كنت في مقال سابق قد أشرت لموضوع مسلسل ( الباشا ) التلفزيوني و الذي أنتجته و عرضته قناة ( الشرقية ) العراقية خلال شهر رمضان الماضي و الذي كان يتعلق بسيرة حياة أحد أهم و أبرز السياسيين في تاريخ العراق الحديث و هو المرحوم الجنرال نوري السعيد الذي يعتبر أيضا أحد مؤسسي المملكة العراقية السابقة و اللاعب الأبرز و الأهم في الحياة السياسية العراقية منذ بداية العشرينيات و حتى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي و الذي جاءت نهايته الشخصية مترافقة مع نهاية العهد الملكي بالطريقة البشعة و المخجلة التي حدثت صبيحة يوم الرابع عشر من تموز / يوليو 1958 و الذي فتح بوابة جهنم على العراق و العراقيين و أسس لمرحلة التدمير الذاتي التي إنتهت بإعادة إحتلال العراق أمريكيا..!

المسلسل المذكور رغم فكرته الرياديه و جرأته في الطرح و ريادته في تنقية صورة رجل عراقي أصيل تعرض لظلم و حيف تاريخي لا مثيل له و لتشويه سمعة لا نظير لها !، إلا أن نهاية حلقاته قد شهدت ركاكة مفجعة من ناحية المعالجة الدرامية التي جاءت مبتورة و ناقصة بل و سطحية بالكامل في ظل حالة فقر إخراجي واضح ميزت عمل المخرج ( فارس طعمة التميمي ) بلمساته الإخراجية الساذجة و معالجاته السطحية مع رداءة القصة التي كتبها المؤلف فلاح شاكر بأسلوب السلق المعلوماتي حيث قفز على مراحل مهمة من حياة نوري السعيد و ركز على دوره فقط في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية و أهمل تماما دوره المهم و الحساس في ترتيبات عالم ما بعد الحرب و في صراعه العنيف ضد الإستقطاب الدولي و ضد الدعايات الشيوعية الدولية التي ناصبته العداء بتوتر و تطرف و عدوانية لا يستحقها أبدا ذلك الرجل الوفي للعراق و الأمين على مصالحه و الحريص على دوره الدولي و ريادته الإقليمية، لم يتطرق المسلسل للإتفاقية العراقية / البريطانية لعام 1948 ( المعاهدة ) كما أنه لم يتطرق لمعاهدة بورتسموث من قريب أو بعيد و التي أسقطت وزارة السيد سعد صالح جبر تحت ضغط الشارع الشيوعي رغم أن تلك المعاهدة كانت فيها إيجابيات و إمتيازات كثيرة لصالح العراق الضعيف جدا عسكريا و سياسيا و إقتصاديا وقتذاك، كما لم يتعرض المسلسل لأبرز نقطة في حياة نوري السعيد و التي كلفته حياته فيما بعد وهي قضية ( حلف بغداد ) أو ما عرف في حينه بالدفاع عن الشرق الأوسط و هو الحلف الذي أثبت التاريخ و تطورات الأحداث فيما بعد بأنه كان سيكون مدخلا مهما للتطور العسكري و الصناعي و العلمي في العراق الذي وقف حينذاك في صف واحد ودرجة متساوية مع دول أغنى و أكبر منه و أكثر تطورا مثل تركيا و إيران اللتان كانت لهما مطامع في الأرض العراقية و خلافات حدودية واضحة و لكن حنكة نوري السعيد السياسية و نظرته الستراتيجية الكبرى كانت أكبر كثيرا من أن يستوعبها المراهقون اليساريون أو أهل الشعارات البعثية و القومية الكاسدة و العاجزة، كانت الحدود الإقليمية للعراق محمية بحلفائه و كانت حقوق العراق في نهر شط العرب و مختلف أراضيه كاملة ليست منقوصة السيادة بعد أن إستطاع نوري السعيد إحتواء الطموحات الشاهنشاهية الإيرانية تحت إبطه و نجح تماما في الحفاظ على عراقية و عروبة شط العرب الذي فرط به القوميون البعثيون فيما بعد، كما تمكن من تحييد الجندرمة الأتراك بالكامل بعد أن بنى أفضل العلاقات مع تركيا الكمالية كما تمكن السعيد بفضل تحالفاه الدولية و الإقليمية من بسط السلم و السلام الأهلي في العراق من شماله و حتى جنوبه فيما عملت الشيوعية الدولية وقتها بكل شراسة من أجل إسقاطه و جاء نظام البكباشية في مصر الناصرية ليشن عليه حملات تحريضية منظمة من ( صوت العرب ) و من أجهزة المخابرات، و الطريف أن مبعوث القيادة المصرية وقتذاك و كان الرائد أو الصاغ ( صلاح سالم ) خلال زيارته الشهيرة للعراق عام 1955 لم يستطع أن يقنع نوري السعيد بوجهة نظر قيادته من موضوع الأمن الجماعي في الشرق الأوسط بل و تأثر صلاح سالم بمبررات و أسباب نوري السعيد التحالفية خصوصا و أن نوري السعيد كان ضابط أركان و ستراتيجي ممتاز مما جلب غضب القيادة المصرية على مبعوثها و رسولها الأمر الذي ساهم في إضعاف موقفه ثم رحيله المبكر فيما بعد!