مع تزايد وتيرة الاعتداءات والعمليات الارهابية على المواطنين المسيحيين في منطقة الشرق الأوسط،حيث تقطنها اغلبية ساحقة من المسلمين،يخشى الكثير من المسيحيين من أن تكون هناك حرب خفية عليهم لأخلاء المنطقة كلياً من المسيحيين،سكان المنطقة الأوائل. بعد أن تمكن الاسلام في الماضي من تقويض وانهاء المسيحية في الكثير من مناطق الشرق،موطنها الأول. فهل حقاً ثمة حرب غير معلنة على المسيحيين المشرقيين، تشنها وتقوم بها جهات اسلامية معينة؟


بلا ريب، من الصعب تأكيد أو نفي وجود مثل هذه الحرب، لكن التمعن و التدقيق في خلفيات ودوافع وأسباب ظاهرة الاعتداء على أناس آمنين مسالمين عزل وابرياء،وفي ظل صمت عربي واسلامي،رسمي وشعبي،على ما يتعرض له المسيحيون من اعتداءات في دول المنطقة،تجعل المرء في حيرة وشك وميال الى الرأي القائل: بأن ثمة حرب،رسمية وشعبية،تدار في الخفاء، بطرق وأشكال مختلفة، ضد مسيحيي المشرق للتخلص منهم، باعتبارهم العقبة الاساسية أمام تطبيق (الشرع الاسلامي) في الدول التي يتواجدون فيها. تروج لهذه الحرب العديد من وسائل الاعلام العربية والاسلامية، تحت شعارات وعناوين مختلفة،منها(الجهاد،مواجهة الحملة الصليبية الصهيونية الجديدة ndash;المزعومة- على الاسلام والمسلمين،محاربة الكفار وطردهم من ديار الاسلام ).ففي السنوات الماضية شهدت أكثر من عاصمة ومدينة عربية واسلامية (العراق،مصر،لبنان،تركيا،السودان)عمليات هجوم واعتداءات إرهابية على حياة وممتلكات مسيحيين بينهم رجال دين، كما أحرقت كنائس وأديرة، قامت بها مجموعات إسلامية تكفيرية سلفية متطرفة.وكاد أن يخلو العراق من سكانه الأوائل المسيحيين ومعظمهم من الآشوريين(سريان/كلدان)،بسبب الحرب الطائفية فيه واستهدافهم من قبل تنظيمات ارهابية،اسلامية وقومية، تستفيد من حالة الفوضى والفلتان الأمني وغياب الدولة في العراق بعد غزو الأمريكي له. يصف العديد من المراقبين والمهتمين، بأوضاع مسيحيي الشرق الأوسط، ما يتعرض له المسيحيون في هذه المنطقة من العالم وخاصة في العراق بـ(حرب ابادة وعمليات تطهير عرقي وديني لهم).


الحرب على مسيحيي المشرق تمارس بطرق واشكال ومستويات مختلفة ومتعددة.حرباً رسمية مقنونة:(سياسية،ثقافية،دينية)تمارس من قبل جميع الحكومات العربية والاسلامية،وذلك من خلال فرض العديد من القوانين والعادات والتقاليد الاسلامية على المسيحيين وتقييد حرياتهم في ممارسة شعائرهم وحقوقهم الدينية والثقافية والاجتماعية وتهميشهم السياسي.كذلك بتكريس سياسية التميز الديني والكراهية الدينية بين شعوبها عبر التعليم والاعلام.وعملاً بمبدأ(اللامساواة الدينية) التي جاء بها الإسلام، مازالت دساتير وتشريعات جميع الدول العربية والإسلامية، تتضمن قوانين ومواد تمييز وتفضل بين المواطنين على أساس الدين. فضلاً عن الدور السلبي لأجهزة الأمن في هذه الدول، وأحياناً المتواطئ، في حوادث العنف الطائفي ضد المسيحيين،كما يحصل في مصر والسودان والعراق.


بموازاة الحرب (الباردة)الرسمية المقنونة على المسيحيين المشرقيين، هناك حرباً أخرى (ساخنة/ دموية)،تتمثل بظاهرة الاعتداءات والعمليات الارهابية على المسيحيين،تقودها منظمات اسلامية،تكفيرية سلفية متشددة،محلية واقليمية ودولية، لأسباب عقائدية وايديولوجية وبدافع الحقد والكراهية الدينية والعرقية لغير المسلم.ولتبرير حربها الدينية على المسيحيين تقوم هذه(التنظيمات والمجموعات الاسلامية) بتضليل الراي العام الاسلامي باتهام المسيحيين المشرقيين بالموالاة للغرب وتزعم وتدعي وتوهم الرأي العام بأنها ترد على حملة صليبية صهيونية جديدة مزعومة يشنها الغرب على الاسلام والمسلمين.


