لا تستقيم الحياة بناءً وتكاملاً وتألقاً ومعنىً وحتى شكلاً، حينما نضفي عليها قسراً وتعمداً، لوناً أوحد، أو نمطاً أوحد، أو مساراً محدداً، أو نجبرها على أن تندرج في نظام فكري أو عقائدي محدد، لا تحيد عنه أبداً، وفي كل التجارب البشرية رأينا كيف فشلت النظم والأيديولوجيات والاعتقادات التي حصرت الحياة قسراً وجبراً في لون واحد ونمط واحد واتجاه واحد، كالأيديولوجية الشيوعية مثلاً في الصين وغيرها، وكالأصولية الدينية الثيوقراطية التي كانت حاكمة في السودان وأفغانستان، والحاكمة في إيران حالياً، حيث جعلت وتجعل تلك النظم والأيديولوجيات الناسَ خاضعينَ أيديولوجياً وثقافياً وحياتياً تحت نمط أوحد، ومندرجينَ في صورة واحدة، ومنساقينَ إلى طريقة محددة في كل شيء..

فحياة الإنسان تخضع أولاً وأخيراً ودائماً لرغبته ولقدرته الهائلة على اختراع أنماطها المتعددة، وصورها المختلفة، وطرائقها الكثيرة، وفلسفاتها المتنوعة، ولذلك حوت حياة البشر على الكثير والمختلف من الأديان والعقائد والأفكار والأساطير والنظم والتصورات والاتجاهات والفلسفات، فالحياة في مجملها تخضع دائماً لحاجة ورغبة وقدرة الإنسان على الاختراع والابتكار، وما الحياة المتنوعة والمتعددة، إلا نتاج الفكر الاختراعي الذي ينتهجه الإنسان لاخضاعها لطريقته وثقافته وتفكيره واحتياجاته ورغباته وأساليبه، ومتى ما استطعنا أن نفهم هذا المبدأ، نستطيع أن نفهم نزعة الإنسان الدائمة والأبدية نحو أن يجعل الحياة عموماً خاضعة لاختراعاته التي تجيء تلبيةً لتصوراته وانفعالاته وخيالاته وطريقته وأسلوبه، فالإنسان القديم اخترع الأساطير، واحتمى حولها، ليواجه بها ظواهر الطبيعة وغيرها من تقلبات الأحداث، أو ليعمل على توظيفها في سياقات أسطورية تعبر بشكل آخر عن تأملاته في الحياة والفنون والأدب، وبعدها اخترع الإنسان الأديان، ليواجه بها المجهول من الحياة، أو ليسد بها من خلال أدبياتها جانباً من حياته، أو ليتخذ منها غطاءً لأمر آخر، أو ليستعد بها نفسياً وروحياً وعاطفياً لاستقبال الحياة الثانية التي تنتظره، وكلٌّ حسب طريقته واعتقاده، وعليهِ فكل شيء في الحياة هو اختراع بشري عن سابق تفكير وتأمل وتصميم وقصد ورغبة وتعمد وحاجة، وأمام هذا الأمر نستطيع القول أن الأفكار والتصورات والمفاهيم والمعتقدات يجب ألا تخضع لمفهوم القداسة المطلقة، أو لحتميات الحقيقة الكاملة أو النهائية أو القطعية، فالقداسة كانت ولم تزل في منطق الإرث الإنساني هي لحق الإنسان الكامل في الاختيار والاختراع والرأي والقرار والتفكير والإبداع..

ولأن الإنسان هو صاحب الامتياز الأول في اختراع كل ما له علاقة مباشرة وغير مباشرة بحياته، فإنه يصبح من التعصب والاستبداد والأنانية والتسلط والوقاحة، أن يمنح اختراعاته المعرفية والفكرية والمعتقدية الدينية وغير الدينية، سلطة الوصاية أو نزعة التوجيه أو هيمنة الحاكمية على الآخرين، فكما أنه أخضع حياته لجملة من الاختراعات الثقافية والدينية والمذهبية المحددة، والمندرجة في أنماط واتجاهات وقوالبَ معينة، فإن للآخر الحق الكامل في الاختلاف عنه، وفقاً لقاعدة الاختراع الذاتي، ووفقاً لحقهِ في ميراثه الإنساني، ووفقاً في النهاية لمطلب الحياة الأساسي في التنوع والتعدد والاختلاف..

