يعتبر التسامح من أرفع السلوكات التي تميز الإنسان عن باقي الكائنات، حيث على أساسه يقوم الاجتماع البشري السليم، الذي من شأنه أن يوفر بيئة نموذجية تستجيب لحاجة الإنسان في الاستقرار والتعايش والأمن والتعاقد، فيتفرغ لشؤون الحياة ومقتضياتها، وهو يحصّن هذه البيئة من أي طاريء داخلي أو خارجي، انطلاقا من جملة من الضوابط العرفية أو السياسية أو الدينية، التي تقيه شر التفرقة والتناحر والغزو الأجنبي.

لذلك نرى أن أغلب الحضارات الإنسانية والمعتقدات السماوية أو الوضعية، تولي أهمية قصوى لهذا السلوك، لأنها تدرك مدى ضرورته للعمران البشري، والتماسك الاجتماعي، والتوحد الأيديولوجي، فحاولت الدعوة إليه بمختلف الوسائل الترغيبية والترهيبية، ومن المفارقات العجيبة، أن ثمة من الأمم القديمة والحديثة، التي تنص في مواثيقها ودساتيرها الخاصة بها، على ثقافة التسامح داخل حدودها، في حين أنها أثناء التعامل مع ما هو أجنبي عنها من الشعوب والدول، تلغي هذا السلوك، معوضة إياه بالكراهية والشحناء والبغض، كما كان يصنع الرومان في غزوهم واعتدائهم على شعوب البحر الأبيض المتوسط، التي كانوا ينعتونها بالبرابرة، وكما كان يفعل اليهود في معاملاتهم التجارية مع غير اليهود، فيستعملون مختلف الخدع من ربا وكذب وقسم وغير ذلك.

ورغم أن تاريخ الإنسانية شهد تقدما منقطع النظير، على مختلف الأصعدة من صناعة وثقافة واقتصاد وقانون وغير ذلك، مكنه من تنظيم شؤونه بشكل لم يسبق له مثيل، فأحدثت مؤسسات خاصة بذلك، وسخرت ميزانيات هائلة، وصيغت قوانين رفيعة المستوى، فتقارب الناس أكثر، وتداخلت المصالح أكثر، وتضافرت الجهود، وتوحدت الأهداف، وغير ذلك، إلا أن ثقافة التسامح انكمشت! أمام تفشي العديد من السلوكات الإنسانية المنحرفة، كالتناحر والعداء والاحتكار وانتشار المخدرات وهلم جرا، ففي الوقت الذي كان يتوقع فيه الإنسان أنه آن لسلوك التسامح أن يتعمم، ويتقاسم عسيلته كل بني البشر، بيضا وسودا، أغنياء وفقراء، ذكورا وإناثا، متدينين وغير متدينين... يبدو أن الكرة الأرضية تشهد في شتى بقاعها أعراسا دموية يغتال على إيقاعها الأليم التسامح، وعلى مرآى من عيون الناس، بل وبمباركة من كبار العالم ومهندسيه.

إن الإنسان المعاصر لم يسخر ما حققه من إنجازات علمية واقتصادية وثقافية، لخدمة الجانب المعنوي والأخلاقي، بقدرما وظفها لتبديد ذلك الجانب، عن طريق احتكار السوق وعولمة القيم وتسليح الإنسان وتشويه الحقائق ونحو ذلك، فترتب عن ذلك أن أصبح الإنسان، في الغالب الأعم، مسكونا بما هو مالي وربحي، لا يهمه أن يكون شريفا أو صادقا أو تقيا أو متسامحا، وإنما يهمه أن يكون قويا بماله وجاهه ومكانته الاجتماعية ونفوذه السياسي، مما صعد من منسوب التنافس الشرس الذي قد يمكن الإنسان من تحقيق ذلك الطموح الدنيوي، فحتم عليه التضحية اللازمة بالنفس والنفيس من أجل ذلك، فضحى بشرفه وعلمه وأخلاقه وحتى أرضه!

هكذا سوف يصبح التسامح الذي يكد بعض الشرفاء في الدعوة إليه، عبر مختلف المؤسسات والمؤتمرات والتقارير والمساهمات، مجرد وهم، كما صرحت وزيرة الإسكان والاندماج الهولندية السيدة إللا فوخلار، في إحدى المؤتمرات التي نظمت الأسبوع الماضي (7 ديسمبر 2007) بميدنة أمستردام، مما دعاني إلى كتابة هذه الورقة. وقد لاحظت الوزيرة أنه على صعيد الحياة اليومية داخل الغرب عامة، وهولندا خاصة، ينشأ شرخ عميق بين الأجانب والسكان الأصليين (الهولنديين/الأوروبيين/الغربيين)، ومرد ذلك إلى اللا مبالاة والتباعد، ثم تضيف قائلة، أردت أن أصبح وزيرة لأنه كان يزعجني ويقلقني المناخ الذي يتم فيه الجدال حول قضية الاندماج، حيث تسود لهجة مغايرة جدا لما كنت أعهده سابقا في هولندا المتسامحة، ولعل ذلك التسامح كان مجرد وهم! لذلك فهي تتفاءل لوزارتها بالتوفيق، إذا ما تمكنت بعد نهاية مهمتها، من أن تحقق سلوك التسامح، الذي كان مضربا للأمثال في هولندا، ولو نسبيا على أرض الواقع.

ترى هل حقا سوف يتحقق فأل/توقع الوزيرة، فترجع هولندا إلى رشدها القديم، وتصبح كما كانت قبل عقد زمني، ملتقى لتسامح الثقافات والأديان واللغات والأعراق؟ ذلك ما يترقبه كل هولندي أصلي أو من أصول أجنبية، على وقع معنى هذا البيت الشعري الجميل للشاعر الجاهلي طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا *** ويأتيك بالأخبار من لم تزود

التجاني بولعوالي
كاتب مغربي مقيم بهولندا
www.tijaniboulaouali.nl