ذات يوم رأيت طفلة صغيرة تبكي بحرقة فاقتربت منها وسألتها عن سبب بكائها، أجابت الصغيرة أن منافستها على المركز الأول في الفصل المدرسي قد أصيبت في حادث وأنها ترقد في المستشفي في حالة سيئة وذلك قبل الامتحانات النهائية بأيام. أعجبني من الطفلة روح الحب والود التي تشعر بها تجاه زميلتها وأعجبني أكثر أنها تشعر بكل هذا الحزن رغم الوضع التنافسي بينهما. أردت أن أستزيد من هذه المحبة النقية التي بدت أمامي علامة جميلة على براءة الأطفال وخلو نفوسهم من الحقد الذي قد ينتج عن التنافس، فسألت الطفلة وأنا أتأهب للتمتع بعنفوان المشاعر الجميلة:quot; ولماذا كل هذا الحزن؟ ستشفى زميلتك وتعود في أحسن صحةquot;.. وهنا جاء الرد الذي أذهلني وهزني وأفجعني: quot;أنا حزينة جدا لأن المدرسة ستقيم لها لجنة امتحان خاصة في المستشفي، وطبعا سيتعاطفون مع حالتها المرضية وستفوز بأعلى الدرجات وستصبح الأولى بالتأكيد!quot; وهكذا تم تدمير الطفولة والبراءة والحب بتنافس ساذج أهوج مدمر لكل القيم الانسانية النبيلة، ومحطم لأي إحساس جماعي، بما يمهد للأنانية والنزعة الفردية القبيحة التي تستمر مع الطفل حتى يشب.

قارن هذا بما عايشته في إحدى المدارس البريطانية في الخليج العربي، إذ كانوا يقسمون الفصل الدراسي الى فريقين وينال الفريق نقاطا اذا حقق واحد من أفراده إنجازا من أي نوع مثل الفوز بالدرجات النهائية في مادة ما أو نشاط معين سواء دراسي أو رياضي. وما زلت أذكر كم المكالمات التليفونية الهائل الذي كان يصل إبني من أفراد فريقه اذا حقق الدرجة النهائية في الإملاء مثلا، أو روح الفخر التي يتحدث بها ابني عن زميلنه الذي حققت ما يضمن لفريقه نقاطا إضافية. وهكذا كان المدرسة هناك تبني في الجميع روح الجماعة.. روح الأوركسترا المكونة من عشرات العازفين يعزفون لحنا واحدا تحت قيادة تحقق للجميع مجدا وفخرا.. بينما نحن في مدارسنا ننمي الروح الفردية الأنانية.. روح عازف الربابة.

إن عالمنا الكبير الدكتور زويل يحكي بكل التواضع بعد فوزه بجائزة نوبل للعلوم أن الفضل في هذه الجائزة يعود للفريق الذي كان هو فردا منه بالرغم من أنه قائد هذا الفريق، ولا يزال حتي لحظتنا هذه يرجع الفضل في الإكتشافات الرائعة التي قام بها الى الفريق الذي يعمل معه. ويحكي د. زويل لمحة طريفة عن وصوله لأول مرة الى معامل الجامعة التي التحق بها بعد وصوله الى الولايات المتحدة، فاشترى قفلا لكي يحكم اغلاق أدراجه الخاصة في المعمل، وبعد فترة قصيرة أدرك أنه الوحيد بين زملائه الذي يفعل ذلك، وأن الآخرين يتركون أدراجهم مفتوحة لكي تكون محتوياتها متاحة لكل من يريد من الزملاء. وكانت هذه روح الجماعة التي تعلمها زويل في الولايات المتحدة ولم يأت بها من بلده حيث كل واحد يعمل في الخفاء.. في السر.. وحيدا يخشى من الزملاء والحاسدين والرقباء.. وقد نشأ منذ الطفولة وحتى سن النضج على أنه عازف ربابة يعزف منفردا ليسمع نفسه فقط، غير مدرب على العمل مع الجماعة.. وغير مدرب على أن يكون فردا في أوركسترا تعزف موسيقى النجاح والتقدم، والسبب في ذلك هو التنافس المدمر الذي نزرعه في أطفالنا منذ دخولهم الى الحضانة.

نحن بحاجة لزرع أهمية العمل الجماعي في أطفالنا، واحترام مواهب الآخرين وتقديرهم. نحن نزرع في أولادنا فكرة أنهم أحسن أولاد في الدنيا.. حسنا نفعل، ولكن يجب أيضا أن نعلمهم أن هناك آخرون جيدون أيضا، وأن الآخر المختلف عنا ليس عدوا لنا، فقد يضيف إلينا ونضيف إليه، وقد نتعلم منه أشياء ونعلمه أشياء. وأعتقد أنه قد حان الوقت لكي يعمل مجتمعنا على تعديل نظم التعليم في مدارسنا بحيث ننمي في الأجيال الجديدة روح العمل الجماعي مع تقبل الآخر والاحتفاء بإنجازاته، وتعلم احترام الذات دون تحقير للآخر، وبدون هذا التطوير لن يتحقق لبلادنا التقدم المنشود.

[email protected]