عجيب أمر بعض البشر الذين حشوا رؤوسهم منذ الأربعينيات، أي قبل أكثر من 60 عاماً، بمقولات فارغة إلا من الطنين والرنين دون أن يتراجعوا ويراجعوا ما حشوا به رؤوسهم حتى ولو بحجة التقادم وليس بسبب فراغه من كل معنى. أطل أحد هؤلاء الأغبياء بالأمس من إحدى الفضائيات ليخبرنا ـ ويا لغرابة ما يخبر!ـ ليخبرنا أن حال أمة العرب اليوم أحسن حال، فهي تسجل أكبر انتصاراتها وتهزم المشروع الأميركي في المنطقة ـ دون أن يخبرنا شيئاً عن هذا المشروع لأنه لا يعرفه ـ وتتراجع الجيوش الأميركية في العراق أمام المقاومة العراقية البطلةـ من رفاق بن لادن والزرقاوي. وفي فلسطين تنتصر المقاومة وتشكل حماس بالتعاون مع فتح حكومة المقاومة ـ التي أخذت على عاتقها ألا تقاوم الإحتلال الصهيوني إلا بالكلمة الحسنة. وتنتصر سوريا فتزورها مساعدة وزيرة الخارجية لشؤون اللاجئين، إيلين سوربري، عن صغار (!!) ـ رغم أن هذه الموظفة الأميركية بصغارها رفضت مقابلة وزير خارجية الحكومة السورية. وينتصر السودان في رفضه للقوات الدولية في دارفور وهو ما يسمح بانتصار عربي تحققه قبائل الجنجويد العربية ـ في قتل مائتي زنجياً واغتصاب مائة زنجية يومياً!!! ـ هذا ليس سياسة.. هذا زبالة، زبالة الإيديولوجيا!! زباله، لأن هذا الغبي القومجي لم يسأل نفسه عن الهدف المباشر للذين عملوا على تحقيق مثل هذه quot;الإنتصاراتquot;!! وما الذي سيصنعه هؤلاء العرب المنتصرون وكان الأميركيون المهزومون يمنعونهم من صنعه؟! الغبي سيلوك زبالته ليقول.. الوحدة، الوحدة العربية!! الوحدة العربية التي يتصور القومجيون بخيالهم المريض أنها ستحقق لهم الحرية والتنمية وكل المعجزات التي أعجزتهم فيخاطبون السحابة مثل هرون الرشيد.. إمطري أيتها السحابة أنّى شئت فلسوف يعود خراجك إليّ ـ ينحصر حلم هؤلاء في الخراج ليس أكثر!!
الطاعون الأخطر المتسلط على الجنس العربي، وبالأخص العرب المستعربة في شرق المتوسط، هو طاعون المثالية ( Idealism ) فيظن المطعون منهم أن بإمكانه اختيار ما يحلو له من مبادئ سياسية واجتماعية، كما يختار ربطة عنقه، يناضل من أجل تحويلها إلى واقع في الحياة. وهكذا اختار القومجيون، من أعداء الشيوعية، خيارات الوحدة العربية والحرية والإشتراكية العربية ـ طبعاً المختلفة تماماً عن الإشتراكية الماركسية ـ وهي خيارات ذات وقع حسن للأذن العربية وخاصة بعد الهزيمة المذلة للبورجوازية الشامية وضياع مشروعها القومي الوحدوي، المملكة العربية المتحدة بقيادة الشريف حسين بن علي في العام 1916، المشروع الأول والأخير الذي كان له نصيب محدود من التحقق ـ أقول من أعداء الشيوعية لأن نشاطات هؤلاء القومجيين النظرية والعملية، وقد تابعتها عن كثب، تركزت في معاداة الشيوعية وليس معاداة الإستعمار كما اقتضي الحال، بالرغم من وضاعتهم الإجتماعية، وبالرغم من أن الحركة الشيوعية لم تمسّ أشياءهم من قريب أو بعيد ولم تقف حائلاً دون تحقيق أهدافهم بل العكس هو الصحيح. يفوت هؤلاء القومجيين، وهم في الغالب نخب من مثقفي البورجوازية الوضيعة الذين لا يمتلكون أي قدر من الفكر السياسي، يفوتهم أن البرامج السياسية الإجتماعية لا تخضع للانتقائية على الإطلاق حيث تتحكم مختلف ظروف الواقع السياسية والاقتصادية والاجتماعية بكل شروط البرنامج المستقبلي أو أي مشروع نهضوي أو تطويري. إذا لم يكن البرنامج المستقبلي وليد دراسة علمية وموضوعية تقارب شروط الواقع القائم فلن تكتب له الحياة ولن يبصر النور.
