يبدو جلياً أن هناك أزمة وعي تميز حاضرنا على الصعد كافة دون استثناء، وهذا ما يجعل المجتمع والقضية تدور في حلقة مفرغة من الفعل وردات الفعل على نحو عشوائي غير ممنهج أو مدروس جيداً. ولذلك نغرق في حالة لا تنتهي من مشكلات تبحث عن حلول بلا جدوى سوى تصريحات جوفاء لا تغني ولا تسمن من جوع.
فعلى الصعيد التعليمي هناك اهتمام بالكم على حساب الكيف، تخمة من حملة الشهادات العلمية بحيث نفخر كمجتمع فلسطيني بأننا المجتمع الذي يضم أعلى نسبة من المتعلمين من حملة الشهادات، وأننا الأقل نسبة على صعيد الأمية، ولكن هل يكفي الحديث عن الكم، أم آن الأوان للبحث عن النوعية الجيدة في ظل عالم يعيش عصر العولمة حيث التنافس شديد في جميع الحقول العلمية. فأما أن تقدم إنتاجك أو إسهاماتك العلمية أو تصبح خارج نطاق التقدم العلمي، حيث يفرض عليك أن تكون مستهلكاً لا منتجاً. وهنا يكمن الفرق بين العلم وبين الوعي به لأنه الوعي بالعلم يعني إدراكه أولاً ثم تحويله إلى سلوك بناء يمارس. ويمتد ذلك للتفريق بين المتعلم والمثقف. فالمتعلم يحمل شهادات علمية يتعامل معها بعقلية الوظيفة أو المكانة الاجتماعية، وتكون عملية التعلم لديه من أجل تحقيق ذلك، ولا يعني له العلم قيمة بحد ذاته. وهنا نجد أن الكثير من طلابنا في الجامعات يتعامل مع العلمية التعليمية من هذا المنظار، حيث لا يهمه ما يدرسه وكيف يدرسه، فالمهم هو تقديم الامتحان والحصول على معدلات عالية حتى لو لم يع ما درسه، ولم يوظفه في حياته العملية كمرجعية قيمية ومعرفية لمعالجة السلوك وإدارة دفة اتجاهه، ومواجهة مشكلاته بمسؤولية عالية. بينما المثقف هو الذي يعي ما تعلمه وحوله إلى إدراك وإحساس لما حوله في عملية تقييمة نقدية للبيئة المحيطة به، وعملية تفاعل معها، وتجسيد ذلك فكراً وسلوكاً ممارس في عملية تعبيرية راقية تحلق في فضاء إبداعي لا منتهي. وهنا يكمن التساؤل إلى أي مدى يتم توظيف الفكر العلمي في فهم مشكلات المجتمع والعمل على حلها بعقلية منطقية تغوص عميقاً بحثاً عن العلل والمسببات لكي يتم معالجتها بطريقة ممنهجة بعيدة عن العشوائية والارتجالية التي تزيد الطين به، وتنقلنا من أزمة إلى أخرى، ومن واقع متأزم إلى حالة أكثر تأزماً نكون قد فقنا وأضعنا خلالها الكثير من الوقت والجهد بحيث تصل معها المشكلة وكأنها حالة مستعصية تدفعنا إلى النظر إليها وكأنها بحاجة إلى معجزات أو تدخل قوى غيبية لحلها.