فالفكرة محض اختراع، والاختراع محض فكرة، ولذلك فإن كل أمر في الحياة هو في النهاية محض فكرة، تحمل في داخلها نسبية المعنى والمفهوم، وفي هذه الحالة فمن الطبيعي أن تتسم الحياة بالتعددية وتستقيم وتستمر بالتنوع الهائل للأفكار والثقافات والاتجاهات، ولا يمكن أن نفهم الحياة إلا من خلال كشفها واعلانها الصريح عن تنوعاتها وتلوناتها وأشكالها المغايرة والمختلفة، وتزداد جمالاً وتألقاً حينما تمارس طبيعتها الأخاذة في الكشف عن ألوانها المتعددة تحت الشمس الساطعة، ولذلك فإن كل المحاولات التي تقوم بها الأدلجات الفكرية والمعتقدات الثقافية والدينية والنظم العقائدية الشمولية، بهدف خطف الحياة وزجها قسراً في لون واحد واتجاه واحد ونمط واحد فقط، تعتبر محاولات خارجة عن منطق التعامل والتعايش الطبيعي مع الطبيعة الجمالية التي عُرفت بها الحياة وسارت فيها وتخلّقت معها، وهي بالتأكيد محاولات محكومة بالتراجع والفشل، لأن الحياة أوسع من أن نلبسها ثوباً واحداً، وأكبر من أن نخضعها لتفسير واحد، وأجمل من أن نحشرها في لون واحد، وأعمق من أن نحصرها في فهم مسبق ومحدد سلفاً، وأرحب من أن نحبسها في اتجاه واحد..

وتلك المحاولات التي تهدف إلى رهن الحياة لمفهوم أحادي الفكر والتوجه والاعتقاد، تعتبر في الأساس تعدياً سافراً على حق الآخرين في اجتراح الطريقة المناسبة لهم، والتي يرون إنها تنسجم مع نظرتهم للحياة، ولذلك فمن الإنسانية والعقلانية والمنطق أن ننظر إلى حق الآخرين في اجتراح طريقتهم الخاصة، على إنه التنوع الذي يساهم بفاعلية وجمالية في تشكيل النسيج الاجتماعي والثقافي التعددي والتنوعي للحياة عموماً، والتعامل معه على إنه الحق الذي يجب أن يأخذ مكانه ومساحته وهويته الاعتبارية ضمن السياق الاختلافي الذي دُرجت عليه الحياة وعُرفت به وقامت عليه، ومتى ما توفرت هذه الثقافة التي ترى أن الأصل في الحياة هو التنوع والتعدد، فإن من شأنها أن تكون ساعية حقيقية لخلق حوارات متداخلة وبناءة وفاعلة بين المنظومات والاتجاهات الفكرية الثقافية المتنوعة والمتغايرة..

ولأن الحياة تزدهر وتتواصل وتتكامل وتتألق في اندراجها الجميل والتلقائي والسلس والانسيابي في منظومات قيميّة ومفاهيمية وثقافية تنوعية وتعددية، كما هي طبيعتها التي ترفض غير ذلك، وكما أسست ودعت لهذا التنوع الخلاق مفاهيم الحداثة وحقوق الإنسان وقيم الديموقراطية والمجتمع المدني، فأنه يصبح من العدوان الصارخ على الحياة أن يتم رهنها وحصرها في لون واحد وتفسير أوحد، وبما أن الحياة لا تستقيم إلا بالتنوع وبثقافة الاختلاف، لذلك يجدر بنا أن نتوقف هنا عند أمرٍ نحسبه أصبح يمثل عدواناً دائماً على الحياة، ونتساءل: لماذا يضيق المتدينون والدينيون الإسلاميون المؤدلجون ذرعاً بالتنوع والتعدد الثقافي والاعتقادي في المجتمع؟ ولماذا يحاربون التنوع والتعدد، بقصد رهن الحياة لنمط ولتفسير أوحد، يجب أن يتشكل في اللون الديني تحديداً؟ ولماذا يحاربون الأفكار الجريئة والجديدة والمغايرة التي من شأنها أن تمنح الحياةَ تنوعاً خلاقاً؟ ألا يعتبر ذلك تعدياً على نقاء الحياة وتخريباً وتشويهاً لطبيعتها الشفافة، وألا يعتبر ذلك أيضاً تعدياً وقحاً على حق الآخرين في التنوع والاختلاف والتعدد..