، لقد ظلم المسلسل نوري السعيد لأنه فشل في توضيح موقفه من أهم و أخطر الإتهامات التاريخية الموجهة له وهي التفريط بسيادة العراق!! و لم يكن ذلك صحيحا بالمطلق لأن نوري السعيد كان أحرص السياسيين العراقيين على السيادة الوطنية و المصلحة العراقية و لا يوجد في تاريخ العراق المعاصر أي سياسي يمكن أن يرتقي لمستواه الوطني! أنا أعلم بأن الكثير من أهل الأدمغة المغسولة و الموجهة سيهاجموني و يتهموني بالعمالة و الرجعية و لكن ذلك ليس بالمهم فلا يوجد لدى الشهيد الراحل نوري السعيد ما يعطيه لأحد ثمنا للدفاع عنه بل أن الحقائق التاريخية وحدها هي التي تفصح عن نفسها و تبين الفرق بين الأصيل و المزيف، و قد مر المسلسل مرور الكرام السريع على نهاية ( الباشا ) الشخصية و التي كانت نهاية بشعة و مؤلمة و لكنها لا تنفصل عن السياق العام لأحوال الغدر و المأساة العراقية، فقد توارى السعيد و كان عمره فوق السبعين عن الإنقلابيين و أضطر للتخفي عند المعارف و الأصدقاء بعد أن وضعت لرأسه جائزة مالية ضخمة حينذاك وهي ( عشرة آلاف دينار عراقي ) لم ينالها أحد لأن الباشا قد وضع حدا لحياته بيده بعد أن حوصر من قبل الرعاع الذين قتلوا و بدون حياء المرأة الجليلة التي كانت برفقته، ثم جاء الغادر و مرافقه السابق و أحد الإنقلابيين وصفي طاهر ليصلي جثة السعيد بإطلاقات نارية جبانة لا مبرر لها سوى بذلك الحقد الشيوعي المريض ثم عبثت الرعاع بقبره و نبشت جثته في أخلاق ساقطة لا تعبر عن أي قيمة إنسانية أو حضارية أو أخلاقية أو دينية لتسحل الجثة في الشوارع ثم تسحق بالدبابة و تقطع إربا لدرجة أن أحد أصابعه قد إستلمها الرئيس المصري ( جمال عبد الناصر ) يوم 23 يوليو 1958 كهدية من ( ثوار العراق )!! كما ذكر حسنين هيكل في إحدى رواياته الأمر الذي أقشعر له بدن الرئيس عبد الناصر فأمر بدفن ذلك الإصبع!! إنه الغدر الكبير كما أنها الخسة بأقبح و أبشع أشكالها، فنوري السعيد لم يسحل أحدا و هو ليس من ذلك الصنف المتوحش من القادة الذين تعاقبوا على حكم العراق و أذلوا شعبه و إذا كان البعض من العراقيين يأخذ عليه موقفه من إعدام القادة الشيوعيين ( فهد و رفاقه ) فإن من بت في ذلك الأمر محكمة عراقية قانونية لا علاقة لنوري السعيد بها أبدا فقد كانت للقضاء هيبته و مكانته و الشيوعيون فيما لو تمكنوا وقتها من حكم العراق فإن مصير نظامهم لم يكن ليختلف عن مصير أنظمة أوروبا الشرقية السابقة المستبدة كرومانيا و هنغاريا و جيكوسلوفاكيا، فقد كانت الحرب الباردة في أوجهها و كان النظام الملكي العراقي المتحضر في فوهة المدفع، نعم لم يكن النظام الملكي العراقي وقتذاك نظاما متكاملا و لكنه كان يسعى للتطور ووفق آليات سريعة و لو تسنت له فرصة الحياة لتغير وجه العراق و حتى المنطقة، و للمقارنة البسيطة فقط إنظروا لوضع اللملكة الأردنية رغم فقرها المدقع و قارنوها بوضع العراق الغني المدمر و ساعتها ستلمسون الفرق، نوري السعيد أكبر بكثير من معالجات تلفزيونية سقيمة و ركيكة، لقد كان رحمه الله أب الرجال في زمن حفل بالرجال و القادة العظام، و كان زعيما في وضع دولي كان عامرا بالزعامات التاريخية، و كان حصيفا و حكيما في زمن سادت فيه الدعايات الفاشية و الشيوعية، لقد ضيع العراقيون نوري السعيد كما ضيعوا وطنهم.. و سيبكون عليه كثيرا لربما أكثر من بكاء أخر حكام الأندلس أبو عبدالله الصغير.. فنوري السعيد قامة تاريخية هائلة و يستحق التكريم كما يستحق أن ينصب له تمثال في أهم ساحات بغداد بعد قيام العراق الحر الحقيقي الخالي من أدران الطائفية و بشاعات الإحتلال و الفوضى.. فرحم الله الباشا نوري السعيد كما رحم شهداء العائلة المالكية العراقية الهاشمية المظلومة و كل شهداء العراق الأحرار... و التاريخ في النهاية لا يعرف المجاملة و لا النفاق.....
لقد كان مسلسل الباشا عمل تافه مقارنة بجلال قدر شهيد العراق الكبير.

داود البصري

[email protected]