رمال السياسة المتحركة تحاول ان تبتلعه

الكاريكاتير العراقي .. ما زال ينبض بالسخرية

عبد الجبار العتابي من بغداد:
كان علي ّ.. وانا اقف امام الـ (77) عاما والتي هي عمر الكاريكاتير العراقي ان اعاينه، اعاين طوله، ابحث عن قوته وضعفه، عن جرأته وخوفه، عن ملامحه وقسمات وجهه، هل شاخت ام تعبت، وهل يتعكز في مشيه ويرتجف ام ما زال يسير على قدميه وائق الخطو، ام هل ما زال يتخفى ام يسير مع الحائط، كان علي ان انظره في الصحف والمجلات واينما يكون، فوجدت ان العديد من الصحف ما زالت تخشى ان يكون له حضور على صفحاتها، فيما وجدت ان غيرها يحرص اشد الحرص على وجوده،لكنه في كل الاحوال يحاول ان يكون جريئا ليصل الى الناس معبرا عما في مكنونات صدورهم، واذ اتاحت الحرية لرسامي الكاريكاتير الفرصة للمشاغبة بلا حدود من أي لون يضعونها، كما انهم يراوغون احيانا في التعبير عن وجهات نظرهم التي يمكن تفرز بعض الخوف الذي ما زال ملازما للفرشاة بسبب التقاطعات العديدة ما بين المكونات السياسية، وقد أسرني بعض الرسامين ان رسوماتهم ما زالت تتعرض للمعاينة من قبل رؤساء التحرير وتتعرض لعدم النشر او التحوير، وان الجرأة احيانا غير مطلوبة مخافة تفسيرها من قبل البعض على انها اساءة اليهم، كما ان هناك تفاوتا واضحا في المستوى، فهناك رسامون مميزون فيما هناك رسامون مازالوا يتهجون ابجدية الكاريكاتير الاولى، ويتاح لهم النشر لاسباب عدم وجود رسامي كاريكاتير كثر.
من الطريف، وعلى الرغم من الظروف غير الموضوعية والحساسية التي يبعثها الكاريكاتير، الا ان صحيفة ومجلة قد صدرتا خلال الاشهر الماضية، وهما تتخصصان بما يمتلك من مشاكسة وجرأة، انه العنصر الرئيسي فيهما والعمود الفقري الذي يقومان عليه، الصحيفة هي (الكاروك) والمجلة هي (الفلقة) الاولى رئيس تحريرها الصحفي الدكتور كاظم المقدادي، والمجلة يرأس تحريرها رسام الكاريكاتير حمودي عذاب، وهاتان الصحيفتان، تعبران بالرسم، وان كانتا تعانيان الكثير.
وهاتان الصحيفتان يسهم في رسموماتهما الفنان علي عاتب الذي قال: عملت في الصحيفتين بوحي من النهج الذي تمارسانه وهو النقد البناء المؤطر بالسخرية، بالاعتماد على الكاريكاتير ليكون اداة التوصيل الاكثر حضورا، واضاف: بما ان جميع الفنون تلتقي على خطى الابداع للوصول الى غايتها لعكس حالات عامة او خاصة ولتكون شاهدا على احداث عصرها، وفن الكاريكاتير من ابرز الفنون القادرة على عكس الاحداث في لوحات نقدية او ساخرة تخاطب الجميع من الناس على اختلاف اطيافهم ومستوياتهم الثقافية وعلى مختلف لغاتهم لتكون اوسع انتشارا من سواه من الفنون ولتكون في متناول الجميع لما يحتويه من لغة شفافة قابلة للتأويل حسب رؤى القارىء ويتناوله السياسي لما يحتويه من نقد لاذع ويتناوله الصغير والكبير لما يتناوله من خطوط ساخر تختزل فكرة عميقة)، واضاف علي: (الكاريكاتير مسؤولية الفنان تجسيد معاناة الناس ووضعها على طاولة العالم اجمع ثم على طاولة المسؤولين، كذلك نقد الحالات السلبية في المجتمع).
