من أبرز ما يميز العصر الحديث، انه يستند إلى أساسين هما: العقلانية، والإنسانية. لذا يسمى عصر العقل، وعصر احترام حقوق الإنسان. وكذلك يسمى عصر الحداثة، الذي من أهم أسسه أنه يستند إلى مرجعية العقل، وإلى أصالة الفردانية.


كذلك ما يميز عصرنا هو أن ميادين العلم والسياسة والأخلاق quot;تحررتquot; من أسر رجال الدين، ليس ذلك فحسب بل سار تفسير الدين على نفس المنوال، إضافة إلى quot;استقلالquot; هذه الميادين عن الدين أيضا. وهذه التطورات لم تكن لتتحقق من دون بروز أمرين هما: العقلانية، والإنسانية. فمفكرو الحداثة اعتمدوا على أسس غير دينية في تفسير الأخلاق، والتي على أساسها أصبحت الأخلاق علمانية. وتلك الأسس هي: الطبيعة، والعقل.


كذلك صار العصر الحديث يعبر عن فكر يدّعي أن علاقة الإنسان بالباري وبالإنسان الآخر أصبحت متساوية، وأنه لا ولاية أو وصاية لأي إنسان على الآخر. وفي حين اعتبر الإنسان في الخطاب الديني خليفة الله في الأرض، استطاع في الخطاب الحداثي أن يحل محل الباري ومحل الدين في شأن التعاطي مع الموضوعات المتعلقة بمشكلات الدنيا وقضاياها. بمعنى أن كل فرد بات يتحكم بنفسه وبمصيره ومصير مجتمعه، وأن حظوظ كل فرد في إدارة المجتمع الذي يعيش فيه أصبحت متساوية، وأن الثقافة المهيمنة باتت ترفض السماح بوجود مواطن من الدرجة الأولى وآخر من الدرجة الثانية، كذلك ترفض إعطاء فرد ما أو جماعة ما أو فكر ما حق نقض الرؤى والأفكار الأخرى أو حق الوصاية على الحياة.


وفي الوقت الذي كانت quot;التقوىquot; هي معيار العلاقة بين الإنسان وبين الباري، فإن المعيار الذي أصبح يتحكم بمسؤوليات الحياة وحقوقها وحرياتها ومشكلاتها وقضاياها هو quot;العدالةquot; وليس التقوى. إن هذا الفصل بين الدين وخالقه من جهة، وبين الإنسان وأمور الحياة وقضاياها ومشكلاتها من جهة أخرى، تعلّق في العصر الراهن بالأخلاق أيضا، التي بات قانونها ينطلق من إرادة الإنسان وعلمه وليس من إرادة الدين. وعقل الإنسان والطبيعة أصبحا المرجع في إصدار القوانين الأخلاقية، فلم تعد هناك حاجة للوحي أو النص الديني في ذلك. كما أن التزام الإنسان بالقوانين الأخلاقية بات ينطلق من مسؤولياته الشخصية وتوجهاته العقلانية وإرادته الطبيعية الحرة، وليس من الأوامر الدينية الصادرة إليه. بعبارة أخرى فإن الأخلاق العلمانية وعلمها وقوانينها باتت لا تستند إلى الدين.


من جانب آخر، نجد ان الأخلاق العلمانية أصبحت تعبر عن الأخلاق الاجتماعية، أي الهدف منها هو تحقيق الرفاه والسعادة الاجتماعية الدنيوية ولا علاقة لها بالدنيا الآخرة، في حين تهدف الأخلاق الدينية الإسلامية إلى تحقيق السعادة الفردية والأخروية. لذلك لم يملك الخطاب الديني الإسلامي تصوّرا واضحا حول دور الأخلاق في تنظيم العلاقات الاجتماعية، وهو ما جعله وأخلاقه الدينية غير مباليين بقضايا حقوق الإنسان وانتهاكات الإنسان وظلمه وتعذيبه وقتله لأخيه الإنسان، رغم ان آلية طرد الرذائل زُرعت فيه. فالخطاب الديني الإسلامي حرك الضمير الأخلاقي لمسلمي السودان ضد المدرّسة البريطانية جيليان جيبونز بسبب اسم دمية اعتبر quot;إهانةquot; لرمز المسلمين، فيما لم تتحرك ضمائر هؤلاء مع استمرار قتل مئات ألوف المسلمين في دارفور.


ففي حين أن الفردية في الأخلاق لا تتمثل إلا في تهذيب النفس وإصلاح الروح وبث الفضائل في الإنسان وإبعاده عن الرذائل التي من شأنها أن تنقذه من النار في الدنيا الآخرة لا أن تساعده في تنظيم علاقاته الاجتماعية مع الآخرين في الحياة الدنيا وتحقيق رؤى اجتماعية إنسانية، نجد أن الأخلاق الاجتماعية العلمانية لا تركّز في الأصل على إصلاح الروح رغم انها ترى أن الفضائل والرذائل الاخلاقية الفردية لابد أن تخدم في النهاية العلاقات الاجتماعية والسعادة الاجتماعية ورفاه الجماعة. فالأخلاق العلمانية الاجتماعية تركّز quot;في ذاتهاquot; على تحقيق علاقات أخلاقية إنسانية بين فرد وآخر، أي بين أفراد المجتمع، كما لا يقتصر الأمر بالنسبة إليها على العلاقات الاجتماعية فحسب بل يتعلق أيضا بالمؤسسات الاجتماعية، التي تتعرض للمراقبة والنقد إن هي لم تلتزم بالمعايير الأخلاقية للمجتمع. لذلك فالمؤسسات السياسية والاقتصادية والقانونية في المجتمعات العلمانية لابد أن تبقى تحت مجهر المراقبة والنقد لكي تلتزم بالمعايير الأخلاقية العلمانية.

فاخر السلطان

[email protected]