استحكمت المثالية بالعقل العربي عن طريق مؤرخي السلاطين أو المؤرخين المتأسلمين الذين وصفهم ابن خلدون بِ quot; المتزلفون لأصحاب النحل والمراتب quot; الذين زعموا أن المجتمعات الإسلامية الأولى كانت قد انتظمت وفق الشريعة المحمدية حال إعلانها وقيام الدولة الإسلامية، وأن مجتمع العبرانيين قبلها كان قد انتظم أيضاً وفقاً لشريعة موسى!! إن أية قراءة نقدية تكذّب مثل هذا التاريخ الزائف فالشريعة المحمدية ما زالت حتى اليوم موضع خلاف واختلاف رغم ما وصلت إليه الحضارة من علم ومعرفة وطباعة ونشر فما بالك قبل أربعة عشر قرناً حين لم يكن بين الناس من يعرف القراءة والكتابة بل لم يكن هنالك ما يُـقرأ أو يُـكتب وغاب تماماً أي أثر للأئمة والشارحين. . كما أن العبرانيين قبلهم كانوا قد تبرموا كثيراً من شرائع موسى واعترضوا عليها بقوة حتى أنهم استبدلوا إلهه بالعجل الذهبي ودفعوا فيه كل مصاغ نسائهم الذهبي؛ وقد أشار سفر القضاة في التوراة إلى تمرد العبرانيين المستمر على سلطان قائدهم ونبيّهم موسى حتى اضطروه إلى تعيين القضاة ومطالبتهم بإنزال أشد العقاب بمن يخالف وصاياه بعد أن شاعت مخالفتها ولم يعد يحترمها العامة.
للمرء أن يعتقد بما يشاء، لكن الحياة لا تحفل بما يعتقد طالما أنها تقتضيه ألاّ يتوانى للحظة في الاشتباك معها مجرداً من كل معتقداته ووفقاً لشروطها وأدواتها، شروط الإنتاج وأدوات الإنتاج، وكل ذلك من أجل استمراره في قيدها، قيد الحياة أو البقاء (Survival). أدوات الإنتاج التي يعمل بها وعليها هي وحدها ما يأسر عقله على الأرض دون أن تسمح لخياله أن يجنح بعيداً فينشغل بأشياء لا مثيل لها على الأرض. كل الأفكار التي لا علاقة لها بأدوات الإنتاج ووسائل الإنتاج لا أثر لها في علاقات الإنتاج وفي بنية المجتمع وهيكلته. حتى الآلهة والأديان لم تظهر في حياة الإنسان إلاّ لتساعده في الإنتاج وفي مقاربة الطبيعة. الكائن الأهم بعد الآلهة، وهو الدولة بمختلف عناصرها، بطبيعتها، بشكلها، بقوانينها وبمختلف أدواتها، إنما هي منظمة تقوم أصلاً على قواعد الإنتاج الذي يتحمل في النهاية كل أكلافها.
