في ظل ألأنظمة التي تستولي على السلطة بأساليب الانقلاب، أو التزوير والطرق غير الشرعية، غالبا ما تكون نتاج تلك العمليات حكومات عسكرية أو دكتاتورية، وفي ظل تلك السلطات يتم ارتكاب جرائم بحق الأفراد وبحق الجماعات، وهذه الجرائم منها ما يأخذ الشكل المباشر والشكل غير المباشر، كما انه غالبا ما ترتكب تلك السلطات جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحروب وانتهاكات للقوانين ولحقوق الإنسان ضد مواطنيها أو ضد شريحة معينة منهم، غير إن أية جهة قانونية أو تشريعية أو قضائية في البلد لاتستطيع محاسبة أو محاكمة تلك السلطات التي تظهر نتائج أعمالها من خلال الأفعال التي يجسدها الأشخاص المسؤولين المتهمين بارتكاب تلك الجرائم، وغالبا ما تلجأ تلك السلطات الى تطويع النصوص القانونية وجعلها في خدمتها وحماية سلطتها، سواء بالإلغاء أو الأضافة أو التعديل أو إيقاف العمل بتلك النصوص، تحت مزاعم عدة منها التحجج بالوضع الأستثنائي والضرورة الملجئة والظروف القاهرة وفترة الحروب وغيرها من تلك الحجج التي يرفضها الدستور، كما أنها تفسر الدستور وفقا لرغبتها وما ينسجم منه مع مسار سلطتها وما يضمن استمرار بقاءها، وحين يتم إسقاط تلك السلطات، تقوم مهمة العدالة في الفترة الأنتقالية، حيث تتجه الأمور الى تغيير في بنية وسياسة الدولة وفي طريقة محاسبة المسؤولين عن تلك الجرائم والانتهاكات وفق القانون، وفي التزام الجميع بنصوص الدستور، حينها يستوجب أن تتم المحاسبة ضمن تلك الفترة لعناصر السلطة البائدة .
وأذ يعني مفهوم العدالة الانتقالية تلك المناهج التي تبحث في كيفية معالجة مخلفات الدكتاتورية والأنظمة الأستبدادية وغير الشرعية، وبالتالي فأنها مفتاح التحقيقات عن الجرائم المرتكبة بحق الأفراد وفقا للمعايير القانونية، وتطبيقا للمعايير الديمقراطية التي تصير منهجا للعمل بديلا عن سلوك تلك الأنظمة، وتسعى تلك المناهج الى كشف الحقائق ومحاسبة المذنبين وتعويض المتضررين وتقصي الحقائق لتوثيقها وتسجيلها للتاريخ، بالإضافة الى اعتماد معايير التسامح والمصالحة وإعادة ما تهدم من البناء السياسي والأجتماعي وأية رؤى اخرى تدخل في صلب حقوق الإنسان.
وأذ تتشعب مهام العدالة الانتقالية بين طرح الدراسات والأفكار في سبل معالجة محاكمة المجرمين وأنزال العقاب القانوني بحقهم، فانها ايضا ترسم وفقا للبحوث والدراسات ما يتعلق بمعنى المصالحة والمصارحة والتسامح من اجل أعادة المجتمع في ظل السلام المدني والممارسة الديمقراطية واعتماد الشرعية في أسلوب الحكم، وبالتالي فأنها تعد بمثابة التأهيل بعد فترة الأنحسار التي يعيشها المجتمع في ظل تلك الأنظمة.
كما يعني مصطلح العدالة الأجتماعية جميع الأجراءات التي تقوم السلطات الشرعية القائمة على انقاض السلطات الغاشمة والدكتاتورية المتهمة بارتكاب الجرائم بحق المواطنين وانتهاكات حقوق الأنسان والخروقات الواضحة للقانون الدولي،
. ووفقا لما تطرحه الدراسات من افكار تأسيس المجتمع الآمن وتعزيز أسس العدالة والقانون وترسيخ مبادئ المصالحة الوطنية والسلام في تلك البلدان، من اجل البدء بتأسيس خطوات لازمة وضرورية لمسيرة أجتماعية.