وهذا ما يسعى إليه الدينيون المؤدلجون عبر وسائلهم وأدواتهم المختلفة، يسعون إلى رهن الحياة وأذواق الناس وأمزجتهم وتوجهاتهم وعقولهم لنمط ثقافي وسلوكي وعقائدي واحد ومحدد، ليصبح تالياً هذا النمط هو السائد والمسيطر والحاكم على الواقع المجتمعي والعقل الجمعي بسلطة المقدس الديني، وبقوة العرف والعادات والمقولات والمسلكيات والطقوس المعتادة والمحددة في لون واحد، فتكتسب البيئة الاجتماعية بتوجهاتها الحياتية في هذه الحالة شرعيتها الوجودية من جدية التزامها وانخراطها واندراجها في هذا النمط، ويصبح الالتزام الثقافي والمسلكي الديني به مساوياً لدرجة الاخلاص له، ومساوياً أيضاً للحماس الاستفراغي الذي يرافق تطبيق ذلك النمط في الحياة..

ولذلك تنشأ هذه البيئة كما يريد لها الدينيون المؤدلجون والمسيّسون، تنشأ على أن تكون نابذة أبدية للتنوع والاختلاف، ومُتربصة له في كل وقت وفي أي مكان، وتنشأ أيضاً على الاعتقاد الجازم بأن التنوع وثقافة الاختلاف تعتبر تطاولاً وتخريباً للنمط الذي يجب أن يسود المجتمع والحياة، ولذلك ليس مستغرباً أن نجد أن هذه البيئة الاجتماعية التي تنشأ على هذا المسلك والاعتقاد والفهم، تُصاب بالانغلاق والتعصب والجهل، وتُصاب بالجمود والشلل والتكلس، وتجد في التنوع خطراً عليها، لأنها تجد فيه الآخر، الذي يتصف بالحداثة والتغيير والرأي الحر وثقافة النقد والتفكير والمساءلة، وكل هذه الأمور ستكشف ما هي عليه من هشاشة وانغلاق واهتزاز وعتمة وتشويش..

ولكَ أن تتصور كيف ستكون عليه الحياة والبيئة المجتمعية، حينما يهيمن عليهما تفسيراً واحداً، يندرج تحت اللون الديني تحديداً، ويتمسرح ويتمثل ويتسلط ويتأله ويسود بخطابه وبطريقته وبإسلوبه وبتفسيراته وبفروضاته وبفتاويه وبأحكامه، بالطبع ستكون بيئة طاردة للتنوع، ومسكونة بالتوجسات من الجديد والمغاير والجريء، ومتسمة بالقتامة والملل والتصلب والانسداد وثقافة الماضويات، على العكس تماماً من الحياة والبيئة المجتمعية المفتوحتان على أكثر من تفسير وأفق واتجاه ومسار وطريق، إنها الحياة الرحبة المفعمة بمناخات التعدد والتنوع والاختلاف، وتصبح الحياة هذه بمناخها التنوعي جاذبة للأفكار الجديدة والمتغيرة والجريئة والمتغايرة، وتجد فيها الأفكار متسعاً خلاقاً للتداول والنقاش والبحث، وفي الوقت ذاته تخضع الأفكار والاتجاهات فيه للنقد والتفكير والتفكيك والمساءلة، من دون توجس أو خوف أو انغلاق أو تعصب أو نبذ..

محمود كرم
كاتب كويتي
[email protected]