كانت في العراق منذ نهاية الربع الأول من القرن الماضي تجربة ديمقراطية وليدة، يتقدمها دستور رغم نواقصه، لكنه كان حضارياً ويتفوق على الدستور الحالي في بعده عن زج الدين والطائفة والمذهب والنعرات القومية والعنصرية في بناء الدولة.

كانت هذه التجربة الديمقراطية طيبة وواعدة رغم عثراتها ومحاولة تزيفها من بعض حكام ذلك العهد والتحايل عليها،وتعد بنظر المؤرخين المنصفين بداية ممتازة، كان يمكن البناء عليها لما هو أرقى وأفضل. ولكن بعض ضباط الجيش في تهورهم واندفاعهم الطائش،وبتحريض وتحالف الأحزاب الثورية واليسارية خاصة معهم، قضوا على هذه المنجز التاريخي الكبير في ذلك اليوم الدموي (14 تموز 1958) وضيعوا على العراقيين نصف قرن من البناء الديمقراطي وزجوهم في تيه تاريخي تقاذفتهم فيه أمواج بحار من الدماء والصراعات القاسيةzwj;zwj;zwj;zwj;zwj;.

وقد عمل حكام العهود المتعاقبة بانقلابات دموية، بشكل مقصود أو غير مقصود، على محو الذاكرة القانونية لدى الناس، وترسيخ ثقافة المزاج والفوضى والسلاح والرشوة والغرائز والشهوات والنزعات غير المشروعة.

zwj;لذا ليس في العراق اليوم تقاليد ديمقراطية، بل الأخطر، هناك مقاومة واعية ولا شعورية لكل تقليد أو ممارسة ديمقراطية، و كما نراها بالمفخخات والأحزمة الناسفة وبالحرب الأهلية إذا اقتضى الأمر، وفي المناوشات السياسية الخطيرة، كما تمثلت في هذا الصراع الدائر اليوم حول الدستورzwj;. كما إن دول الجوار لا تريد قيام مثال ديمقراطي مشع قريباً من شعوبها المعزولة!

الذين يحكمون اليوم لا ينتمون للتجربة الديمقراطية المجهضة، بل هم لا ينتمون لأي تراث عراقي عريق في محاولاته تحقيق الديمقراطية على قلته. الحاكمون الشيعة (حزب الدعوة والمجلس الأعلى خاصة والتيار الصدري) ينتمون إلى رجال الدين المذهبيين في النجف وقم القرن التاسع عشر في إيران الذين قاوموا مع الشاه الدستور أو (المشروطية )، وذبحوا الرجال والنساء المتفتحين المطالبين بحياة دستورية حضارية، بدعوى أنهم كفرة يروجون لدستور هو كتاب الشيطان الرجيم، يواجه كتاب الله الذي يحمل ( وأمرهم وشورى بينهم ) وقد فسروها على أنها اكتفاء في تشاور صفوة مختارة من المتدينين، واستغناء عن أي رأي آخر. zwj;

والحاكمون السنة (الحزب الإسلامي،بقايا الأخوان المسلمين،والكتل والشخصيات الإسلامية الأخرى ) ينتمون لتراث رجال الدين العثمانيين الذين قاوموا الدعوات الدستورية في الدولة العثمانية وذبحوا زعماءها وأنصارها مبقين على منصب شيخ الإسلام، والواعظ الأكبر الذي هو جزء من بطانة السلطان واحتقروا الشعب والناس ونظروه لهم على أنهم رعاع عليهم طاعة الحاكم كأساسٍ للإيمان!

والحاكمون الكرد،في بغداد وكردستان، اتسم تاريخهم مع الديمقراطية والدستور بالصراع الدموي والاحتكام للسلاح بعيداً عن القانون،وهذه جريرة لا يتحملون وزرها وحدهم.
فحكام العراق منذ قيام الدولة العراقية وحتى اليوم لم يعرفوا طبيعة علاقة الكرد بالدولة العراقية، فهي كانت منذ البدء علاقة قسرية، أي أن الكرد زجوا في الدولة العراقية رغماً عنهم،فطموحهم هو في قيام دولتهم القومية كباقي أمم الأرض،وهذا قد جرى تثبيته أو وضع قاعدته في معاهدة سيفر.1920 ولكن الإنجليز كديدنهم في اتباع سياسة فرق تسد، تنكروا للمعاهدة وعقدوا صفقة أخرى،أبقت الكرد داخل الدولة العراقية وبذلك ظلموا الكرد كثيراً جداً،وغرسوا في الدولة العراقية اللغم الأعظم الذي سيظل يتفجر بين حقبة وأخرى مشعلاً الحرائق والصراعات والتفكك والانهيارات!

كثير من الكرد خاصة العنصريين والشوفينيين منهم يعتقدون أن العرب قد ظلموهم واحتلوهم وهيمنوا عليهم متجاهلين، أن الكرد والعرب ضحايا علاقة هي من تصميم استعماري قديم، فهي زواج إجباري لم يقم على الاختيار والحب والتوافق! لذلك انتج هذه السلسلة الطويلة من التنافر والشك وسوء الفهم!

وكانت النتيجة أن الكرد ينظرون للدستور على أنه الشبك الذي يلقيه حكام بغداد لاصطيادهم! فهم حذرون منه على الدوام! لكنهم إذا وجدوه شركهم الخاص، لعبوا به وعليه!

