التساؤل عن هوية العالم مازال يشغل بال الكثيرين وهو سؤال قديم متجدد يتطور مع تطور معارف الإنسان المخلوق المسكون بالتساؤل ورغم أن هذا التساؤل كان قديما قدم الإنسان إلا انه قد اخذ أبعادا جديدا في ظل الفلسفة الحديثة التي مثل هيغل احد أهم مثاباتها ليس لسعة فلسفته وشمولها لأكثر من جانب وحسب بل لأنها مثلت المصدر الأساس لمعظم الطروح الفلسفية الحديثة بما في ذلك الأيدلوجيتين الحديثتين الشيوعية والرأسمالية وبالطبع يمكننا أن نشير إلى أهمية الطرح الهيغلي في إنتاج الكثير من الأفكار أو تبلورها ك الفرويدية والدار ونية نظرا لإيمان الفلسفة الهيغلية بالمنطق النسبي للمفاهيم فالكون بنظر هيغل ليس مجرد مادة أو عقل انه اكبر من مادة واقل من عقل وهو عبارة عن مسلسل جدلي يمثل بعمومه المجموع الكلي للفئات التي عبر عنها بالروح الكلي أو الفكرة المطلقة حيث ينطلق مخططه الجدلي التحديدي من خلال مفهوم التصنيف بالتقلص التدريجي للفروق حيث تتنوع الأشياء في عالم المادة من الفروق البسيطة التي تعرف أدق دقائق الكون ثم الفروق الكبيرة وباستمرار التجريد نصل إلى مفهوم المادة أو الطاقة التي تمثل مفهوم الكون بشكل عام لذلك تظهر الاختصاصات التي تقف عند حد معين من التجريد الانثروبولوجي عند الإنسان وبالبايولوجي عند الحيوان والفيزياوي عند الأشياء بشكل عام أما الميتافيزيقي فيتناول الكينونة التي هي مجردة أكثر من الوجود أي أن عمله الفكري يبدأ من أعلى السلم من الكينونة الأكثر تجريدا إلى الأشياء الأكثر ملموسية فالأشياء بالنسبة له ليست مجرد هويات قائمة بذاتها بل تكوينات داخلة في صيرورة عامة شاملة تحرك الكون بأسره محركها التناقض الذي يسير بالأشياء أو القضايا أو الفكر من التوكيد إلى نفيه الذي يعبر عنه بالتحول أو التغير أو التطور إلى نفي النفي وهو التركيب بين التوكيد ونفيه وإنتاج فكرة أو قضية جديدة وهكذا دواليك وصولا إلى الفكرة العامة الشاملة لقد طرح مفهوم الديالكتيك حقيقة أن كل شيء مرتبط ببعضه وان كل شيء يتغير والتغيير نوعين كمي وكيفي حيث يتم التحول إلى الكيف بعد اجتياز نقطة المعيار أو الطفرة وبالرغم من أن هيغل أراد من خلال فلسفته العثور على مبدأ التغيير في الكون إلى انه يطرح ذلك ك سبيل لفهم الكون بعمومه وفهم الأشياء بخصوصها فهو لم يقدم جانب على جانب أخر ولم يتقيد بعامل دون أخر مبينا أن جميع العوامل لها نفس الأهمية في مسار الكون وهذا ما حاول تأكيده (وليام والاس) عندما أشار إلى quot; أن ما يسعى هيغل لتقديمه ليس مبدأ جديدا أو خاصا بل الفلسفة العمومية المتنقلة من عصر إلى عصر منكمشة هنا متسعة هناك وهي واعية باستمراريتها معتزة بتطابقها وتعاليم أفلاطون وأرسطو quot; لكن الأمر تغير بعد هيغل لان الفلاسفة الذين أعقبوه وجلهم قد تأثر به لم يتقيدوا بطروحه أن لم يكن قد خرجوا عليه وناقضوه إلا أن مايحسب له أنهم جميعا قد انطلقوا في فلسفاتهم إما من تأييد أو مخالفة هيغل بما في ذلك