فهد الشقيران من جدة: منذ 12 مليار عام تقريباً أعاد الإنسان موقعه الكوني والوجودي، فذهب يبحث عن أسس تتوافق مع توسع إدراكه للمكان، وتوازي شساعة تصوراته للزمان، وعلى طول تلك الرحلة لم يكن البحث سوى وسيلة لقهر جمرة السؤال والتفكّر، في الجبال والبحار، والأنهار والوديان، في الزمن، والمرض، والحب والبغض، في الشبع والجوع، في الحركة التي يمرّ بها الإنسان بكل تقلّباتها، وحينما خرج من الكهف، وابتكر وسائله الأمنية التي تمكّنه من فرض إقامة جبرية على quot;الأنثىquot; في جوف الكهف، وضمن له الاطمئنان إلى أولاده، انشغل برفع بصره، والبحث عن معنى هذا الكدح، وإن كان من أمرٍ قاطع قد استدار الزمان ليثبت قطعيته علمياً فهو quot;أن العلم لا نهائيquot; فطبيعة العلم نامية، لا تقف عند مسار، وكلما أغلق العلم باب سؤالٍ فتح بأسئلة أخرى عشرات الأبواب، وهذا هو سرّ استمتاع الباحث وسرّ ديمومة الجهد والكدّ خلف الأسئلة ووراء العلوم.
ننشد فكرة الصيرورة واللا انتهاء في فلسفة هيراقليطس المبثوثة في شذراته التي أعيد بعثها من جديد في المنعرج الفلسفي الحديث فهو بثّ quot;الغموض، والصيرورةquot; ومنه استفاد نيتشه كثيراً خاصةً في نظرية quot;العود الأبديquot; ورجوع نار هيراقليطس، ونهره الذي يجري دائماً بلا توقف، والزمان الذي لا يمكن أن ندركه مرتين، مكّن الجوّ الفلسفي من الاستدفاء بتلك النار، وأصبح الغموض بديلاً للوضوح، وحلّت المتاهة محل الخطوط المستقيمة، جاء التوتر محلّ السكون، والبيْن بيْن محلّ الركن، والهامش محلّ المركز، وهذا المنعرج الجديد يجسّد استمرار روح العلم في التوقّد وثبات القاعدة العلمية الوحيدة التي تؤكّد بحركة العلم الدائمة quot;لا نهائيةquot; العلم، واستحالة تثبيت التفكير، وتعلن موت القوالب! فذاب الجليد، وباتت الساحة سائلة، مليئة بالدوران والجريان، فصدّعت الحدود، وحلّت الفجوة النصية محلّ النظرية.
لم يأت هذا الجوّ المرعب من جهات فارغة، ولم يأت من تاريخ أبيض، وإنما جاء التطوّر الفلسفي نتيجة علاقة وثيقة وطّدها مع العلم، فمنذ القرن السابع عشر لم يكفّ العلم عن إنتاج الفروض والنظريات، وكان العلم هو المعين الأساسي للبحث الفلسفي، لقد عثر المتفلسف في جوف العلم على الجانب الآمن للبحث، ومرّ العلم بصعوبات كبيرة، وأحرق العلماء في القرن السادس عشر، وصلبوا وقتلوا ذلك أنهم مارسوا quot;الإحراقquot; لنظريات أثبتت الحركة العلمية ضمورها وانتهاءها، حتى جاءت quot;الحداثةquot; عبر التفاؤل الذي ساد في مستهلّ القرن السابع عشر حينما توصل فلاسفة وعلماء ذلك القرن إلى إمكان توصل الإنسان لمسار متقدم في quot;فهم العالمquot; عبر استخدام مناهج جديدة، لكن الخلاف الذي نشب وسيستمرّ طويلاً في طبيعة ذلك المنهج، وفي الكيفية التي يمكن أن يكون عليها ذلك المنهج.
ربما كان مُشعل الحداثة رينيه ديكارت بوصفه العالم من جهة، والفيلسوف من جهة أخرى، هو واضع quot;المنهجquot; الأبرز في تاريخ العلم الحديث، لقد ألّف مقالته quot;مقالة في المنهجquot; سرد فيها رؤيته عن ضرورة تدوين العلوم النظرية وفق هندسة quot;إقليدسquot;، فهو رأى أن على علم كالفيزياء-مثلاً- أن يتأسس على مبادئ مماثلة لأصول هندسة quot;أقليدسquot;، بتلك المقالة عرّج على ملامح ثورة سماها بعض المؤرخين quot;الضربة الكبرىquot; فهو سكن الجزء الأكبر من عمره، وجامل رجال الدين في ذلك العصر، حتى رسم منهجه الذي افتتحه بـquot;الشكquot; ورمى الكوجيتو (أنا أفكر إذن أنا موجود) في مرمى ذلك القرن، وبقيت الفلسفة لقرونٍ تالية تدور حول الأسئلة أو البحوث أو المناهج التي وضعها وبوبها ورسمها رينيه ديكارت.