لعل أهم ما قاله لينين فيما قال هو ما يتعلق بمفهوم الدولة، إذ قال: quot; ما من مفهوم لحق به التشويه بمقدار ما ألحقته البورجوازية بمفهوم الدولة عن سوء قصد quot;. وسبب ذلك بالتحديد هو أن أية أفكار تغييرية تقدمية في المجتمع لا يمكن أن تمتلك أية فعالية على أرض الواقع ما لم تنطلق من مفهوم علمي وصحيح للدولة ووظيفتها في المجتمع، أي مجتمع. فالدولة كما رآها ماركس ومن بعده لينين هي بالضبط الجهاز الذي يتشكل من أجل الحفاظ على وسائل الإنتاج السائدة وتأمين الشروط الموائمة لعملها بمختلف الوسائل السياسية والثقافية والقمعية وبذلك تمتد وظيفة الدولة لتحمي مصالح الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج حيث تكتسب خصوصيتها القمعية. ومن هنا يمكننا الجزم بأن الدولة العربية، في مختلف الأقطار العربية، لا ينطبق عليها تعريف الدولة وذلك لأن وسائل الإنتاج الفاعلة في البلدان العربية جميعها ما زالت تقصر عن تأمين احتياجات شعوبها وتعجز بالتالي عن إقامة مثل هذه الدولة، أي الدولة الحديثة. فالدولة العربية إذاً هي مجرد عصابة تنهب ريوع وسائل الإنتاج على تخلفها دون أن تلقي بالاً لخدمة هذه الوسائل بل العكس هو الصحيح، وليس أدل على ذلك من أن الصناعات الحرفية الشامية لم تحرز أي تقدم أو تطور منذ القرن العاشر الميلادي وخضوع المشرق العربي للكولونيالية التركية المملوكية وحتى انفكاكه منها في القرن العشرين. خلال عشرة قرون كاملة خضع العرب فيها لنير العبودية التركي لم تتقدم الصناعات الحرفية الشامية خلالها قيد أنملة، ولعلها كانت ستسبق الحرفية الأوروبية إلى الثورة الصناعية لو لم يخضع العرب لنير العبودية التركي الثقيل جداً لعشرة قرون كاملة. أما إذا اعتبرنا النهب هو وسيلة الإنتاج التي تحافظ عليها الدولة البطريركية فحينئذٍ فقط ينطبق التعريف الماركسي للدولة على الدولة البطريركية كدولة الخلافة الإسلامية ودولة المماليك والدولة العثمانية.
بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في العام 1945، بعد أن دكّ الجيش الأحمر قلاع النازية في عقر دارها وانهارت أكبر إمبراطوريتين استعماريتين، البريطانية والفرنسية، وخرجت منها أول دولة اشتراكية في التاريخ كأقوى قوة في الأرض، تعالت ثورة شعبية في قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية فيما بين 1946 ـ 1972 وصفت بثورة التحرر الوطني لمطالبتها بالاستقلال وفك الروابط مع مراكز الرأسمالية الإمبريالية، باستثناء العالم العربي حيث جرى وصفها بثورة التحرر القومي وليس الوطني، والفارق الوحيد بين الوطني والقومي هو أن ثورة التحرر الوطني في البلدان العربية لم تستهدف الإستقلال وفك الروابط مع المراكز الرأسمالية الإمبريالية فقط مثلها مثل ثورات التحرر الوطني الأخرى في القارات الثلاث بل طالبت بالإضافة إلى ذلك، بل وقبل ذلك، بتوحيد البلدان العربية، واحد وعشرين بلداً عربيا لم يسبق لها أن كانت في وحدة واحدة، وهو ما أثقل على ثورة التحرر العربية بمقدار أو بآخر على صعيدي النظرية والتطبيق.
افترض القومجيون، ولعلة جهلهم في الاقتصاد السياسي، افترضوا أن الأقطار العربية كانت موحدة في حدود الإمبراطورية العثمانية وما قبلها من إمبراطوريات بطريركية كالأموية والعباسية والمملوكية، بحكم أنها كانت تخضع جميعها لسلطان مسلم واحد سواء أقام في دمشق أو بغداد أو القاهرة أو اسطنبول وسواء كان عربياً أم مملوكياً أم تركياً عثمانياً. لم يتساءل هؤلاء القومجيون كيف ترك العثمانيون العرب موحدين متحدين وهم الذين عمدوا إلى طمس تراثهم وثقافتهم ولغتهم وأقاموا الجهل والأمية بين سوادهم عامدين إلى تتريكهم!! اقتصاد تلك الإمبراطوريات البطريركية القبلية كان اقتصاداً ريعياً يعتمد كليّاً على نهب الفلاحين والحرفيين والتجار دون أن يعود عليهم بأية خدمات مهما كان نوعها. لم تتوحد الأقطار العربية في ظل تلك الإمبراطوريات البطريركية إلا بنمط النهب الموحد. ومن المعروف تماماً أن أية علاقات اقتصادية لم تقم في ظلها على الإطلاق بين أي قطرين تابعين فالاقتصاد الفلاحي السائد آنذاك لا يقيم مثل تلك العلاقات خاصة وأنه انكمش كثيراً بفعل النهب المتزايد للفلاحين الذي