فهد الشقيران: يحضر quot;الموتquot; في quot;الفلسفةquot; عبر سؤاله الغامض، حيث تم بحثه يونانياً أولاً من هيراقليطس وأرسطو وأفلاطون، ومن ثم في العصر الحديث منذ باسكال وبرجسون وهيدغر، وشبنهاور، وإلى أن خُصت مسألة الموت ببحوث ودراسات مستقلة تُرجم بعضها إلى العربية، أما في الدراسات العربية عن الموت لا يمكن نسيان دور المفكر المصري عبد الرحمن بدوي حيث بحث الموت من زاويته الفلسفية كوجودي وتخصيصه مساحات حيوية من مباحثه الأكاديمية لهذا الغرض منذ (مشكلة الموت) و(الموت والعبقرية) وغيرهما وقد شرح نظريته الشخصية عن (الموت) في ترجمته لنفسه في (موسوعته الفلسفية). وهذه الحالة من البحث عن المفهوم هي نوع معرفي وكوني وكوكبي من تحويل الإنسان نفسه إلى مسألة للبحث - بحسب أوغسطين - حينها تكون الغاية من فن التفلسف سامية عن سفاسف الحياة.
إنها (القشعريرة) الطبيعية التي تخضّ الإنسان حينما يفكر بأن اكتمال الحياة لا يتم إلا بالموت، وبأن الموت هو نواة أصلية في (مفهوم الحياة) وبعبارة صوفية البناء: (لا تكتمل ذروة البقاء إلا بهاوية الفناء)، فالوجود يقتضي بطبيعته التناهي فالنظر إلى حالة الفناء ينظر إليها على عدة مستويات، فهي عنصر مكون في الوجود وإلا فإن الموت لن يكون له مكان داخل نظرة الإنسان إلى العالم، وإنما يمكن أن يكون عرضياً يقبل الإغفال وهذا هو السبب في أن الذين نظروا إلى الموت هذه النظرة لم يستطيعوا أن يضعوا المشكلة الحقيقية للموت، وعلى رأس هؤلاء جميعاً (أفلاطون) فإنه قد عني بالموت بل وصف الفلسفة بأنها (التأمل في الموت). (انظر كتاب الموت والعبقرية لعبد الرحمن بدوي).
ينبّه (بدوي) إلى عدم الوقوع في تفسيرات خاطئة لهذه الجملة، ذلك أن أفلاطون لم يجعل من الموت موضوعاً رئيسياً للتفكير الفلسفي أو حتى للفلسفة! إنما ما قصده أفلاطون من هذه الجملة هو quot;أن الموت هو الوسيلة التي بها يتيسر بعد ذلك للفيلسوف أن يفكر جيداًquot; وذلك لأن حياة الفيلسوف عند أفلاطون هي حياة متجهة دائماً إلى (تأمل الصور والمُثُل)، ولا يتيسر تأمل الصور تأملاً حقيقياً ما دامت النفس سجينة البدن فكأن الموت - حسب بدوي - لدى أفلاطون إذاً جسر ومعبر ينتقل بنا من حياة النفس والبدن إلى عالم الصور.!هكذا فسر بدوي جملة أفلاطون.
أما عند المتصوفة من المسيحيين فيتخذ من الموت أساس النظرة المسيحية للحياة، وهي نظرة تتعارض تمام التعارض مع نظرة أفلاطون والروح اليونانية بوجه عام إلى الحياة، وبكلٍ فإن البحث الفلسفي للموت يأتي كجزءٍ من مشروع بحث (الحياة) بوصفها متكاملة التصور منذ الولادة وإلى الموت وتتجه الكثير من البحوث لمسألة (الموت) على سبيل النعي الشامل لموقع الإنسان ونشر التفجّع الأسياني الذي لا يضيف سوى المتعة المعرفية والدغدغة الوجدانية.
أما البحث المتكامل عن (الموت) فيجب أن يشمل كافة أبعاد الحياة وأن يستوعب الموت في الحياة لا أن يختصر الحياة في الموت، والموت بحسب الفيلسوف الألماني (زمّل) (باطنٌ في الحياة ومحايث لها وليس عالياً)، لقد أخذ الموت كضمير منفصل عن الحياة حظه من التداول الأممي منذ الوعي الأول، وفي اليونان تجلى الموت بأساه العارم في ملاحم الحب الذي لا يكفّ عن الاتصال بالموت، وهو ما لم يفت بدوي في بحوثه الهامة وتعضيدها بحضور الموت في الحب حتى في شعرنا العربي، وتجلى معاصراً في الأدب الألماني الذي حرثه بدوي بحثاً ونقداً ودوّن فيه كتابه (الأدب الألماني خلال نصف قرن).هنا تتعاطى ذرى اكتمال الحياة مع نهايات الموت بوصفهما التماسك الأبرز والتعاضد الأشمل لإكمال لوحة الحياة، تُرى ما الذي يجعلنا نتحدث عن الموت؟
إن الحديث عنه كشف لأنفسنا نفسياً وذهنياً وفكرياً، أما على مستوى التأمل العادي فالكل هيّاب من الحديث عنه، فهو قدرٌ لا مفرّ منه وربما شكّل الفرار من الموت حالة من (العقوبة التي يتمنى معها الإنسان الموت) كما جسدته وببراعة بعض أفلام هوليود نهاية القرن الماضي. وما يجعلنا نتمسك في البحث هنا، هو الرغبة في بحث الحياة من ضفةٍ أخرى واستيعابها من جهة ثانية، والقبض عليها من بابٍ مهجور، نستدعي الحياة بكل عروقها الخضراء النابضة نبحث عن دورها في إذكاء جذوة الإعمار لهذا العالم والكفّ عن تشييد مفازات الموت.
كاتب سعودي
[email protected]