لعلها واحدة من كبرى المتناقضات في عالم السياسة العربية أن يكون الحزب الذي يدعي أهله العمل الحثيث من أجل تحقيق الوحدة العربية و هو حزب البعث العربي الإشتراكي بمثابة المعوق الأكبر لتحقيق أي شكل من أشكال الوحدة العربية في تاريخ المنطقة المعاصر؟، لا بل أن المهزلة تصبح كوميديا سوداء حينما فشل هذا الحزب في توحيد ذاته و هيكله التنظيمي و القيادي العام رغم هيمنته المطلقة على بلدين من أخطر و أهم بلدان الشرق الأوسط وهما سوريا و العراق!

لا بل إن الإنقسام و التشتت و الفرقة البعثية قد عكست نفسها بمرارة على أوضاع البعثيين في العالم العربي و الذين كان معظمهم يتمركز في الشرق الأوسط بكياناته المعروفة إضافة للسودان و النزر اليسير من البعثيين في موريتانيا وهم كمية مهملة سياسيا لا قيمة لها في تقرير الأحداث هناك، فقد إنعكس الإنقسام البعثي السوري / العراقي الطويل و المرير و الراسخ و المتجذر على الوضعية العامة للبعثيين حتى تحول ذلك الحزب بنظرته القومية لمجموعة من الدكاكين القطرية المتصارعة و المتذابحة حتى العظم!!، فهذا الحزب الفقير بنظرته الفكرية و الغامض حد السذاجة في توجهاته الآيديولوجية، و المنقسم حتى النخاع منذ أيام نشأته الأولى لعب للأسف أخطر و أهم الأدوار في تمزيق العالم العربي، و في تهشيم الدول التي هيمن عليها، بل و تحول لحصان طروادة في جلب و إستحضار النفوذ الخارجي الدولي الذي توج بإحتلال العراق في ربيع 2003 بسبب النزق و الفشل في إدارة الصراع و لأسباب عديدة أخرى لسنا هنا في معرض التصدي لها أو تقويمها!

كما كان و لا زال مزرعة للطائفية و العشائرية و لهيمن الأسرة الذهبية المقدسة على شؤون العباد و البلاد، و إذا كانت التجربة العراقية المرة لحكم البعث في العراق قد أدت بالنتيجة و الضرورة لتهشيم العراق و تفكيكه وزرع كل عوامل و أسباب الفوضى فيه، فإن حكم الضفة الأخرى للبعث في دمشق بات واضحا إنه يسير على نفس المنهج و المصير النهائي رغم أن عملية إدارة الصراع و الملفات من قبل القيادة البعثية في الشام مختلفة بالمرة عن الصورة التي كانت تدير بها القيادة العراقية دفة الموقف، ففي العراق إجتمع النزق و الغباء الجاهلي مع العقلية العشائرية السقيمة و البدائية مع الجهل القيادي المريع المعجون بكم النفاق الهائل لكي يتحول الحزب هناك لحالة كارثية كبرى أكلت الأخضر و اليابس، الإنقلابات و التصفيات بين رفاق العقيدة الواحدة كانت في الشام أقل حدة منها في العراق بكثير، فمع إنقلاب حافظ الأسد على الترويكا البعثية اليسارية السابقة ( صلاح جديد و إبراهيم ماخوس و نور الدين الأتاسي ) في أكتوبر 1970 تحول الفرع السوري لمؤسسة عائلية حاكمة و أنزوى الحزب و شعاراته تحت جناح قيادة حافظ الأسد الذي نجح بذكاء في إنهاء الآخرين و تصفيتهم و إبعادهم بهدوء و دون ضجة دموية علنية و فضائحية رغم أن القمع في نظام دمشق كان و لا يزال و سيبقى عقيدة راسخة و سنة متبعة، فالفاشية لا تملك سوى هذا الأسلوب لضمان إستمرار الهيمنة و التسلط، و قد سبق للسوريين في فبراير/ شباط 1966 أن أنهوا بالكامل هيمنة القيادة القومية لحزب البعث ممثلة بقيادة ميشيل عقلق و صلاح الدين البيطار و منيف الرزاز و تمكنت اللجنة العسكرية المعروفة خلفيتها الطائفية من الهيمنة على الحزب و إحداث أكبر إنشقاق فيه و لم يتوحد الحزب بعدها أبدا رغم المحاولات العديدة لذلك و بشكل إنعكس سلبيا و بوضوح على نشاط البعثيين في العالم العربي الذين إنقسموا بين بعثي قومي مؤمن بقيادة عفلق و بعثي قطري مؤيد لما قامت به اللجنة البعثية العسكرية في الشام التي تطاحنت الرؤوس فيها على القيادة مما أدى في النهاية لغلبة الدهاء على القوة و تمكن حافظ الأسد وهو أضعف المتصارعين من فرض هيمنته المطلقة و التي تحولت بحكم الواقع الإجتماعي لمؤسسة وراثية حاكمة حيث يرث الإبن أبيه! و مبدأ الوراثة الحزبية هو إختراع مسجل بإسم حزب البعث أيضا بالمناسبة!!