كما نعاني من أزمة وعي بخصوص العملية الديمقراطية. حيث أننا نمارس الديمقراطية ضمن إطار شعارتي أو خطابي إنشائي. ونختزل العملية الديمقراطية في النظام السياسي وضمن إطار يشوبه الكثير التشوه والتسطيح. إذ يتم النظر إلى العملية الديمقراطية على أساس أنها صندوق اقتراع، وفرز أوراق، وفوز وخسارة دون أن يتم الوعي بالديمقراطية كثقافة أو منهج حياة. وهنا نرى الانتكاسة التي تواجهه العملية الديمقراطية حيث أننا في الوقت الذي نرفع شعارات مثل quot;عرسنا الديمقراطيquot; فإننا نرفض الاحتكام إلى نتائج هذا العرس. فمن يفوز يعتقد أنه امتلك بفوزه صكاً للتفرد وعقداً لإقصاء الآخر. وأنه أصبح الحاكم المطاع وصاحب الحجة والبرهان، ومن يمتلك الحقيقة، فهو الحاكم الرباني والخطيب العلامة لا يخفى عليه شي من علوم الدنيا والآخرة. فهو المفتي والقاضي والجلاد. وفي المقابل فإن من خسر في الانتخابات لا يتقبل الأمر حيث يستمر بالتصرف وكأنه لم يخسر وأنه صاحب المشروع، وصاحب الصولجان. فيحمل المسؤولية لهذا وذاك، ويحاول البحث عن كبش فداء للمحاسبة وإلقاء اللوم دون أن يقوم بعملية نقدية ذاتية لكوامن القوة والضعف. حتى يعالج جوانب القصور بعقلية منطقية وبفكر علمي. فالديمقراطية الحقة تنبع من وعي وإدراك لأبعادها المختلفة، وعدم الاكتفاء فقط ببعدها السياسي القائم على التعددية السياسية، والعملية الانتخابية، وتعدي ذلك إلى البعد التربوي المجتمعي. فهي ليست ثوباً يلبس، أو شعاراً يرفع بل هي عملية إنسانية يجدر أن تبدأ مع الإنسان منذ سنوات حياته الأولى وتنمو معه في كل مرحلة ينتقل إليها، على اعتبار أنها سلوك يمارس ومنهج حياه يستخدم في جميع مناحي الحياة. فلا يمكن الحديث عن قائد سياسي ديمقراطي في مكتبه، وديكتاتوري في منزله. فالديمقراطية كثقافة ومنهج حياة هو كل لا يتجزأ.
كذلك هناك إشكالية في مفهوم الوطنية وفي كيفية ممارسته. وهنا تكمن أزمة وعي في إدراكه. فالوطنية أيضاً ليس شعاراً يرفع بل إحساس وشعور بالانتماء، ووعي وإدراك بما يتطلبه ذلك الشعور من عطاء. فلا يمكن الحديث هنا الوطن والوطنية دون إدراك المرجعية القيمية التي يجب الاحتكام لها من أجل تحقيق ذلك. فالوطنية وحب الوطن يعني إيثار الوطن عن النفس، والاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس من أجله. ولكن يبدو أننا نعاني من تشوه بل تشويه في كل مفاهيم المجتمع ومرجعياته القيمية في ضوء حالة الانفلات أو الانفلاش الذي نعاني منه على الصعد كافة. فلا يمكن أن يتم تغليب المصلحة الشخصية أو مصلحة الفصيل على المصلحة الوطنية. ولا يمكن أن يقتل الأخ أخاه والجار جاره، والصديق صديقه تحت مسمى الوطنية. فرفقاء الأمس في السلاح والمعتقل لا يمكن أن يواجهوا بعضهم بعضاً بالسلاح تحت مسمى الوطنية، وألا أصبحت الوطنية هنا شعاراً يرفع وليس وعياً ثم سلوكاً ممارس. ولا يمكن أن يكون السلاح الذي يرتكب الجرائم في المجتمع على الصعيد الشخصي والعائلي هو سلاح وطني. ومن هنا نرى أن الوطنية أصبحت لدى البعض مجرد كلمات جوفاء يرددها بين الحين والآخر من أجل إخفاء فساده وجرائمه، ولهاثه وراء مصالحه الشخصية أو الحزبية الضيقة. وهذا بالطبع دفع الكثير إلى الكفر بالوطنية الممارسة الآن في شوارع و أزقة وحارات الوطن، وكيف أنها أصبحت توظف كبضاعة تعرض للمزايدة في المؤتمرات والمهرجانات وعبر الفضائيات. وكيف أصبحت شهادات تمنح لتعلق في الصالونات، ومجالس العائلات، ومكاتب الوزارات... الخ. وعبارات تردد لإتمام الصفقات الفصائلية والتنازلات السياسية.
لذلك فإن المطلوب هو القيام بعملية تقييمية للذات الفردية والمجتمعية، والسعي الحثيث إلى امتلاك الوعي والإدراك بالعلم وبالديمقراطية وبالوطنية وغيرها من المفاهيم والقيم والأنشطة الإنسانية وتحويلها من ثقافة ومعرفة جامدة إلى سلوك ممارس. وأن نصل إلى حالة ترى أن واقعنا المعاش وما يحيط بنا من عولمة لكل شيء يستدعي أن نكون علميين ومنطقيين في تناول قضايانا ومجتمعنا بعيداً عن الارتجالية والعشوائية، وبعيداً عن اللهاث وراء المعجزات والغيبيات.
د. خالد محمد صافي
التعليقات