قال لي صديق: هل يمكن في اليوم الذي تستذكر فيه يوم الكاريكاتير العراقي ان تستذكر فرسانه؟، شعرت بهزة، ورفعت رأسي اليه استغرب قوله، وأمد بصر ذاكرتي الى البعيد وانا اتساءل: فكيف يمكنني ان اعرف كل الذين وهبوا عصارة افكارهم لهذا الفن وغمسوا فرشاة ابداعاتهم في تفاصيله ذات الخطوط الملتهبة نقدا وسخرية ومشاكسة، وكل واحد منهم يمتلك لونا خاصا به وتعبيرا، وجدت انني سأحاول مستعينا بصديق رسام عسى ان يستذكر معي، ثم رحت اعدد له:
عبد الجبار محمود، غازي عبدالله (الخطاط)، حميد المحل، نزار سليم، سعاد سليم، منصور البكري، فيصل لعيبي، مؤيد نعمة، عبد الرحيم ياسر،كفاح محمود،، علي المندلاوي،عامر رشاد، عادل شنتاف، بسام فرج، رائد نوري، خضير الحميري، ضياء الحجار، عبد الكريم السعدون، عباس فاضل، شهاب الحميري، محمد علي بربن، هاني مظهر، شيرين الراوي، فؤاد حسون، عبد الحسن، احمد الربيعي، اركان الزيدي، عادل صبري، سرمد الحسيني،عبد الخالق الهبر (رحل بأنفجار ارهابي) وعلي عاتب وغيرهم بالطبع ممن يمكن ان تفوتني اسماؤهم سهوا.
وجدتني في يوم الاحتفال اتصل بالفنان المبدع خضير الحميري احد اقطاب الكاريكاتير العراقي، ورحت اتحدث معه
* ما الفكرة الاولى للاحتفال بعيد الكاريكاتير العراقي؟
- كنا مجموعة من رسامي الكاريكاتير العراقيين منشغلين أواخر ثمانينيات القرن الماضي في تقليب ارشيف الصحافة العراقية بحثا عن موطئ قلم او فرشاة تدلنا على الانطلاقة الاولى لرسم الكاريكاتير في العراق، حين قاطع (انشغالنا) اقتراح للفنان ضياء الحجار باعتبار التاسع والعشرين من ايلول عام 1931 تاريخا موثوقا لتلك الانطلاقة، في إشارة لصدور العدد الاول من جريدة حبزبوز، وهو ما رست عنده رسالته الموسومة (رسم الكاريكاتير المعاصر في العراق) لنيل شهادة الماجستير في الفنون من كلية الفنون الجميلة عام 1990، ومن يومها أصدرنا مرسوما نافذا يقضي باتخاذ ذلك اليوم عيدا للكاريكاتير على غرار عيد الفلاح وعيد المعلم وعيد الشجرة كنا نلتقي في ظلاله ونقيم معرضنا الذي انتظم لعدة سنوات ثم انفرط مثلما انفرطنــــا).
* هل كان لدى بعضكم رأي اخر؟
- لقد طغى اقتراح الحجار في حينه على فكرة أخرى كانت موضع أخذ و رد، ترى في تاريخ صدور جريدة (كناس الشوارع) لصاحبها ميخائيل تيسي (عام 1925) كأول ظهور لرسم الكاريكاتير في العراق على اعتبار ان الجريدة كانت تضع رسما كاريكاتيريا ثابتا في اعلى صفحتها الاولى، يعبر بطرافة عن اسم الجريدة، يظهر فيه شخص حافي القدمين، رث الثياب، يجول في شوارع المدينة رافعا مكنسته متأهبا للضرب (ضرب من.. ولماذا.. لا ادري) وقد ذيل الرسم بتعليق محور عن بيت شعر يقول: (من لم يمت بالسيف مات بضرب المكانس.. تنوعت الاسباب والموت واحد) والرسم موسوم في اسفله بتوقيع سريع وغامض لاسم الرسام (ربما كان اسمه الاول محمد)، تم التخلي عن هذه الفكرة لان صفحات كناس الشوارع كانت وباستثناء (موتيف الغلاف) خالية تماما من رسوم الكاريكاتير، وان صحفا أخرى عاصرت أو تلت كناس الشوارع، اعتمدت (الطـُعم) الكاريكاتيري ذاته بجوار اسم المطبوع من دون ان تكون للكاريكاتير حصة تذكر في صفحاتها الداخلية، ويعزو الصحفي العراقي صادق الازدي (صاحب مجلة قرندل) ذلك إلى تأخر افتتاح اول معمل للزنكغراف في العراق حتى عام 1930، فيما نجحت (حبزبوز) في اجتذاب اكثر من رسام كاريكاتير للعمل فيها طوال سنوات صدورها التي امتدت حتى عام 1938، مثل عبد الجبار محمود ومصطفى ابو طبرة وناصر عوني وسعاد سليم وفائق حسن وعطا صبري فضلا عن نوري ثابت صاحب الجريدة والذي كان ينفذ بعض الرسوم بخطوط بسيطة وتعليقات مسهبة..).