في هذه المرحلة الحرجة من التاريخ الانساني، حيث يشتد الصراع بين،ثقافة الحياة وثقافة الموت.بين الحداثة(الليبرالية الديمقراطية) والاسلام الراديكالي الرافض للحداثة والذي يشكل خطراُ حقيقاً على أمن واستقرار العالم و وتهديداً جدياً لقيم المدنية والتعددية.اذ لم يعد يخفى على أحد أن الاسلام الراديكالي،بحسب تصريحات وخطب أبرز قادته(اسامة بن لادن وأيمن الظواهري)،يخطط لأسلمة وحكم العالم وفق الشرع الاسلامي، هذا الاسلام الراديكالي لا يهدف الى زعزعة وانهاء ما تبقى من وجود مسيحي في هذا الشرق فحسب، وانما الى زعزعة وتقويض الغرب ككيان تاريخي( ثقافي وسياسي واجتماعي)يختلف ويتناقض مع الثقافة والأفكار والمبادئ والعقائد الاسلامية. ليس لأنه(الاسلام الراديكالي) يملك البديل الحضاري الأفضل، وانما بسبب آيديولوجيته وعقيدته الجهادية القتالية،القائمة على (الارهاب المحمود)،تقدس الانتحار وتبجل المنتحر، ولما لـ(الاسلام الراديكالي) من خلايا وقواعد ارهابية انتحارية تتوزع في معظم دول العالم تمكنه من تنفيذ اعمال تخريبية وتدميرية كبيرة وهائلة(تفجيرات نيويورك 11 ايلول2001،وفي مدريد تموز 2005،وتفجيرات في أكثر من مدنية وعاصمة أوربية وعربية واسلامية).الأمر الذي دفع المفكر(عبد الرحمن الراشد) ليكتب في جريدة الشرق الأوسط: (( من المؤكد ليس كل المسلمين إرهابيون لكن الحقيقة أن معظم الإرهابيون مسلمون)).


ونحن نتناول محنة المسيحيين المشرقيين أرى من الأهمية التوقف عند (الأزمة اللبنانية) الراهنة لما للبنان بتركيبته وبصيغته المتميزة من أهمية خاصة ليس على وضع المسيحيين اللبنانيين فحسب، وانما على مستقبل جميع مسيحيي الشرق الأوسط.فاذا ما سلمنا بوجود حرب خفية على مسيحيي الشرق، لا يمكن أن نعزل أو نفصل تفجير الوضع اللبناني،من حين لآخر،عن الحرب القائمة على المسيحيين المشرقيين.فلبنان،الذي كان للمسيحيين وتحديداً للموارنة الدور الأساسي في نشأته واستقلاله كدولة،وقادته المارونية السياسية وفق ميثاق عام 1943،منذ الاستقلال وحتى اندلاع الحرب الأهلية فيه 1975،اليوم هم(الموارنة)عاجزون عن انتخاب رئيس جديد له.من المؤكد أن تجدد الأزمة اللبنانية وانفجارها ستفرز واقعاً سياسياً واجتماعياً جديداً لن يكون في صالح المسيحيين اللبنانيين.وسيفقد المسيحيون، ما تركه لهم(اتفاق الطائف لعام 1989) الذي أنتجته (الحرب الأهلية 1975)، من دور سياسي وصلاحيات محدودة للرئيس.والسؤال الذي يطرح نفسه هو:هل كان سيبقى موقع الرئاسة في لبنان شاغراً لو كان هذا الموقع من حق احدى الطوائف الاسلامية،السنية أو الشيعية؟.سياق الأحداث وتطورات الأزمة اللبنانية تؤكد على أن هذا الفراغ في موقع الرئاسة ما كان له أن يحصل.قطعاً الخلافات داخل الصف الماروني ليست هي السبب الأساسي في عدم حصول انتخاب رئيس جديد للبنان.فقد توافق معظم اللبنانيون،الموالاة والمعارضة،على العماد (ميشيل سليمان) كرئيس توافقي، لكن مع هذا لم يتم انتخابه حتى الآن.ان استمرار (الأزمة اللبنانية)بتعقيداتها وتشعباتها،المحلية وامتداداتها الاقليمية والدولية، تزيد الشكوك يوماً بعد يوم بقدرة لبنان على البقاء بصيغته الحالية،كرسالة وكنموذج للعيش المشترك بين مختلف طوائفه ومذاهبه واثنياته.فكل المعطيات تشير الى أن لبنان الرسالة في طريقه الى الزوال ليصبح-اذا ما بقي موحداً وقائماً- دولة كبقية دول الشرق العربي الاسلامي، المحكومة بأنظمة طائفية فئوية استبدادية.وبالمحصلة النهائية سيكون المسيحيون هم أكثر الخاسرين،خاصة وقد بات لبنان ساحة مفتوحة لمختلف التنظيمات الاسلامية والحركات الأصولية والمجموعات والخلايا الارهابية النائمة التي تشكل خطراً حقيقياً على وجود لبنان وبقاءه.(شاكر العبسي وفتح الاسلام) وخطفهما لمخيم (نهر البارد) للانطلاق منه نحو مشروع الامارة الاسلامية في لبنان،نموذجاً.