ولذا تسعى العدالة الانتقالية الى ان تكون إجراءات عملية بعيدة عن الشعارات، وتصب في خدمة تأسيس مجتمع تحكمه القوانين والعدالة ويسودة الأمن والسلام، وان لايتكرر ما جرى من جرائم وويلات وانتهاكات، مع تثبيت مبدأ معاقبة الجناة، وتأسيس مرتكزات المصالحة الوطنية، ولهذا فأن عملها يتشعب بين توثيق ومحاسبة من ارتكب الفعل الإجرامي وفقا للقوانين، وبين أيجاد المشاريع التي تعيد الحياة في المجتمع الى طبيعتها بأقل خسارة ممكنة.
وفي عملية التحول الى الديمقراطية لابد من ترسيخ أسسها، ومن مقومات ترسيخ تلك الأسس مايتم طرحه في برنامج العدالة في الفترة الانتقالية التي تستوجب من ضمن منهجها، التحقيق القانوني في عمليات الإعدام خارج نطاق القانون، وكذلك حالات الأعدام التعسفي والتصفيات دون تحقيق أو محاكمة.
وتقوم مهمة العدالة الأنتقالية أستنادا الى القوانين العقابية منها والإجرائية، لذا فأنها منظمة ولا تقوم على العواطف والأنفعال في الفعل ورد الفعل، مع الأستعانة بالخبرة والفنيين للأستعانة بهم في استجلاء الحقائق التي تتطلب تقريرا مفصلا من جهة الأختصاص، كما ينبغي توفير الضمانات اللازمة لعنصر التحقيق في الحماية والأستقلالية، كما يستوجب توفر خبرة ودراية ليس فقط في عملية التحقيق، وانما في حيثيات التاريخ ومجريات الأحداث، بالأضافة الى امكانية طلب المساعدة من الجهات القانونية الدولية لتقديم المساعدة في مجال القانون الدولي والوقائع المماثلة، سواء منها ماكان دوليا أو على شكل استشارة.
ويتطلب الأمر بالأضافة الى كل هذا الى سرعة في الأنجاز، ومواكبة العمل وفق كفاءة متميزة، واكمال العمل في القضايا التحقيقية وتقديم المتهمين للعدالة لمحاكمتهم بالسرعة الممكنة بغية اختزال الزمن والوصول الى الاحكام العادلة لغرض فرز من لايتم توفر الأدلة ضدهم أو من لاتكفي الأدلة ضدهم للأحالة لترتيب اخلاء سبيلهم واعادة دمجهم بالمجتمع.
ومما أشار له جميع العاملين ضمن مشروع العدالة الأنتقالية توفر الخبرة لدى القائم بالتحقيق، وهذه الخبرة لاتوفرها المحاصصات الطائفية ولا السياسية، ولا التزاحم على المناصب والمزايا التي قد توفرها تلك المهمات، وانما تكون الأستقلالية والنزاهة والسمو الاخلاقي والخبرة العملية والثقافية هي الفيصل في تلك المهمات، والتي تنتج أثرها المرجو ضمن تلك الفترة الحرجة والمهمة في عملية بناء المجتمع.
وأن تتوفر لدى المكلف بمهمة التحقيق الالمام التام بجوانب القضية المكلف بها، بالاضافة الى ما تتطلبه مرحلة العدالة الانتقالية من موجبات العمل القضائي من نزاهة وسمو اخلاقي وحيادية، مع تمسكه بالاستقلالية تمسكا تاما وعدم التأثر بأية طلبات أو رغبات أو توجهات تقتضيها السياسة أو جهات حكومية أو حزبية معينة.
