أحجم، أحياناً كثيرة، عن المديح والإطراء، لكي لا يدخل ذلك في باب التملق والتكلف الزائف الرخيص، الذي لا أراه ضروريا في نهج الحياة البسيط والتلقائي العفوي الذي أحياه. إلا أن هناك، وبصدق، أحداثاً وتطورات بارزة قد تجعلك لا تتحكم، البتة، بقدرتك على التعبير عن تلك المشاعر التي تختلج فجأة، في دفائنك البعيدة، وتحفزك فوراً، على رسم الحروف، ومعانقة اليراع. غير أن أهمية بعض الأحداث واستثنائيتها قد تجعل من الصعوبة بمكان تجاوزها وتغاضيها، أو الانصراف عنها. فأن يكون هناك جائزة دولة تقديرية، وعلى هذا المستوى الرسمي العالي للصحافة الإليكترونية، تحديداً، فهذا أمر ينبغي الوقوف، والتوقف عنده طويلاً، لأنه يعني، أولاً، أنك على الطريق الصحيح، وفي المكان المناسب، وتقوم بالشيء المطلوب، وتؤدي مهمة مقدسة، ولا تمارس، أبداً، العبث واللهو الفارغ. ويؤكد في ذات الآن، المكانة الرفيعة والمؤثرة الذي بات هذا النوع من النشاط الفكري يشكله في كل مفصل من حياتنا العامة.
فلقد برز في السنوات الخمس الماضية، عدد من المواقع الإليكترونية الهامة، التي صارت كقهوة الصباح، والخبز، والزاد الفكري اليومي لشريحة واسعة من المطلعين، والمهتمين، والقراء المتابعين. ويعتبر موقع إيلاف الإليكتروني، واحداً من تلك المواقع الهامة التي استطاعت أن تضع قدميها، بثبات، وثقة، وحرفية، على مسرح هذه الصناعة الجديدة التي تكبر يوماً بعد آخر ويشتد ساعدها الفتي الوليد. وأضحت تشكل أرقاً وصداعاً للكثير من البنى التقليدية البائدة، كما تشكل في الآن ذاته، أملاً كبيراً للكثير من القوى الاجتماعية والسياسية والنخب الفكرية الصاعدة. ولن أتكلم هنا من خلال تجربة ذاتية وشخصية مع هذا الموقع، إذ من الخطل بمكان، أن يعمم الذاتي على الموضوعي والعام، ولكن الشيء بالشيء يذكر، فحين نشر لي هذا الموقع، ومنذ أربع سنوات خلت، تقريباً، مقالاً quot;عنيفاً وشديد اللهجةًquot; ضد فقهاء الظلام، وكان ذلك على خلفية توقيع الليبراليين العرب على البيان الأممي ضد الإرهاب، أدركت تماماً أننا أمام مشروع جديد هام، ومميز، بكل المعايير والمقاييس، ويتجاوز حدود المألوف، والمتعارف عليه.
جائزة الصحافة العربية تمنح هذا العام لموقع إيلاف الإليكتروني، في حفل رسمي مهيب، كـُرِّم هذا الموقع من خلاله، عبر شخص الأستاذ والزميل العزيز عثمان العمير، صاحب وناشر إيلاف الذي يستحق، وبحق، هذه الجائزة، نظراً لما اكتسبه هذا الموقع من شعبية وانتشار، وتأثير، ونجاح عبر تلك المهنية، والحرفية، والليبرالية المرنة، والتمازج الواسع والكبير لكل التيارات الفكرية والسياسية، والخدمة الإخبارية المتنوعة التي يجمعها بين ظهرانيه. ويعتبر الموقع شاملاً،ومكثفاً للخبر، والهم، والرأي العربي اليومي، وبعيداً إلى حد كبير عن التشنج، والتعصب، والتحزب، ويجمع كل تلك الكوكبة، والنخبة من الكتاب العرب بشتى مشاربهم، وانتماءاتهم. ويعتبر هذا النجاح أيضاً، نجاحاً وفوزاً لكل أولئك الجنود المجهولين، والمحررين، والفنيين، الذين يعملون من وراء الستار، ونعرف بعضهم ولا نعرف بعضهم الآخر، وتتويجاً لجهودهم الخيرة التي أثمرت هذه الثمرة الإيلافية اليانعة والرائعة، لكن يمكننا أن نوجه لهم التحية والتقدير والشكر جميعاً على جهودهم المميزة والجبارة في إنجاح، وإغناء، وإثراء هذه التجربة التي أصبحت علامة بارزة، وفارقة في مسيرة الصحافة العربية، عموماً، والصحافة الإليكترونية، تحديداً.