مارسه جلاوذة الخلفاء والسلاطين. كما أن الصناعات اليدوية ولذات السبب لم تتقدم وعجزت عن تغطية احتياجات السكان أبعد من محيط محدود بفعل تخلف أدوات الإنتاج ووسائط النقل بصورة خاصة. ويصعب القول بأن الأقطار العربية كانت متصلة جغرافياً وهي تفصلها صحارى شاسعة، صحارى عبورها أصعب من عبور البحار بغياب السيارات والقطارات والطائرات آنذاك. بل إن اللغة العربية وهي الجامع الوحيد بين الشعوب العربية لم تكن لغة شعوب المغرب ومعظم القبائل السودانية. وليس أدل على كل ذلك من أن المشروع القومي، مشروع المملكة العربية المتحدة الذي نهضت به البورجوازية الشامية بقيادة الشريف حسين بن علي في العام 1916 كان يهدف فقط إلى وحدة ما يسمى اليوم بالمشرق العربي أي الأقطار العربية في آسيا فقط ولم يخطر ببال أي من زعماء الثورة العربية الكبرى أن مصر قطر عربي. وعندما فرض الإنجليز عضوية مصر في جامعة الدول العربية قابل قادة العرب ذلك بالغضب وعدم الارتياح خاصة وأن العائلة المالكة في مصر لم تكن عربية ولم تتكلم العربية كما هو معروف كما أن الشعب المصري قبلئذٍ لم تخالجه قط مشاعر القومية العربية.
أخطأ القومجيون وظنوا أن بإمكانهم إعادة الأقطار العربية إلى حالة الوحدة الموهومة. لم يكن ذلك ممكناً بالطبع كما يؤكد الواقع القائم اليوم. لكن هل هو ممكن في المستقبل المنظور؟
لئن كانت حظوظ الوحدة قليلة أمام الشريف حسين بن علي بفعل الجبروت الإمبريالي الذي واجه مشروعه، فقد انعدمت تماماً أمام عبد الناصر وتلاشت نهائياً اليوم وفي المستقبل المنظور ـ لماذا؟؟ لماذا القطيعة مع الوحدة العربية؟؟.. استحالت الوحدة أمام عبد الناصر بفعل طبيعة المرحلة التاريخية وظروف حركة القوى الدولية حيث أخذت حركة التحرر الوطني التي تعالت بعد الحرب العالمية الثانية، وحركة ناصر جزؤ منها، أخذت مساراً مختلفاً عن مسار حركة الشريف حسين التي جاءت تعبيراً عن طموحات البورجوازية الشامية النامية في استقلال المشرق العربي وحماية سوقه لصالح الصناعات الحرفية الشامية. لكن حركة التحرر والإستقلال فيما بعد الحرب العالمية الثانية جاءت بكل مواقعها على أطراف الثورة الإشتراكية العالمية وما كان بإمكانها أن تنجح في مواجهة أعدائها الاستعماريين وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية إلا بحماية مباشرة من الإتحاد السوفياتي ومختلف قوى الإشتراكية في العالم. السوق الرأسمالية الوطنية وهي الحاضنة الطبيعية الوحيدة للقومية لم تعد حاضرة. البورجوازيات التي قادت حركة التحرر الوطني، ومنها البورجوازية المصرية بقيادة عبد الناصر بداية، لم يكن أمامها فرصة للحياة سوى التخلي عن أحلامها البورجوازية والإنضمام إلى قوى الإشتراكية العالمية. لم تكن قوى الإمبريالية لتسمح لبورجوازيات الأطراف أن تشب عن الطوق وتقيم سوقاً وطنية رأسمالية منافسة لها، وهو ما سماه المفكر المصري المعروف الدكتور سمير أمين بِ quot; القطيعة الرأسمالية quot;. أثناء فترة حركة التحرر الوطني التاريخية الممتدة ما بين 1946 و 1972 لم يكن أمام حركات التحرر الوطني وفك الروابط مع مراكز الرأسمالية الإمبريالية سوى خيارين لا ثالث لهما، إما إعادة الروابط مع مراكز الإمبريالية إلى ما كانت عليه والتخلي عن حلم الإستقلال الوطني والاقتصاد المستقل، وإما الاندماج في المعسكر الإشتراكي والتخلي بمعنى من المعاني عن quot;الإستقلال الوطنيquot; ومشروع الإقتصاد البورجوازي الرأسمالي المستقل باتجاه الالتحام مع الاقتصاد الاشتراكي العالمي (الذي لم يعد اشتراكياً في الستينيات وما بعدها). القومجيون لا يوافقون على هذه الحقيقة وذلك نظراً لقصورهم في إدراك حقائق العصر ومنها أن الإقتصاد الوطني القائم على الذات بشكل كامل لم يعد ممكنا ويستحيل على أي بلد أن يطوّر اقتصاده ووسائل الإنتاج ما قبل الرأسمالية فيه، لا بل مجرد أن يستمر في الحياة، دون الالتحام بالإقتصاد العالمي إما بشقه الرأسمالي أو بشقه الاشتراكي. فمنذ ولادة النظام الرأسمالي قبل نحو ثلاثة قرون أصبح الإقتصاد عالمياً (Global) وهو ما يشترط إندغام الإقتصاد الوطني باقتصاد العالم، وهذا أيضاً ما حال دون تواصل الأقطار العربية مع بعضها البعض.