وفي سوريا- الدولة المشرقية التي يتمتع مسيحيوها بحصانة وطنية وينعمون بوضع آمن ومستقر منذ استقلالها في اربعينات القرن الماضي- بينما أجهزة الأمن والمخابرات،على كثرتها، منشغلة بملاحقة واعتقال ناشطي المعارضة من سياسيين ومثقفين وحقوقيين، أقدمت مجموعة مجهولة في مدينة ديرالزور السورية بتاريخ 4-1-2008 على اغتيال شاب سرياني مسيحي(آشوري)(فادي بكرجي)في وضح النهار وفي مكان عام من غير أن يعترضهم أحد.اغتيل بينما كان في متجر أخيه لبيع المشروبات الروحية،مما يرجح أن يكون قتله جرى على خلفية دينية وأن القتلة على علاقة مع تنظيمات اسلامية متشددة.وفي حادثة أخرى ليست ببعيدة عن الأولى، في الزمان والمكان والدوافع، قامت مجموعة من الشبان المتعصبين باعتراض وشتم خوري الأرمن والهجوم على الكنيسة.كما هو معروف سوريا محكومة بنظام أمني منذ عقود،يدعي بأن الأمن والسلم الأهلي هو من أولى أولوياته.لهذا فأن هذه الاعتداءات على مسيحيي سوريا وفي هذه المرحلة الدقيقة تطرح أكثر من علامة استفهام حول دور أجهزة الأمن السورية في توفير الأمن والحماية للمواطن السوري من جهة، وحول مستقبل المسيحيين السوريين، فيما اذا حصل فراغ وفلتان أمني في البلاد من جهة ثانية،فضلاً عن ان هذه الجرائم الطائفية تشير الى الانتكاسة الحضارية التي اصيب بها المجتمع السوري وانحدار قيم الوطنية فيه.


اخيراً:أن يحظى(اسامة بن لادن)، مسؤول أخطر تنظيم ارهابي(القاعدة)، بأكبر شعبية في العالم العربي والاسلامي،وفق استطلاعات الرأي. وأن يصبح ارهابيون ابطال بنظر شرائح اجتماعية واسعة في المجتمعات العربية والاسلامية،أمور تدعو الى التساؤل والقلق على مصير مسيحيي المشرق، خاصة واننا نعيش في مجتمعات مترهلة غير متماسكة وفي دول هشة غير مستقرة سياسياً، لديها القابلية للانفجار والتفتت من الداخل بسبب ما تحمله من تناقضات دينية ومذهبية وعرقية وقومية وقبلية وثقافية.في ضوء الوضع الكارثي لمسيحيي منطقة الشرق الأوسط المتوتر والملتهب، أرى من الضرورة أن يتعظ المسيحيون من الدرس العراقي،وأن تبحث وتتعاون المرجعيات المسيحية المشرقية،دينية وعلمانية،في المنطقة ودول المهجر،في ايجاد ووضع خطط وبدائل من شأنها أن تكفل حماية المسيحيين في هذه المنطقة وتحصنهم في وجه الارهاب الذي يستهدفهم ومن المخاطر المحدقة بهم.

سليمان يوسف يوسف

آشوري سوري
[email protected]