* ما خصوصية هذا الرسم الحبزبوزي المعتمد؟
- الرسم الذي اعتمدناه كشمعة نجتمع حولها للاحتفال بميلاد فن الكاريكاتير العراقي، رسمه الفنان الرائد عبد الجبار محمود غلافا لعدد الجريدة الأول، وهذا الفنان كان يرسم الكاريكاتيرمن باب الهواية والتسلية وسرعان ما غادر الصحافة ليصبح ضابطا في الجيش العراقي، والرسم الذي نحن بصدده يمثل شخصية حبزبوز ذات الصيت الشعبي، والتي يتقمصها هنا صاحب الجريدة وهو يمتطي مدفع السلطان مراد الرابع (طوب ابو خزامة) حاملا بيده (قلمه السيال) وقد كتب اعلى واسفل الرسم تعليقا مطولا يسخر فيه من (تردي الحالة الأمنية) والكاريكاتير يتحدث بشكل مباشرعن حادثة اطلاق نار كان تعرض لها حبزبوز في (اوتيل ما شاء الله) حين اطلق عليه شخص ما (لم يكن اللثام قد اكتشف حينها ) 6 رصاصات لم يحل بينها وبين رأس الصحفي سوى سوء التهديف (وهو ما تم تلافيه تماما في أيامنا)..، وقد نقلت جينات الرسم الاول بشكل او بآخر كل حسناتها وبعضا من سيئاتها الى مشيمة الكاريكاتير العراقي لفترة من الزمن، فالرسام اعتمد في تجسيد ذلك الرسم على ما أملاه عليه رئيس التحرير أو (صاحب) الجريدة وفق ماكان متعارفا عليه، الامر الذي فتح الباب لاحقا للكثير من الرسوم البائسة التي يمليها (اصحاب) الجرائد او محرروها لاهدافهم ومآربهم وأفكارهم الخاصة وينصاع لها الرسام صاغرا تحت ضغط الحاجة او المجاملة وقلة الحيلة، ما اورث الصحافة العراقية الكثير من المفاهيم المشوشة عن مهمة فنان الكاريكاتير وحضوره الاعلامي، وافقد هذا النوع من الرسم خاصية الانسجام المتبادل بين الشكل والمضمون، وعرّض اسلوب الرسام وتوجهاته الفكرية للتقلبات تبعا لتقلب (اصحاب) الجرائد او تقلبه بينهم .