إن ما يحول أساساً دون الوحدة بين الأقطار العربية بل حتى بين أي قطرين عربيين متجاورين هو الإنفصام التاريخي المزمن ما بين البنية السياسية للدولة العربية من جهة والبنية الإقتصادية الاجتماعية من جهة أخرى. ليس ثمة من علاقة تربط البنية السياسية في أي بلد عربي مع بنيته الإقتصادية وهو ما يعني أن الدولة العربية بكل أعضائها ومفاصلها لا تمت بصلة لعلاقات الإنتاج القائمة في مجتمعها ولا إلى التراتب الطبقي أو الهيكلة الإجتماعية فيه. الدولة في البلدان العربية هي تحديداً دائرة مغلقة تماماً (Closed Circle) وغريبة عن كل الطبقات في المجتمع ولذلك فإن بطشها يقع على سائر الطبقات الإجتماعية وخاصة على الطبقة الأغنى خلافاً لما يعتقد عامة اليساريين، ولو لم يكن الأمر كذلك لتطورت وسائل إنتاج الطبقات العليا الغنية ولما بقيت على حالها منذ مئات السنين. الدولة الدائرة المغلقة هي أشبه بالعصابة تنهب الثروة حيثما تجدها بغض النظر عن انعكاس ذلك على المجتمع. دولة كهذه لن يكون في أجندتها الوحدة مع أي بلد آخر إلا إذا رأت فيه ما يغري على النهب ولم ينهب بعد، ومثل هذا الأمر لا يتوفر بتاتاً طالما أن دولة الدائرة المغلقة تتواجد فيه مسبقاً. وما يجب ألاّ يغيب عن الذهن هو أن دولة الدائرة المغلقة، مثال الدولة العربية، وهي الغريبة على المجتمع ولا تمت لطبقاته بصلة هي أيضاً إبنة مجتمعها حيث أنها لم تظهر في المجتمع إلاّ كمحصلة لغياب الطبقة الاجتماعية القادرة على تولي السلطة، بمعنى الطبقة التي تمتلك وسائل إنتاج قادرة على تموين المجتمع والقيام به.
بالانسياق مع مثاليتهم يظن القومجيون أن دولة النخبة وليس دولة العصابة هي ما يمكن أن يحقق الوحدة. ويبررون مثل هذا الظن بالارتكان إلى تواجد المثقف النقدي الذي لا ينحرف عن الحق والحقيقة ولو أدى ذلك إلى خسارة نفسه، وقال بعضهم بالانقلاب على الذات.. يتحولون إلى مبعوثين من العناية الإلهية ويحققون الوحدة والحرية والإشتراكية!! لا يختلف مثل هؤلاء التغييريين عن رجال الإكليروس (العلمانيين) الذين يحصرون الحاكمية بالله والتي لا تتم إلا من خلالهم فقط كون قانونهم هو قانون الله وهم وحدهم به ضليعون. ليس ثمة من يكرّس نفسه للثقافة أو للأخلاق لوجه الله. إن من يدّعون بمثل هذا الإدعاءات الباطلة هم أسوأ كثيراً من رجال الدين المطالبين بالسلطة حيث أن رجال الدين هم بفعل أوهام يجترونها أقرب إلى التنسك من رجال الثقافة. دولة المثقفين النقديين لا تختلف بشيء عن دولة العصابة بل ولعلنا نجد في دولة العصابة من هم أرفع ثقافة وأحد نقداً ممن يمكن وصفهم بالمثقفين النقديين.