وبالنظر لأفراغ محتوى القانون في ظل النظام البائد، فسيكون هناك مهمة لاتقل أهمية عن مرحلة التحقيق، وهي مهمة تشخيص التشويه الحاصل للقانون وطرحه جانبا، ومهمة توثيق الذاكرة الوطنية، وعلى هذا الأساس يكون لأصلاح النظام القانوني دورا مهما في تنقية النصوص والقوانين بما يخدم المرحلة ويضمن تطبيق حقوق الإنسان، والغاء العناصر التي تعرقل العملية وتعيق تحقيق العدالة، وبالتالي فأن تدقيق الجوانب القانونية في اجراءات التحقيق والتمسك بالنصوص التي تفيد وتسهل تلك العملية مسألة تتقيد بها سلطة التحقيق في مرحلة العدالة الأنتقالية، مع التمسك بمعيار حقوق الإنسان وتوفير الضمانات للمتهمين، بالرغم من الضغوط وحالات الاستغراب من لدن بعض الجهات التي قد لايسرها مثل هذه الإجراءات، باعتبار إن المتهمين لم يوفروا مثل تلك الفرص للضحايا، غير إن تحقيق العدالة في هذه الفترة تعد تأسيسا لرصف الأسس التي ستقوم عليها دولة القانون، وبالتالي تصبح حقوق الإنسان نصوصا دستورية ملزمة يعتاد عليها المواطن، وبالتالي يتعمد الإشارة اليها والتمسك بها مستقبلا.
ومن أهم مقتضيات العدالة الانتقالية حماية المجتمع من الانفلات والرغبة في الثأر، والتي يغذيها استمرار الحالة الأمنية بشكلها الحالي، وانتشار الجريمة بين الجماعات المنظمة واتخاذها وسيلة لتحصيل المغانم، والاستخفاف بالقوانين، هذه الحماية التي ينبغي أن تكون صارمة بحق الجميع وتشيع روح الطمأنينة والعدالة والاستقرار وتهدئ الأحوال، وإصدار قوانين تعالج الوضع الحالي، وتكون هذه القوانين نابعة من مصلحة وحاجة الناس، وإرساء الأسس العامة للديمقراطية التي ما زالت بعيدة كل البعد في السلوك والممارسة اليومية في المجتمع العراقي.
وتأتي مهمة أصدار مذكرات القبض على المتهمين، ومهمة ملاحقتهم والقبض عليهم لتقديمهم الى سلطات التحقيق، من مهمات السلطة التنفيذية المناط بها تنفيذ هذا الأمر، وعلى هذا الأساس ستكون من بين هذه المهمة المحاكمات الغيابية لبعض المتهمين الذين تمكنوا من الفرار والهروب، وتمكنوا من اللوذ بدول مجاورة أو غير مجاورة بشكل مشروع أو غير مشروع، غير إن مايقع على عاتق سلطة التحقيق بعد استنفاذ جميع الطرق في التمكن من القبض على المتهم أو التحقيق معه، تكون بأحالة المتهم غيابيا على المحكمة المختصة لمحاكمته.
ومن المفيد جدا إن تكون سلطة التحقيق ملمة بالقانون الدولي وبمعاهدات حقوق الإنسان، بالأضافة الى معرفتها بالتجارب الإنسانية في هذا المجال، وأن تأخذ بعين الأعتبار ليس فقط الضحايا المعثور على رفاتهم في المقابر الجماعية، ولا على الأسماء المدرجة ضمن قوائم الضحايا الذين تم تنفيذ حكم الأعدام بحقهم دون محاكمة أو تحقيق، بل الى العديد من الضحايا الذين لم ترد اسماء لهم ولم يتم العثور على رفاتهم، ولم يزلوا مفقودين حتى اليوم.
وهذه الحالات تصلح للتدقيق والتمعن والتحري، ولغرض استكشاف حقيقة اختفاء هؤلاء وعدم العثور على رفاتهم أو اماكن دفنهم أو قرارات اعدامهم، يتعين الأستعانة بتقارير حقوق الإنسان وشهادات الأهل والحلقات القريبة من دوائر الأمن أو المخابرات أو الجهات المعنية بالقبض على الضحايا، وان تبذل الجهود من إجل إن توصل الى الجمهور اهمية التوصل الى تلك الحقائق، وان توفر كل الضمانات في سرية الشهادة والمحافظة على كتم الأسماء وتجنب أي ما يحدث الضرر لهؤلاء، بالأضافة الى المكافآت المادية التي تمنحها تلك السلطات من اجل التوصل الى تلك الحقائق.