أصبحت المواقع الإليكترونية تشكل هاجساً يؤرق محاكم التفتيش الشرق أوسطية، هذه المواقع تتحكم، اليوم، بالرأي العام، وتوجهه، وبالتالي تضبط إيقاع السياسة الرسمية في كثير من بلدان الشرق الأوسط المنكوب بالاستبداد. وصارت عيون هذه الأجهزة واحدة على هذه المواقع، وأخرى على الداخل. وتظهر أهمية هذا الأمر، والكلام الذي لا نلقيه جزافاً، في قيام أجهزة الرقابة العربية في تشفير، وحجب الكثير من المواقع الإليكترونية الرائدة والمؤثرة، وإيلاف ليس استناء منها، بالطبع.
لقد استثمر ناشرو، ومؤسسو هذه المواقع الإليكترونية، وبذكاء، هذا الفضاء الواسع والكبير، والقدرة الخارقة على التأثير والنفاذ اللامحدود إلى قلب مجتمعاتنا التي ينخرها السوس الفكري، ويكبلها الشلل الدماغي الذي جعلها مقعدة وكسيحة، وعاجزة عن مواكبة التطور والحضارة العالمية. وهاهي تلك البنى التقليدية، والأفكار الموروثة، والقوالب الفكرية الجامدة، والرموز التي دخل بعضها في باب التابو والمقدس، تتعرض لعملية خلخلة، ورجرجة، ومراجعة نقدية واسعة يؤمل منها أن تعيد للعقل العربي شيئاً من حيويته وتوازنه المفقودين. إنها ليست بالمهمة السهلة البتة، ولكنها بالطبع، ليست مستحيلة. فإن تلك الجهود الجبارة، والمهنية العالية، والأقلام النظيفة، والفكر الشفاف العظيم، والعقول النيرةالمستنيرة، كفيلة بحمل لواء تلك المهمة المقدسة التي بدأت شيئاً فشيئاً تؤتي أكلها راسمة المعالم، ومحددة الطريق لآفاق جديدة من التفتح والارتقاء الإنساني العظيم. وهنا لن نذهب كثيراً في باب المديح، وندعي المطلق، فمسيرة التطور والإبداع الإنساني لا تعرف حدوداً، ولا قيوداً، ولا تتوقف عند حد ما، وقد تصبح هذه التجربة الناجحة والرائدة، بكل ألقها وبهرجتها، شيئاً من الماضي أمام ما نتوقعه، وما ستحمله القادمات من الأيام من فتوحات واختراقات جديدة. ولكن مع ذلك كله، لا يسعنا إلا أن نبارك هذا الفوز وهذا النجاح، ونهنئ الجميع، ونشد بحرارة على أيادي كل من ساهم به، وشيده، وأخرجه للوجود، وجعله واقعاً يومياً معاشاً، لا تحلو الحياة، البتة، من دونه. ولإيلاف عمير كل التحية والتقدير.
نؤكد لم نبلغ حدود الكمال، ولن ندعي إنجاز المهمة، وإلقاء السلاح. وكما أن هناك الكثير من الجوانب الإيجابية، فإن الأمر لا يخلو أحياناً من بعض الملاحظات الثانوية. إلا إن ذلك التكريم يبقى، وبالمحصلة النهائية والتقييم الأخير، اعترافاً أكيداً، ووساماً جديداً وجميلاً، يضاف إلى سلسلة الأوسمة الزاهية المتلألئة، التي تزين صدر إيلاف الخصيب، والتي نأمل لها، ومن القلب، أن تزيد وتزيد.
ولـquot;إيلاف عميرquot;، كل الحب والتقدير.
نضال نعيسة
[email protected]
التعليقات