المواجهة المشهودة بين الجيش اللبناني ومجموعة ما يسمّى (فتح الإسلام) تجاوزت أسبوعها الثالث في منطقة مخيم نهر البارد. ونحن هنا لسنا في معرض مناقشة أفكار هذه المجموعة وممارساتها وسبب نشوئها ومن يقف خلفها ويدعمها. وإنما نحن في معرض استدعاء مواجهةٍ قريبة شكلاً لاموضوعاً لمثل هذه المواجهة في بلدٍ عربيٍ مجاور يُظهر كل يوم في تصريحاته وبياناته قلقه البالغ من تدهور الأوضاع الإنسانية والمعاشية بل والأمنية لسكان مخيم نهر البارد نتيجة المواجهات، ليتأكد أن لبنان على الرغم من تدخل جيرانه في شؤونه متميز عن الآخرين في طبيعة حياته ونظامه وطريقته في حل مشكلاته ومواجهتها مما يسبب الأرق والإزعاج وصداع الشقيقة للشقيقة الجارة الجائرة.


فالجيش اللبناني يخوض مواجهته مع مجموعة جاهزةٍ ومجهزةٍ عُدَداً وعتاداً ومتهمةٍ بالإرهاب فضلاً عن ممارسة أعمال القتل والسرقة بهدف تسليم المتهمين أنفسهم إلى السلطات الرسمية أو استسلامهم حتى تتوقف المواجهة بين الجيش وهذه المجموعة بقرار حكومي لبناني كما بدأت بقرارٍ حكومي أيضاً.
خاض الجيش مواجهته ويخوضها تحت سمع العالم وبصره بأهدافٍ معروفة وحركة مكشوفة وتغطية إعلامية حثيثة ومكثفة للكثير من الفضائيات العربية والعالمية مع كشف يومي عن أعداد القتلى والضحايا والشهداء في حدود الممكن والمتاح. والأهم من كل ماسبق أن الجيش يتحرك بعملياته إلى أقصى حدٍ ممكن من الابتعاد عن إحداث الإصابات والضحايا في صفوف المدنيين في المخيم على الرغم من خطورة المواجهة وصعوبتها فضلاً عن تعقيداتها وامتداداتها.


نقول ماسبق استدعاءً لمواجهةٍ دامية افتعلها النظام السوري وبقرارٍ شخصي قبيل خمسة وعشرين عاماً لشكوكه بوجود مجموعة خارجة على نظامه وذلك حسب روايته وعلى ذمّته لتكون مبرراً له في ضرب مدينةٍ سورية كبيرة ومعروفة، لها تاريخها الوطني الحافل مجداً وتضحيةً وفداءً هدفت إلى كسر شوكتها والنيل من كرامتها، مما تسبب بمواجهة مع المدينة بكاملها، ومازالت ملفات هذه المواجهة عالقةً وآثارها قائمة، وجراحها نازفة، تشهد على وحشية المواجهة وعظم القمع وضخامة الدمار وفظائع الانتهاكات للحقوق الإنسانية في العرض والمال والحياة التي أظهرها وأحدثها النظام في هذه المدينة الكريمة والعريقة أهلاً ودياراً، وتؤكد أن مغول العصر قد مروا على هذه المدينة قتلاً ودماراً.


ولئن كنا نختلف جملةً وتفصيلاً مع توصيفات النظام لهذه المواجهة واتهاماته المعلنة، فهذا لايمنع من اللحاق بالنظام القلق والمشفق على ماأسماه تدهور الأوضاع الإنسانية والمعاشية والأمنية في مخيم نهر البارد إلى باب داره لنؤكد أن مواجهة النظام الدامية عام 1982 في مدينة حماة وعمليات القمع والاستئصال أوقعت دماراً في قطاعات كبيرة من مدينة أبي الفداء وسوّتها في الأرض فضلاً عن أنها مسحت أحياءً بكاملها لتصبح أثراً بعد عين. قصفٌ ودمارٌ وهدمٌ أصاب أحياءً بكاملها، وحاراتٍ بساكنيها ومساجد وكنائس يذكر فيها اسم الله بروّادها.


