منذ أن أعدنا قراءة محمولاتنا الفكرية والأيديولوجية ونحن نميل باتجاه أن نحدث قطيعة ما مع فهمنا السابق للتاريخ وللعملية التاريخية في بلد كسورية بالدرجة الأولى التي تجد بعدها العربي حاضر دوما ـ صحيح أو مزيف ـ لكنه فاعل تاريخي مثالي في الهوية السورية. وبعكس لبنان ففي سورية الأقليات والتاريخ الفكري السياسي لفعاليات الأقليات السورية هي من أسست للوعاء العربي في الهوية السورية. وهذا أمر تبحث عنه كل الأقليات المهمشة من أجل تأكيد نفسها ضمن أكثرية تتيح لها ذلك. بغض النظر عن مستويات الحقيقة في أن أكثرية سورية قد اضطهدت فعلا الأقليات أم لا! خصوصا بعد العهد العثماني الذي كان يحسب على أكثرية سورية سنية لكنها في الحقيقة لم تكن أقل اضطهادا من الأقليات لا في حوران ولا في ريف فلسطين وعكا أو ريف حلب والجزيرة السورية.

لا بل العكس هو الصحيح حيث كان الحكم العثماني في الغالب وخصوصا في سورية ولبنان قد أسس مشروعه على ألا يضهد الأقليات التي تقبل بسلطته السياسية. و لا يعني في التاريخ الحديث للمنطقة أن أية ثورة تمت بوجه العثمانيين هي نتاج لاضطهاد ديني أو طائفي! لكنه منطق الحياة نفسه ونتيجة لاضطهاد عام يشمل البقعة المحتلة كلها. فالثورات في معظمها لم يكن يقوم بها سوى الأمراء الذين عينهم العثمانيين أنفسهم. وهذا مبحث نتركه للتاريخ والمؤرخين. نميل دون أن نجزم في ذلك إلى أن منطقة بلاد الشام حتى قبل الإسلام هي منطقة لم تكن أبدا هادئة فهي مهد الأديان ومهد الطوائف أيضا في المسيحية نفسها. وهي النصف الثاني من حوض البحر الأبيض المتوسط. لهذا الحديث عن أن الإسلام أتى بالخراب لهذه المنطقة حديثا غير صحيح من الوجهة التي كانت تعيشها المنطقة عموما في ظل الصراع الدامي بين الأمبراطوريات الفارسية المتعاقبة والرومانية واليونانية..

حتى أن هنالك من يميل إلى اعتبار أن صلب سيدنا المسيح كان علامة ليست فارقة عما كان يدور في هذه المنطقة الموبوءة بالحضارة والدم معا. ولهذا نحن عند نطالب ونؤكد على الإصلاح الديني في العالم الإسلامي لا ننطلق أبدا من معياريات قبلية ضيقة ونعممها على كل التاريخ الإسلامي، بل ننطلق من الحاجة الراهنة لهذا الإصلاح ودوره فيما لو تم في إخراج المنطقة من لعبة السلطة والدين. والسؤال الذي لابد لنا من طرحه الآن في سورية هو: من هم الذين يعيدون الآن قراءة التاريخ وما علاقتهم بالمحمول السلطوي الذي تكرس شفاهيا وعمليا على مدار أربعة عقود من زمن الاستبداد الخانق المانع لأي تنمية وإصلاح وتطور ؟ لهذا علينا أن نميز جيدا بين أن تمتد الكلمة نحو رموز الاستبداد السلطوي المباشر من أجل ديمقراطية للجميع وبين أن تمتد لتطال الشعب المسلم والذي لا حول له ولا قوة في أنه خلق مسلما ولم يخلق مسيحيا أو يهوديا أو لم يخلق / طائفيا! أليس عجيبا المنطق الذي يقوده بعض المتبلرين الجدد على ناصية اقتصاد السوق الاجتماعي للنظام السوري*: أن يقوموا ليل نهار بمحاولات بائسة تعيد تخلف سورية عن الركب الحضاري حتى لدول المنطقة إلى الإسلام / والسني تحديدا / لدرجة تجد نفسك أنك أمام خندق بات الآن في سورية واضح المعالم ويريده النظام وهو: الطوائف مقابل الأكثرية الدينية، وكي نكون أكثر وضوحا نقول: إن هذه الأقلام تجد ضالتها في تحميل الأكثرية السورية برموزها الدينية والتاريخية سبب تخلف هذا البلد! وهي منذ ستينيات القرن العشرين وباتت هذه الأكثرية الدينية مجرد أقلية تافهة في الميزان السياسي وفي صياغة تاريخ هذا البلد المعاصر أي لا حول لها ولا قوة وذاتيتها منهوبة تماما: الأكثرية يجب عنوة أن تنبذ رموزها وتردد بلا كلل أو ملل رموز الأقلية: حتى شبكة الملفوظات اليومية.