كما تستطيع تلك الجهات مواجهة المتهمين، ومحاولة أستغلال شهادات بعضهم ضد بعض، وأن تعتبر بعض المتهمين شهود ضد متهمين آخرين أذا كانت تلك الشهادات مهمة أو منتجة، وتأتي أهمية مرحلة التحقيق خلال فترة العدالة الأنتقالية، أنها تكون مزدوجة الأهمية، فمن ناحية أنها تأتي ضمن فترة الأنتقال من النظام الدكتاتوري الى النظام الديمقراطي، وانها تلتزم بمعايير تكون قد تم تغييبها في المرحلة السابقة، ومع كل هذا فيقع على عاتقها الأسراع بأظهار الحقائق ضمن تلك الفترة، كما أن عملها سيكون عرضة للتدقيق والأنتقاد والتمييز، بالأضافة الى المراقبة الدقيقة من ابناء الشعب المتابعين لمراحل التحقيق في تلك الفترة.
ولانرى بأسا من إن تكون المؤسسات الدولية المهتمة في تطبيق حقوق الإنسان موجودة وحاضرة بشكل مراقب لايحق لها التدخل في مجريات العملية التحقيقية، ولايحق لها كشف تفاصيل التحقيق.
وتعتمد العملية التحقيقية على تعزيز الأدلة القائمة في نسبة الجريمة الى المتهم وتمحيصها للتثبت من كفايتها للأحالة على المحكمة المختصة، ولذا فأن دراسة شخصية المتهم وظروف الجريمة والاساليب التي ارتكبت بها، والأنتقال الى موقع الجريمة واجراء المعاينة، وتنظيم مخطط ومرتسم لمحل الحادث، وتصوير الضحايا، وجمع الأثار المادية والأدلة الثبوتية، واجراء التفتيش وربط التقارير الفنية وتقارير الخبراء، واهمية استجواب المتهم بالأضافة الى ربط الأدلة الكتابية وتدوين الشهادات جميعها تدخل ضمن عملية موازنة تلك الأدلة ومعرفة ما اذا كانت تلك الأدلة التي توفرت تكفي للأحالة على المحكمة، حيث تقوم الجهة المكلفة بالتحقيق بإحالة القضية الى المحكمة المختصة قانونا بالمحاكمة، والأخيرة هي المكلفة بأصدار قرار الحكم بعد اجراء المحاكمة سواء منها الحضورية أو الغيابية، وفي حال عدم كفاية الأدلة أو عدم توفر الأدلة التي أحيل المتهم بها الى تلك المحكمة، فيتم إصدار قرار الأفراج أو البراءة حسي مقتضى الحال.
ويساهم المركز الدولي للعدالة الأنتقالية مساهمة فعالة في أداء الدور الإنساني والقانوني في هذا المجال، ولهذا فأن المركز يساعد الدول (المجتمع المدني والحكومات) التي تسعى إلى محاسبة المسؤولين بها عن ارتكاب أفعال وحشية على نطاق واسع أو انتهاكات لحقوق الإنسان. ويزاول المركز نشاطه في المجتمعات التي كانت ترزح تحت حكم قمعي أو كفاح مسلح، وكذلك في الدول الديمقراطية التي تعاني من مظالم تاريخية أو انتهاكات منهجية لم يبت فيها بعد.
ويقدم المركز معلومات قياسية وتحليلات قانونية ووثائق ودراسات استراتيجية إلى المؤسسات التي تسعى إلى إقرار العدل والحقيقة، وللهيئات المعنية سواء كانت حكومية أو غير حكومية. ويساعد المركز في إعداد استراتيجيات للعدالة الانتقالية تضم خمسة عناصر رئيسية هي: الملاحقة القضائية لمقترفي الجرائم؛ وتسجيل الانتهاكات عن طريق وسائل غير قضائية مثل لجان البحث عن الحقائق؛ وإصلاح المؤسسات المخلة بالأصول السليمة؛ وتقديم التعويض للضحايا؛ وعقد المصالحات.
ويلتزم المركز بإعداد الطاقات المحلية وتعزيز الجهود الناهضة في ميدان العدالة الانتقالية، ويعمل بالتعاون الوثيق مع المنظمات والخبراء المعنيين في شتى أنحاء العالم.
- آخر تحديث :
التعليقات