لقد واجهت المدينة الباسلة وأهلها العُزْل أكبر حملةٍ عسكرية من قبل النظام السوري في عهد الأسد الأب وُجّهت إلى مدينة آمنةٍ مطمئنة بعد الحرب العالمية الثانية، استخدم فيها النظام الأسدي كل أنواع الأسلحة الأرضية والجوية من دباباتٍ ومدفعية وصواريخ وطائرات ضد المدينة وأهلها، وشكّلت أكبر فعلٍ حربيٍ قام به النظام في تاريخه، فكانت بذلك واحدةً من أكبر عمليات القمع والإبادة الجماعية في تاريخ الأنظمة الطاغية على مستوى العالم للقرن العشرين كان ضحاياها عشرات الآلاف من النساء والأطفال والرضع والشيوخ فضلاً عن الشباب والمعوقين قتلاً وحرقاً وسحلاً وذبحاً وبَقْراً وتفجيراً على صعيد البشر والحجر. والأهم من كل ماسبق، أن مجزرة القرن هذه أقامها الأسد الأب وسط تعتيمٍ إعلامي كامل ككل مجازر الطغاة والمستبدين وتوطؤ كل أعوانه ومستخدميه من عاهات رجال الدين والفكر.

إن الحديث عن هكذا مواجهة لاأخلاقية وهكذا جريمةٍ بشريةٍ لاإنسانية لايُراد له أن يُفهم أنه دعوة إلى أحقادٍ أو ثاراتٍ أو غير ذلك مما يشاع ولاسيما أن منطقتنا تمور بنُذُر حروب مدمرة تتهددنا بها أنظمة خارجة على القانون المحلي فضلاً عن الدولي والشرعة الدولية أينعت رؤوسها، وأزكمت الأنوف روائحها، وإنما لنُذكّر به من يملكون ذاكرات مثقوبة أو يتصورون أنّ الناس بلا ذاكراة وماهم كذلك، فمازال شهود المجزرة والناجون منها أحياء، ومعالم المدينة التي اندثرت، والمساجد الثلاثة والستون التي هدّمت بكاملها فضلاً عن كنيستين أيضاً، وعشرات الآلاف من المفقودين لتشهد أن مغول العصر وطغاته وتتار القرن العشرين مروا من هذه المدينة.

يريد نظام الشقيقة السوري أن يقنع جماهير الناس بقلقه واضطرابه وأرقه ووجع قلبه وحزنه وأسفه لما يحصل في مخيم نهر البارد ضراراً لحكومةٍ وجيش فُرضت عليهم المواجهة فخاضوها بقرارٍ سياسي حكومي تحت سمع العالم وبصره وتغطيةٍ إعلامية فضائية مشهودة وبجهدٍ عسكري محدود ابتعاداً عن أذى المدنيين المسالمين.

سيداتي آنساتي سادتي...!!! ليس مانسمع من تصريحاتٍ ومقولاتٍ لنظام الجارة حقيقةً إلا تعبيراً عن قلقه واضطرابه وأرقه من مطارق محكمةٍ أزفت ساعتها، ولاحت تباشيرها، ليساق إليها عن بينةٍ أكابرُ مجرميها طالت أم قصرت بين عشية وضحاها، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرّ.
تُرى هل يأتي على الناس يوم لايكون فيه القتلة والمجرمون والطغاة ممن شهدنا شيئاً مذكوراً..!!؟ إننا مؤمنون بقدر الله أن الإمهال لايعني الإهمال، وأن المجرمين القتلة من جزاري الدم البارد سيُساقون وعلى البارد رويداً رويداً مأخوذين بالنواصي والأقدام سواءً كانت ضحاياهم في سورية أولبنان أو في مدينة حماة أومخيم نهر البارد إلى ساحات القضاء والمحاكم الدولية. ويسألونك متى هو..!؟ قل: عسى أن يكون قريباً.

بدرالدين حسن قربي

لقراءة مقالات اخرى في ايلاف