والأغرب طورا في حكايتنا السورية المريرة: أن هذه الثقافة المصدرة تسعى لإيجاد ضامن طائفي واضح لدى الأقلية بينما مطلوب من الأكثرية أن تتحلل من كل تضامناتها! وإن كنت مع هذا المنطق في جزء منه والذي يتعلق بكل التضامنات المعادية لحقوق الإنسان: لكنني أبدا لا أرى أنه مطلوب من هذه الأكثرية أن تموت في إحساسها أنها: أقلية مضهدة! مثال آخر عندما يتحدث بعض الرفاق الكرد عن استيطان عربي واحتلال عربي: يجد المرء نفسه أمام أحجية من نوع جديد تجد مجراها النهائي في الحقيقة في خدمة لعبة السلطة الداخلية من جهة وفي خضم التسطح الشكلي الذي يسود الآن موضة المثقفين المعادين للإسلام كدين! هل من يزرع الآن بذور الفتنة من خلال توزيع الأراضي الجائر في منطقة ديريك السورية هم الأكثرية أم السلطة؟

لاشك أن للتاريخ حكمه الذي لا نستطيع كثيرا التغيير فيه في كثير من الأحيان لكننا لا بد من القول ولو كلمة. إنه التواء القوة العارية ليس إلا..هي نكتة يرددها بعضهم: إن الخوف على مستقبل سورية هو من جماعة الأخوان المسلمين!وربطهم بأنهم حكما هم ممثلي هذه الأكثرية وعندما يجدون ولو تيارا صغيرا لا يؤمن بمنطقهم هذا فإنه مباشرة يحولون محمولاته إلى أنه خطاب محسوب على هذا التنظيم، هذا التنظيم الذي لازال لم يدرك حتى هذه اللحظة استمرار بقاءه سياسيا تحت أسم يأخذ بعدا طائفيا في سورية.

ولم يتعلموا من تجارب العصر بعد. هم على طريقة الأحزاب الشيوعية التي رفضت تغيير اسمها لأنه يحمل مشروعيتها التاريخية مع العلم أن تغيير الأسم ليس نابعا من منطقا شكلانيا بل من منطق تفاعلي بين حركية الشكل والمضمون بمعنى عندما: يتبنى أي تنظيم من تنظيمات الأخوان المسلمين في أية دولة كانت الميثاق العالمي لحقوق الإنسان يصبح بقاء الاسم مناقضا لجوهر تبني هذا الميثاق. أنه منطق مناهض لسنن التطور والحياة نفسها. انطلاقا من هذه التوضيحات البسيطة: المشكلة في سورية هي مع النظام ليس كأشخاص ولا ككتلة تاريخية محسوبة عليه وتسانده في السراء والضراء بل مشكلتنا تكمن مع النظام كجملة من العلاقات تكرست وواضح أنها تأخذ سورية نحو الهاوية ولا منقذ لنا سوى الديمقراطية التي ليست هي المشكلة بل هي الحل. الديمقراطية هي الحل ومعها يبدأ فصل جديد مما يمكن تسميته: إزالة آثار العدوان عن الشعب السوري الذي كان ولازال يشكله نظام الاستبداد هذا..


* الطريف بالموضوع: أن التيار الليبرالي الجديد بكل ضحالته المعرفية وغيرها تجده فقط في سورية يلتقي مع مناهضي العولمة وتيارات الماركسية التي لم تخرج من عباءة شموليتها بعد متفقين على أن الخطر على سورية هو: من الأكثرية المسلمة. أنه شبكة واحدة من الدلالات الطائفية المخبوءة تحت عباءة خطابين متناقضين: الخطاب الليبرالي المسطح والخطاب الماركسي الشمولي والقضية واحدة: الخطر هو من الأكثرية! وهذا يجد عمقه في المخزون الدلالي لخطاب السلطة. لهذا نعتقد أن هذين الخطابان هما الأكثر عداءا للديمقراطية في سورية!

ومع ذلك الديمقراطية التي تسعى لها المعارضة السورية في المستقبل تستوعب هؤلاء حتى المخبرين منهم الصغار والكبار.

غسان المفلح