صرخة القومية العربية التي دوّت من خلال إعلان البورجوازية الشامية مشروعها الاستقلالي الوحدوي في المملكة العربية المتحدة في المشرق العربي مرافقاً للحرب العالمية الأولى (1916) ولم تتلاشَ أصداؤها حتى اليوم، صرخة القومية هذه تتركز كليّاً في مطلب الوحدة العربية التي كانت البورجوازية الشامية قد حددتها في المشرق العربي دون الامتداد إلى أفريقيا، أما اليوم فتشمل الوحدة المطلوبة كل شمال أفريقيا وساحلها الشرقي الذي لا تتكلم شعوبه العربية. لئن امتلك المشروع الشامي بعض المبررات المادية للوحدة حيث كانت الصناعات الحرفية الشامية تلبي معظم احتياجات التجمعات السكانية المحيطة وتصل إليها بانتظام ـ باستثناء سكان سواحل الجزيرة الجنوبية والشرقية الذين عارضوا المشروع الشامي بصورة عامة لهذا السبب ـ لئن امتلك المشروع الشامي بعض المبررات آنذاك فإن المشروع الوحدوي الذي ما زال بعض المثاليين والقومجيين يخطبون به اليوم لا يملك أي قاعدة مادية يستند إليها حيث احتياجات الشعوب العربية المادية والحيوية اتسعت وتنوعت بصورة مذهلة دون أن تلبي وسائل الإنتاج القائمة في كل البلدان العربية أي جزءٍ منها. فكيف للسعودية مثلاً أن تتحد مع مصر وشعباهما يعتمدان في معاشهما على المنتوجات الصينية واليابانية والكورية. ماذا سيستدعي وحدتهما؟ هل يمكن أن تكون اللغة الداعي الوحيد للوحدة؟
سيرد الوحدويون متسائلين.. ولماذا يحول اعتماد الشعبين على المنتوجات الأجنبية دون وحدتهما؟! ـ تقوم وحدة الجماعات البشرية على قاعدة تبادل المصالح فإذا لم تتبادل هذه الجماعات أية مصالح فلن يكون هناك ما يستدعي وحدتها. يعتقد الوحدويون أن المانع الوحيد للوحدة هو السلطة الحاكمة التي لا تقبل التنازل عن سلطتها وعن الحكم، وهذا صحيح بوجه من الوجوه لكنهم لا يعرفون أبداً أسباب الممانعة. لماذا لا تمانع السلطة الفرنسية أو الألمانية مثلاً في التنازل عن الكثير من سيادتها وسلطاتها باتجاه الوحدة الأوروبية بعكس كل السلطات العربية التي رفعت شعار الوحدة قبل مائة عام دون أن تتنازل عن شيء؟؟ للأمر علاقة وثيقة ومباشرة بأنماط الإنتاج ووسائله في البلدان العربية وهي الأنماط والوسائل التي لم تتقدم وتتطور بعد لتلبي احتياجات شعوبها وتتأهل تبعاً لذلك بتعيين طبيعة الدولة، الدولة العضوية التي تعبر عن قوة اجتماعية ذات شأن كبير في تشكيل المجتمع وتموينه. مثل هذه الدولة الحديثة فقط، الدولة العضوية التي تمتلك السيادة الإقتصادية الإجتماعية، وليست السيادة السياسية فقط كما في البلدان العربية، هي الدولة القادرة على التنازل عن السلطة والسيادة، بحكم امتلاكهما بصورة مطلقة، ليس لصالح دولة أخرى غريبة ذات مصالح مناقضة لمصالح مجتمعها بل لصالح منظمة تضمن ذات المصالح وسبل تنميتها.