وباختصار شديد يمكن ملاحظة أن الدستور في العرق لم يأت نتاجاً لجهد الروح العراقية المتطلعة للعدالة والخير والسعادة، لا لفساد في الضمير العراقي، بل لأن القوى المتسلطة عليه كانت أنانية مستبدة وطاغية وعنيفة،وبثقافة قامت على الحق الإلهي المطلق في الحكم!

لذلك لم يتعرف العراقيون على الدستور إلا مرتين ومن أيدٍ أجنبية! مرة من قبل الإنجليز عند احتلالهم العراق في القرن الماضي! ومرة من قبل الأمريكان عند احتلالهم العراق في القرن الحالي!

وبدلاً من أن يستقبل بترحاب من طلائعه بغض النظر ( عن دوافع الاحتلال المعروفة والبديهية ) قوبل بمقاومة توزعت على مستويات متعددة من الثورة والإرهاب المعنوي والدموي والإبادة الشاملة، إلى مقاومة رجال الدين المخاتلة! وهذه كلها في الجوهر مقاومة كل قديم، لكل ما هو جديد!

فالأحزاب الدينية الشيعية التي تكره من أعماقها كلمة دستور جاءت إليه متحالفة مع ما يسمى بالأحزاب الكردستانية،وحولوا عملية صياغة الدستور إلى حفلة اقتسام مواريث طائفية قومية!مستغلين غياب ممثلي السنة بين انهماك بالإرهاب، أو احتضان له، أو تردد حياله وتحجر في استقبال الفرصة التاريخية المفروصة أو المطلوبة!

كل ما أراده رجال الدين الشيعة من الدستور هي ديباجة سوداء،وبضعة بنود حمراء، تكرس ادعاءاتهم الطائفية، فحرفوه عن طبيعته كقانون وحولوه إلى مناحة تتحدث عن مظلومية أتباع أهل البيت، وضرورة قلب المعادلة الطائفية،حتى لو أفضت إلى مظلومية اتباع الطائفة، والطوائف الأخرى!

قادة الكرد الذين طالما تظاهروا بالتقدمية وحتى الاشتراكية وجدوا برجال الدين هؤلاء حلفاءهم الحميمين ومضوا معهم على طريقة ( اعطني وأعطيك ) فثبتوا لأنفسهم وضعاً خاصاً في الدستور منحهم حقوقاً وصلاحيات فوق ما يستحقون، وجعلت مصالح البلاد العليا تحت مصالحهم! والناس الآخرين مواطنين من الدرجة الثانية بالنسبة لهم، فصار الدستور الذي كانوا لحقب طويلة يصوبون عليه فوهات بنادقهم فجأة مثلهم الأعلى،بينما هم يخرقونه كل يوم وكل ساعة بقضم الأرض، وهضم حقوق القوميات والطوائف الأخرى! والتعامل مع العالم كدولة مستقلة حين يبرمون مع الشركات الأجنبية عقود النفط، ويعرضون لوحدهم أرض العراق للقواعد الأمريكية،ويتسببون بسياساتهم القومية التوسعية في الهجوم التركي على العراق!

إبراهيم أحمد

فقهاء القانون يشبهون الدستور بالنخاع الذي ينتج الدم ويحدد مصير الجسد،وإذا حل فساد في النخاع فيجيب زرع نخاع آخر،لا يحتاج المرء لثقافة قانونية متخصصة ليدرك أن الدستور العراقي مشوه وكسيح، ولا علاج له سوى أن يلغى، ويصاغ بدلاً عنه دستور جديد.

ولأن عملية الإلغاء ولو لساعة واحدة تحدث فراغاً دستورياً لا تحمد نتائجه، لذا ينبغي تعديله وبشكل جذري وفق قواعد ومبادئ تضمن حقوق الجميع بشكل متساوٍ، دون تفوق طائفة أو قومية أو طبقة على أخرى،ويكون لائقاً بعراق حلم به العراقيون المناضلون القدامي، وتحلم به الأجيال الصاعدة الآن!

إن قادة الكرد اليوم بإصرارهم على حرمان العراق من دستور جديد، إنما يضحون بمستقبل العراق،وحياة أبنائه المرتقبة، فقط لكي يبقوا على مصالحهم القومية والعشائرية الضيقة.غير مدركين أن الوقوف بوجه حياة الملايين من الناس الفقراء والمعوزين والمعذبين والمهمشين سيؤدي إلى انفجارهم،ولا أحد يعرف ماذا سيكتسح غضبهم!

دعوة المالكي لتعديل الدستور جاءت متأخرة جداً، ومع ذلك ينبغي اغتنامها وتطويرها
وتبنيها بقوة ومبدئية عالية من قادة العملية السياسية اليوم في العراق، من هم في الحكومة أو المعارضة، ومن هم داخل البرلمان أو خارج البرلمان،بل حتى ممن هم خارج العملية أو معارضيها، لو كانوا يدركون! ولا يجدي الرد عليها بأنها دعوة انطلقت لأغراض حزبية أو انتخابية،فالقوى السياسية الأخرى تستطيع تبني تعديل الدستور من أجل مكاسب انتخابية أو أو حزبية،وطنية أيضا! والمهم أن تكون النتائج صحيحة وجيدة وكافية وفي مصلحة العراق!

الدستور العراقي الآن يتيم على مائدة quot;الكرام quot;، ( خاصة بعد أن ينسحب آباؤه الأمريكان ) فأرحموه،ارحموا عزيز قوم ذل.