وتغادرني زهرة الروح، والضوء انطفأْ، صرتُ ألعن الظلامْ ، فلم تعدْ لي شمعة أشعلها، والقلبُ في مدى الحزنِ، نجمةٌ تفتقد انبعاث الحلمْ..

جئتكَ يا حلمي من أقصى منافي القلبِ، أحملُ فصولاً من تعبي، أرحتُ ركابَ سيري عندكَ، فتلمستُ أوجاعاً كنتَ تُخفيها بمقلة الليل..

وطأتَ بأمانيكَ الجذلى وادِياً غير ذي ماءٍ، فأحلتَ الترابَ فيه زهراً ينسـابُ بالندى والماءِ، وزهريَ العالق عند مفترق المياه اهتدى لنبعكَ،
أكانت الكلمة في البدءِ، أم كُنتَ أنتَ أول من تُفعمُ قاموس العشق عنفوان الأبجدية..

ذهبتَ بعيداً أيها الحلم الموشّى بإكليل العشقِ، ذهبتَ، إلى أعمق نقطة في القلبِ، وإلى أعمق وجع في ضمير الإنسان، فقرأتُكَ متأهباً، قرأتُ فيكَ الإنسان الذي لم يزل يحملُ فوق راحتيهِ حزن كل القادمينَ من سفوح الضوء في تخلقاتها الأولى..

أيها الملهمُ مدن الجرح صبرَ الواثقين، رأيتكَ في طرقاتها مكللاً بزهر الأمل، تُطعم الواقفينَ ملح الخبز، والأسى في صباحات الأمنياتِ دمعةٌ تنعي رحيل الشمس، وكنتَ معي تستنهضُ في الروح حنيناً، أسترجعُ به ما انسلّ مني، وما تكوّمَ فوق جليد القلب: مهد الصِبا، والهوى الغضُ، ودفقة المطر، وارتعاشة العشق في مساءات الوجد، وزهو الشمس في صباحات المنى..

وقفتُ هناكَ استرشد بكَ درباً يفضي إلى أول وجع في أبجدية العشق، وكنتَ بداخلي يسربلكَ مهابة الضوء، تُطعم ذاكرتي شيئاً من رحيق القلبِ، وشيئاً من زرقةٍ لا تحدُّ، وأشياءَ من ذاكرة المطر، ورحتَ تستنطقُ ألف عصفور بقلبي، فاستهام حنيني غراماً، يلثمُ عبق الذكريات البعيدة، لملمَ الصبحُ ما تبقّى في زيت النجمةِ، وأشعله رحيقاً للمدى الغارق في نهايات الفراغ، هناكَ، نامت عصافير الروح من تعبٍ على تعب الأيام ..

وقفتُ هناكَ ثانيةً، أتخلقُ بشهقة الحنين البِكر، ويتبعني حلميَ المسكون بفتنة البوح، أستجمعُ ما تناثر من ألم البدايات، وأستفهمُ عن مذاق الأشياء في تلاوين العشق، فمشيتُ أبعدَ من قلبي، يلفني صمت الموت، وتدفعني لهفة غامرة، أستحضر من الذكرياتِ ما تبعثرَ منها وما اندسَ تحت رمال القلب، ترجلتُ عن صهوة حزني وأخذتُ من شعلة هذا الطريق قبساً، ومضيتُ بعيداً، فهمستْ لي على البعد نجمةٌ ينضحُ منها حزنٌ عتيق: اقصح عن مرامكَ أيها الراحل، فالعاشق زورقٌ يمجّه موجٌ ويرديه بحر عميق، وفجأةً يتوهج العشق المصلوب على أوصال الدربِ، فتحسستُ روحي، كأن نوراً من سديم العشق يستقر بوادي القلبِ، هذي المراحل يا حلميَ المرصع بزهر الندى، كم أهواها، وكم تستهويني منها مسافاتٌ وأبعادٌ، ألامسها تخشعاً، فألامسُ فيها حزناً تكدس منذ آلاف السنين ..

ويتسلّلُ الحلم المضرج بذاكرة الليل المسجى من نافذة القلبِ، وفي حدقاته يومض الضوء بألق المسافات البعيدة، فتنداح فيه كوةٌ، رأيتُ منها وجه حبيبتي وقلبَ أمي وذكريات الصِبا والتماعة القمر، وانبجست من فوق هامة السماء غيمة حبلى، أطعمتني حلماً شهياً، وأسمعتني جرس المطر، قد أطربتني طويلاً تلك النغماتُ، وذاك الرذاذ الطلُّ ساعةَ السحر، فبتُّ أناغيها وشفني منها وجدٌ، فأنا العاشق الثملُ، سكرتُ هياماً بحلمي حينما يتغنّى غراماً بالهوى الآتي من دفقة المطر..

محمود كرم
كاتب كويتي
[email protected]