* هل يضر ان يكون الكاريكاتير هكذا؟
- قد يكون الامر مقبولا ومبررا إلى حد ما في الخطوة او الخطوات الاولى خاصة ان هذه الظاهرة كانت (وما زالت) معروفة في بعض أروقة الصحافة العربية عموما، بشكل غير معلن حينا ومعلن حينا آخر، إلا ان العدوى لم تتوقف عند عتبة السنوات الاولى، وانما اخذت بالانتقال من جيل الى آخر، حتى وصلت بعض فايروساتها إلى الفيتنا الثالثة، إذ يكفي أن نتفحص بعض رسوم اليوم لنقف بسهولة على فكرة رئيس التحرير او محرر الصفحة متنكرة في تلافيف هذا الرسم او ذاك، بل ان بعض الرسامين كان يرسم الفكرة من دون ان يعرف معناها، فقد اتصلتُ يوما من تسعينيات القرن الماضي باحد الاصدقاء من رسامي الكاريكاتير، مستفسرا عن فحوى الرسم الذي رسمه واثار الكثير من اللغط والتساؤلات حول الوجوه التي ظهرت فيه ومن بينها (وجهي)، فأجابني بصريح العبارة بانه لا يعرف المقصود منه، واضاف وصلتني الفكرة مكتوبة واعدتها إليهم مرسومة!! وحدثنا الكاتب والصحفي ليث الحمداني عن حادثة وقعت في ستينيات القرن الماضي حين طلب رئيس التحرير من رسام الكاريكاتير (الفنان حميد المحل على الأغلب) تجسيد فكرة بسيطة لتكون غلافا للمجلة تتمثل بشخصية رئيس الوزراء وهو يصعد نخلة عراقية شامخة ويشذبها من (الكرب) القديم، وهي فكرة تنطوي على اشارات ايجابية لا تثير الريبة، وحين ظهر الرسم كان رئيس التحرير قد تصرف باعتباره (صاحب!) الجريدة و كتب على (الكرب) المتساقط اسماء بعض الوزراء.. وتعليقا آخر في أسفل الرسم لا يقل توريطا في تجاوزه (للسقف) المتاح حينها، مما فاجأ الرسام وعرّضه للحرج والجرجرة القانونية).
*كيف ترى احوال الكاريكاتير العراقي الان؟
- لقد نجح رسام الكاريكاتير العراقي مبكرا في التمرد على املاءات الآخرين، واصر على تجسيد افكاره ورؤيته الخاصة بعيدا عنها، وكان الفنان غازي عبدالله من ابرز الكاريكاتيريين الذين رسموا سيرتهم الفنية باستقلالية وتحرر واضحين، وحتى حين كان يرسم افكار الآخرين فانه يعالجها بطريقته المميزة، وجاءت ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بجيل جديد من رسامي الكاريكاتير المميزين، كان من الصعب تلقينهم أو التعاطي معهم بالطريقة اياها، فنوعوا بالتوجهات والرؤى والأساليب وأحدثوا حراكا كاريكاتيريا مشهودا نتجت عنه تجمعات ومعارض ومطبوعات، و تم على أيديهم تصحيح الكثير من مفاهيم التشويش والتهميش.
*وهل تمكن الفنان العراقي من نزع الخوف؟
- رسام الكاريكاتير في العراق شأنه شأن العديد من الكاريكاتوريين في دول العالم (الخائف) ظل مشغولا منذ التاسع والعشرين من ايلول عام 1931، والى ما بعد منتصف العقد الاول من الالفية الثالثة، بمتانة السقف الذي يرسم تحت (رحمته)، فقد جرب خلال مسيرة الـ (77) عاما الرسم تحت سقف مرتفع في غرفة ضيقة!! و جربه تحت سقف بلا سقف في غرفة (بلا جدران ).. ولا أمان!، وبين هذا وذاك كثيرا ما لملم أوراقه وانزوى جانبا (نزولا) عند رغبة سقف يطيب له أن يهبط أحيانا... إلى مستوى سطح الورقة!!، وفي رمال السياسة المتحركة عادة ما كانت رسوم الكاريكاتير في الصحافة العراقية تصدح أو يخفت صوتها، تتمدد أو تنكمش، تصّرح أو تلمّح، تشاكس أو تجامل،يخف أو يثقل دمها، تعدو أو تحبو حسب (معطيات المرحلة ومتطلباتها الخطيرة)، ومآل رسام الكاريكاتير وسط هذه الثنائيات هو البحث بلا كلل عن أيما فرجة في السقف كيما يمد قامته على طولها، فينجح مرة و (ينطح) السقف مــرات )!!.