أما البعث العراقي فقد كانت التصفيات الدموية الشرسة بين أقطابه هي العلامة الفارقة له دون جدال، و لو تابعنا مسيرة و تاريخ حزب البعث العراقي بدقة لهالنا حجم الدماء المهدورة و التصفيات المتبادلة التي لم توقر أو تردع أي شيء، فمؤسس البعث في العراق وهو المرحوم ( فؤاد الركابي ) قد قضي إغتيالا عام 1970 تحت حكم الحزب الذي أسسه في أحد سجون ديالى في العراق و على يد قاتل مأجور ( سرسري ) أرسلته السلطة البعثية الحاكمة لقتله لكون الركابي قد إرتد عن البعث رغم أنه من مؤسسيه و تحول للفكر الناصري، كما هربت للخارج قيادات بعثية عراقية تاريخية ساهمت في ترسيخ سلطة الحزب في العراق، أما غرف و دهاليز ( قصر النهاية ) الرهيب في العراق فقد شهدت إعدام العديد من رفاق العقيدة الواحدة و الرسالة الخالدة!! بتهم الإنشقاق و الردة و عدم الإيمان الحزبي الكافي، وحتى مدير و جلاد قصر النهاية ذاته و جنرال القمع و الموت في الحزب ( ناظم كزار ) شرب من نفس الكأس التي أذاقها لرفاقه السابقين و حيث أعدم عام 1973 بعد فشل محاولته الإنقلابية!!

أما مجازر و تصفيات صيف عام 1979 و إعدام أكثر من 22 قيادي بعثي من الصف الأول فكانت ( نقطة البداية ) لهيمنة فاشية الفرد الواحد و العشيرة الواحدة على السلطة و بشكل جعل من حزب البعث مجرد خرقة بالية و لم يبق منه سوى الكادر أو العنوان!!، فإعدام أعضاء القيادتين القومية و القطرية تم فقط بسبب ملاحظة ( القائد الأوحد الذي كان ) لنقاط سوداء في عيون بعض الرفاق!! وهي واحدة من أغرب الأحكام في العالم، أن يعدم الشخص لمجرد الشك في نظراته و ليس همساته!! أو عبراته!!، و حتى الأمين العام المساعد للحزب و هو المرحوم الدكتور منيف الرزاز صاحب كتاب التجربة المرة في نقده لإنقلاب البعثيين السوريين عام 1966 على القيادة القومية لم ينج من مقصلة الرفاق في العراق حيث وضع تحت الإقامة الجبرية و مات في ظروف غامضة!!

و كان قبله في عام 1973 مفكر الحزب و رجل الحوار فيه الذي دعا للتغيير من خلال الشرعية الحزبية المرحوم عبد الخالق السامرائي قد واجه نفس المصير حيث أعتقل بتهمة التآمر عام 1973 ثم وضع في زنزانة إنفرادية في أحد سجون المخابرات طيلة ستة أعوام لم ير خلالها الشمس ليخرج و يعدم صيف 1979 بتهمة التآمر رغم أنه أسير في سجن المخابرات و تحت عيون السلطة..!! أحقاد سوداء و ملفات إرهاب و تصفية مرعبة، و قتل و سحق بالجملة هي كل حصيلة التجربة البعثية الأشد مرارة من العلقم، و بعد سقوط الحزب في العراق و هروب البعثيين و إنكماشهم بعد إحتلال العراق عام 2003 كنا نتوقع أن يتعلم البعثيون الدرس و أن يتعظوا من التجارب المريرة! و أن يوحدوا صفوفهم و يغيروا خطابهم الفكري السقيم بحكم الضرورة و من أجل الحفاظ على النوع من الإنقراض!!؟ إلا أن ذلك لم يحدث أبدا و تغلبت نزعات الثأر و البدائية و الأحقاد و الإستعراضات على ما سواها حتى إنقسم الحزب المنقسم أصلا و السائر في طريق الإندثار و الإضمحلال لتقسيمات غريبة فقد ظهرت قيادة ( عزة الدوري )!! و ظهرت قيادة ( يونس الأحمد و غزوان الكبيسي )!!

كما ظهرت قيادة عبد الجبار الكبيسي و أسماء أخرى!! و لعل التراشقات الإعلامية المريرة و العدوانية بين بقايا البعثيين أو من يحاول الإنتساب لهم على شاشة الفضائيات العربية مؤخرا هو تعبير عن الحالة الإنقسامية المخزية التي وصل إليها حزب البعث الذي تشرذم و تحول لدمعة في تاريخ الحركات القومية العربية... و السبب هو عدم إيمان البعثيين بضرورة تعلم الدروس و إستخلاص النتائج ليؤكدوا بذلك وحشيتهم و عدوانيتهم على أهلهم و رفاقهم قبل الآخرين... و تلك هي المعضلة..؟.

وحدة البعثيين من المستحيلات كالغول و العنقاء و الخل الوفي..! هذا إذا بقي شيء للبعثيين لكي يتوحدوا حوله..؟

داود البصري

[email protected]