ما بعد الحداثويون الذين مثلوا ابرز محاولة لتجاهل الفلسفة الهيغلية إلا أنهم لم يخرجوا غالبا عن نطاق رد الفعل وانساقوا في مفاهيم تكاد تمثل تراجعا لا تقدما أما الفرق بين الهيغلية والمادية الجدلية فان الأولى اعتبرت العملية الجدلية أشبه بنقاش يبدأ من الأكثر تجريدا إلى الصلد الملموس معتبرين الأشياء هي في النهاية مجرد أفكار أما المادية الجدلية فتنطلق من الصلد إلى المجرد معتبرة الأفكار مجرد مواد أي أنهما متعاكسان في النتائج متفقان في الطروح ورغم أن المادية الجدلية قد مثلت محاولة لتجريد فلسفة هيغل من نزعتها المثالية إلا أنها لم توفق في نفي المثالية وان ادعت ذلك فهي في النهاية تؤمن بتأثير الأفكار وبهيمنتها بدليل أنها حاولت إنتاج واقع جديد بواسطة فكرة مجردة وهي الفكرة الشيوعية فالشيوعية كالوجودية والنيتشوية حملت أيضا بصمات مثالية بقدر أو بأخر فالميكانزمية هي وحدها التي حاولت ذلك عيانا لأنها فسرت العالم كعملية ميكانيكية محضة وطرحت إمكانية تفسير التغيير بواسطة مفاهيم المادة والحركة والزمان والمكان وان الكون كله يتكون من جسيمات مادية متحركة يمكن التنبؤ بمواقعها في المكان والزمان نظريا وبحسب هذه الفلسفة الإنسان يتألف من جسيمات مادية ونظريا يمكن التنبؤ بسلوكه لكن بعض الفلاسفة وكمقابل لهذا الطرح رأوا عكس ذلك حيث رفضوا مبدأ العالم ماكنة منوهين إلى أن التغيير لايجري بشكل ميكانيكي محض ومن ابرز هؤلاء (برجسون) الذي طرح شكوكه بشان قدرة الذهن على إدراك الحقيقة أو معاينة المشهد بشكل واضح لأننا جميعا بما فيه ذهننا مجرد صيرورة متواصلة والتفكير يقوم بتسكين الصيرورة ليرى العالم وهو ساكن والى هذه المدرسة ينتسب (برادلي ) الذي رفض مبدأ النشوء والتكوين معتبرا أن العالم ماهو إلا شيء واحد متحرك أما مسائل ك النشوء والتكوين فماهي إلا مسائل ذهنية لاوجود حقيقي لها لكن مثل هذه الأفكار المتطرفة لم يكن بالمقدور التعويل عليها مادامت لا توقف التسائلات فالقضية الأهم ليس أن نجيب بل أن ننهي التساؤل لأننا عندما نجيب قد نفتح الباب لتساؤلات جديدة لم تكن في البال لكن وقف التساؤل هو الطريقة الصحيحة لفهم مستوى معارفنا وبالتالي رأينا محاولة مهمة قام بها كل من (لويد مورغان) و(صاموئيل أليكساندر ) لحل مشكلة الحركة الميكانيكية الثابتة الموصوفة بمادة أو قوة لأننا عندها نستطيع أن نتنبأ بكل محاور الوجود ومساره وبالتالي لن يظهر نشوء جديد حقا ولذلك لابد أن يكون العالم متغير و غير ميكانيكي مبني على ظهور الجدة دائما لان الميكانزمية تعجز عن احتساب الصفات الثانوية مهما حاولنا عزوها للذهن لقد حاول أليكساندر وضع تصور عن الكون ينطلق من نظرية النشوء الطارئ حتى يكون بمقدوره الخروج من فخ الآلية الصارمة حيث ينطلق بتصوره من مفاهيم الزمان والمكان والحركة إلى ظهور الحياة والعقل والله فالله بنظره سيكون مخلوق الكون الأساس لا خالقه كما يعرض الذهن خطا لكن إلى أي مدا نستطيع أن نعرف العالم المتغير حين نقوم بقراءته وتحليله؟ وبعبارة أخرى هل يمكننا أن نعرف من أين جاء العالم وما هو أساسه وموقع العقل فيه أم أننا نلهث خلف سراب وإذا كان الأمر كذلك ما أهمية أن نتساءل إذن إذا كان التساؤل بحد ذاته هو مجرد زيف لا أكثر لقد وضع هذا التساؤل الفلسفة أمام مفترق طرق إما أن نواصل بحثنا الفلسفي خلف حقيقة ممكنة أو نوقف جهودنا على شؤون معينة لقد رفض معظم الفلاسفة هذا الرأي الذي كان ماثلا على الدوام لأنهم اقتنعوا بان الفلسفة مهمة وأهميتها في حضورها الدائم وعدم استسلامها فالمادية التي أعقبت مثالية هيغل لم تنهي التساؤل الفلسفي بالرغم من تبشيرها بالنهاية البشرية الفاضلة والميكانزمية التي أعقبت المادية لم تتمكن من فرض رؤاها على الرغم من استنادها إلى العلم وبالنتيجة وجدنا محاولات عديدة لتعديل الميكانزمية وصولا إلى الاطومية التي طرحت العالم كمجرد حزمة من التفاصيل الدقيقة ترى من المراقب بالشكل الذي يتوافق مع رؤيته معتبرين هذا التفسير كسبيل وحيد للتخلص من التاليهية رافضين في الوقت نفسه اعتراض العضويين (المثاليين) إلى أن هذه الرؤية تدفع لرؤية العالم كماكنة هذا الأمر ربما بلغ أكمل مستوياته في فلسفة( برتلاند رسل ) التي بالغت في تجريد المادة والذهن من معانيهما المعروفة لتفسرهما على أنهما مجرد طرق مناسبة لترتيب الأحداث المفردة في مجموعات لكن هناك أحداث تنتمي لمجموعات مادية وأحداث أخرى تنتمي لنوعية ما أي أنها رممت الفكرة السابقة لتستوعب بعض القضايا التي لايمكن تفسيرها بمفاهيم المادة وبالتالي لم يطرح رأيا واضحا من مفاهيم الاستقراء والسببية التي شك بها (هيوم ) مبررا التعاطي بهما على انه ضرورة من ضرورات العلم ولعل ابرز مساهمة لهذا الفيلسوف هي محاولته تطوير منطق خاص ينطلق من فرضية (أن كل شيء لا يرتبط بالضرورة بأي شيء أخر والقانون لاينطبق إلا على نطاق محدود من الظواهر وبالتالي لابد من معالجة كل قضية على حدة ) الذي سمح على مايبدو بحل مسائل كانت عصية على المنطق القديم الأمر الذي احدث ثورة كبيرة في علم الرياضيات نتج عنها تغيير بعض المفاهيم القديمة فقد نفى مثلا أن يكون لبعض المفاهيم أساس واقعي كالنقطة واللحظة ولذا هو يجردها من فهمها الرياضي ويدخلها في نطاق التطبيق كما اخترع مفهوم الدالة كوسيلة منطقية جديدة فعبارة مثل (هيغل إنسان) هي قضية و( س إنسان ) هي دالة قضية والدالة بمثابة قالب فارغ قابل للملا ما يسمح بحل بعض المشاكل الفكرية فالتعبير عن( أن الجبال الذهبية موجودة ) يمكن حله بطريقة راسل من خلال مفهوم الدالة ( لايوجد كيان ج بحيث أن س هي ذهبية وجبلية هي صحيحة إذا كانت ج هي س ) وهكذا بلغت الفلسفة المادية أقصى تخومها بعد أن نزعت من العالم كل معنى روحي وعرته من فكريته ليغدوا أشبه باله صماء تنتظر من يفككها وربما يكون الفيلسوف بما لديه من دافع معرفي وتخصص في هذا الجانب أداة من أدوات التفكيك ولو في نطاق نظري محض.

باسم محمد حبيب