهوية الوطنية في ظني رغم كونه من ثمار المجتمع المدني في رؤيته التعاقدية للمعايشة السلمية يظل يحمل ثقله التاريخي وسياقاته المعقدة حتى ولو كان متغيراً ومتحولاً.


وبمحاولة التفكير في مفهوم الهوية الوطنية في بلد كالمملكة العربية السعودية يمكن ملاحظة أن ثمة غياباً لأي رؤية واضحة لدى الإنسان هنا لمفهوم المواطنة أو الوطن في مقابل الشعور القوي بالانتماء للقبيلة أو الطائفة أو المنطقة، مما أضطر المؤسسة الرسمية إلى محاولة إدراج مادة لدى طلاب المدارس الابتدائية تحت مسمى الوطنية!


وأظن أن ثمة أسباباً كثيرة يصعب حصرها في مقالة قصيرة لغياب هذا الشعور، فمثل هذه المسألة بحاجة إلى نوع من البحث السوسيولوجي، ومع ذلك فيمكن من الاستقراء السريع ملاحظة أن السعودية كبلد حديث النشأة لم يصل حتى الآن لا رسمياً ولا شعبياً لمفهوم محدد للوطن خارج الانتماء للأسرة الحاكمة. كما أن الخطاب الديني الرسمي لا يشجع أي مفاهيم دنيوية كالوطنية بل ويشجب أفكاراً كالقومية في حين ينظِّر للهوية الإسلامية، ومن المعروف أن السياسة السعودية في مناهضتها للمشروع القومي الناصري طرحت مفهوم الهوية الإسلامية. فالوهابية تنظر لعلاقة الإنسان بالمكان بنوع من التجريد الذي يشبه إيقاع إنسان يتحرك بريبة في صحراء لانهائية، إنسان متخفف من أعباء المكان وطقوسه ورموزه لصالح فكرة مجردة تحيل اللحظة الزمنية إلى مطية قلقة ومتوترة يعانيها الإنسان في طريقه للموت. إن مشكلة غياب الشعور الوطني في السعودية له أسباب منها السياسي والديني، أيضاً فسكان السعودية كما هو معروف كانوا إما بدواً رحلاً أو قرى فلاحية مستقرة إضافة إلى حواضر الحجاز في مناطق لم تتعرض مباشرة للاستعمار فلم يتشكل نوع من الشعور الجمعي في علاقة الإنسان بالمكان في ظل حضور عدو أجنبي. ويمكن النظر أيضاً في فشل عملية التحديث التي لم تطال أكثر من القشرة الخارجية للإنسان دون عمقه الداخلي الذي لازال ينطوي على مشاعر تقليدية ترتبط بالجذور القبلية والطائفية وتحمل انتماءات ضيقة بلا أفق مدني يستطيع أن يولد مفاهيم مشتركة لكيان وطني يندمج فيه الفرد ضمن قيم حديثة يتساوى فيها الجميع حقوقياً ودستورياً. ويتجلى هذا الفشل اقتصادياً في تكريس نمط من العيش الاستهلاكي ضمن منظومة اقتصاد يتعولم بلا بنى جاهزة ويتحرك تحت سطوة رأسمال ضار وداخل بنية إدارية بيروقراطية وفاسدة، وهذا ما يمكن أن يساعد في تفسير تزايد البطالة والفقر في بلد تتحرك رؤوس أمواله الضخمة بين قطبي البورصة والعقار.


أما اجتماعياً فيبدو أن مشاعر الولاءات التقليدية آخذة في التزايد، فرغم أن آلية السلطة قامت منذ البداية على فرض ثقافة المؤسسة الرسمية وترسيخها خارج مناطق المركز، إلا إنه ونتيجة ظروف داخلية وخارجية كثيرة بدأ يتحرك اجتماعياً شعور كامن بمعنى الجماعة والقبيلة والفخذ والنسب والقرية والطائفة ضمن خطابات تنغلق أكثر مما تنفتح وتنبذ أكثر مما تتقبل وتبحث عن شرعية الأنا في نفى الآخر، ليصبح من نافل القول أن التحديث في صيغته الاجتماعية لم يكن إلا شكلياً و قسرياً لم يفتح أفقاً مدنياً للعيش المشترك بل اعتمد طريقة الجذب إلى المركز ضمن ثقافة سعودية حاولت عبر أكثر من نصف قرن أن تمنح كافة مناطق المملكة شكل المركز وروحه وهذا بالتأكيد جاء على حساب شكل آخر للحياة كان سائداً في كافة المناطق. إن ما يفرق بين شكل الدولة التقليدية وشكلها الحديث هو قدرة الدولة الحديثة على استيعاب كافة الاختلافات العرقية والدينية لبشر يحتكمون لعقد اجتماعي يصبحون بموجبه ملتزمين بالتعايش السلمي ضمن كيان يصبح هو الوطن وتحت شكل من الحكم يصبح هو الدولة التي لا تفرض قيمها ولا ثقافتها ولا زمرتها على الآخرين.

علي العمري
[email protected]