إذاً الوحدة العربية لا تتم إلا من قبل دول عضوية المنشأ ذات أصول اجتماعية وتمثل طبقات ذات شأن رئيسي في عملية الإنتاج وتمتلك وسائل إنتاج ذات فعالية في تموين المجتمع وسد احتياجاته بصورة عامة. فهل يمكن أن يتحقق ذلك في العالم العربي في المستقبل؟! الجواب هو بالطبع النفي القطعي، لكن لماذا؟؟
البورجوازية الشامية كانت في صدر القرن العشرين في مرحلة عبور نحو نظام الإنتاج الرأسمالي وكانت ستقيم الوحدة في المشرق العربي لولا مواجهة الإمبريالية الشرسة وهي في أحط قدراتها بفعل الاستنزاف العثماني الطويل. أما المشروع الناصري فلم تكن له فرصة في التطور إلا في المساق العالمي للثورة وهو المساق الإشتراكي الذي ليس من عناصره الوحدة القومية وتنعدم فيه السوق بمعناها الرأسمالي مثل العرض والطلب والأسعار. بدأت الثورة الإشتراكية بالخمود وبالانهيار في ستينيات القرن الماضي وانتهت مرحلة ثورة التحرر الوطني وانهارت مسيرة الإستقلال في العام 1972 وانهار معها وبذات الوقت النظام الرأسمالي الإمبريالي في العالم كله. فيما بعد quot;إعلان رامبوييهquot; (Declaration of Rambouillet) نوفمبر 1975 بدأت مؤسسات الإنتاج الرأسمالي التي قاومت الإنهيار التام بالرحيل من مراكز الرأسمالية الكلاسيكية المعروفة وهو ما يسمي تعسفاً بالعولمة (Globalization). إنعكس هذا بصورة جلية على نمط الإنتاج السائد كما على الهيكلة الطبقية ليس في مراكز الرأسمالية فقط بل وفي العالم بصورة عامة كذلك. فبدلاً من النظام الرأسمالي السلعي ساد نظام الإنتاج الفردي اللارأسمالي الخدمي، وبدلاً من الطبقة الرأسمالية السائدة حل محلها الطبقة الوسطى، أصحاب ومدراء البيوتات المالية والمضاربون بالأسهم والسندات ومختلف منتجي الخدمات. وهكذا بدأت الدولة القومية الرأسمالية الحديثة بالانحلال لتظهر مكانها ما يسمى بدولة الرفاه (Welfare State) الدولة الموظفة في إنتاج وتوزيع الخدمات، دولة تختلف بطبيعتها عن الدولة الرأسمالية الموظفة في رعاية النظام الرأسمالي وتوفير كل شروطه المطلوبة. دولة الخدمات ليست بحاجة لأسواق لا في الداخل ولا في الخارج طالما أن الخدمات ليست سلعاً صنمية (Commodity Fetishism) وفق التحليل الماركسي، كما أنها ليست بحاجة لقوى قمعية ذات وزن، إنها دولة الطبقة الوسطى. اليوم نرى دولة الطبقة الوسطى تتآكل وتتقزّم ليس نتيجة لاشتراطات منظمة التجارة العالمية (WTO) على أهميتها فقط بل بفعل نظام الإنتاج السائد واختلال مصادر تمويل الدولة أيضاً. نظام الإنتاج اللارأسمالي الخدمي ليس قادراً على تمويل الدولة سواء كانت من طراز الدولة الرأسمالية أو من طراز دولة الرفاه، وكلتاهما تعتمدان على الإنفاق الواسع. الطبقة الوسطى المعتمدة على نمط الإنتاج الفردي (Individual Production)مفصولاً عن خلايا المجتمع الأخرى هي من ذات طبيعة إنتاجها، إنها طبقة تذريرية أو تقسيمية (Schismatic)، تجزئ الموحد ولا توحد المجزأ. ومن هنا بتنا نرى الحركات الانفصالية تعم بلدان العالم اليوم الذي تسوده الطبقة الوسطى. quot; الفوضى الخلاّقة quot; هي أعمّ وأشمل من فوضى الإنتاج الرأسمالي، إنها فوضى إنتاج الطبقة الوسطى التي من شأنها أن تخلق عالماً مختلفاً أكثر تفتتاً.
الوحدة القومية خرجت من التاريخ نهائياً ولن تعود. هذا ما يقرره مسار التاريخ دونما انحياز. وعلى القوميين والوحدويين ألاّ يصدّعوا رؤوسنا أكثر مما فعلوا.
فـؤاد النمـري
www.geocities.com/fuadnimri01
التعليقات