هذا مع دورٍ أساسيّ قام به فرانسيس بيكون، الذي نادى في كتابه (الأورجانون الجديد) بأهمية تخلص العلماء من التصوّر المسبق! قبل الشروع في أي عملية بحث، وكان تأثير بيكون له نفحه quot;تاريخيةquot; فهو دوّن الكثير من التشكيلات النظرية، لكن نظرياته لم تفرز أيّ بعد يمكن أن يوصف في سيرورة العلم بالجهد القطيعي، الذي يعتمد على الفصل في النتائج، والوصل في التساؤل، وهي القطيعة التي لم تنجح كل الثقافات الشرقية في انتهاجها، وربما لا يوجد غير الثقافة الأوروبية من أوجدت هذه القطيعة الجامحة التي تنفصل من جهة وتتصل من جهة أخرى، ذلك أن تاريخ العلم تاريخ quot;قطائعquot; و quot;أخطاءquot; حسب ابستمولوجيا باشلار، كل ذلك الجهد الذي بذله بيكون لم يتجاوز التأثير المرحلي، وسيرته الذاتية تنضح بمراداته من تأسيساته تلك.
مجيء كانط سيهدّئ من ذلك الاختلاف، بين بيكون، وديكارت، ذلك أن نظريته تقوم على تحويل ذات الباحث إلى مبدأ متعال يجمع وقائع التجربة، ويجمع توزّع الأحداث، لتدبيجها في توليفات عقلية وأنساق منطقية وفق مقولات تستمد أسسها من صلب أسس علوم العصر وأهمها الزمان والمكان. واستمرّ الجهد البشري في سعي حثيث لإزالة غشاوة امتدت طويلاً، حتى جاء العلم بما لم تستعد له الفلسفة، فلا يمكن تخيّل الصدمة التي أحدثتْها نظرية النسبية، ونظرية الكم على سير الفلسفة، وبلغ من شدّة الصدمة، إعلان البعض quot;نهاية الفلسفةquot;! لكن جيل دلوز رأى أن هذه المقولة التي روّجت في القرن العشرين، مجرّد موضة انتشرت في فرنسا، لكن سيبقى دور الفلسفة كممارسة، وإن كان سيتنوّع من جهة المحمول والموضوع.
كل تلك الأحداث تبرهن على ضرورة المحافظة على الحسّ السؤالي لدى الكائن، ومحاربة السؤال بالأجوبة أو بالخوف من أشدّ الأخطار التي تهدد إمكانية قيام روح علمية يطمح إليها كل إنسان، لم يعد العلم في مأمن من الضربات والصدمات، كما أن الفلسفة ستأتيها هزّات أكبر من تلك الهزة العنيفة، وها هم الفلاسفة ndash;من المعاصرين خاصةً- في حالة ذهول كبرى من شدّة ما رأوا من ثورة التقنية الحديثة، التي خضّت الفلسفة، الأمر الذي اضطر الفلاسفة معه إلى تحويل quot;التقنيةquot; إلى موضوعٍ فلسفي وهو المفهوم الذي سأشرح علاقته بالفلسفة في مقالات قادمة.
[email protected]
ننشد فكرة الصيرورة واللا انتهاء في فلسفة هيراقليطس المبثوثة في شذراته التي أعيد بعثها من جديد في المنعرج الفلسفي الحديث فهو بثّ quot;الغموض، والصيرورةquot; ومنه استفاد نيتشه كثيراً خاصةً في نظرية quot;العود الأبديquot; ورجوع نار هيراقليطس، ونهره الذي يجري دائماً بلا توقف، والزمان الذي لا يمكن أن ندركه مرتين، مكّن الجوّ الفلسفي من الاستدفاء بتلك النار، وأصبح الغموض بديلاً للوضوح، وحلّت المتاهة محل الخطوط المستقيمة، جاء التوتر محلّ السكون، والبيْن بيْن محلّ الركن، والهامش محلّ المركز، وهذا المنعرج الجديد يجسّد استمرار روح العلم في التوقّد وثبات القاعدة العلمية الوحيدة التي تؤكّد بحركة العلم الدائمة quot;لا نهائيةquot; العلم، واستحالة تثبيت التفكير، وتعلن موت القوالب! فذاب الجليد، وباتت الساحة سائلة، مليئة بالدوران والجريان، فصدّعت الحدود، وحلّت الفجوة النصية محلّ النظرية.
لم يأت هذا الجوّ المرعب من جهات فارغة، ولم يأت من تاريخ أبيض، وإنما جاء التطوّر الفلسفي نتيجة علاقة وثيقة وطّدها مع العلم، فمنذ القرن السابع عشر لم يكفّ العلم عن إنتاج الفروض والنظريات، وكان العلم هو المعين الأساسي للبحث الفلسفي، لقد عثر المتفلسف في جوف العلم على الجانب الآمن للبحث، ومرّ العلم بصعوبات كبيرة، وأحرق العلماء في القرن السادس عشر، وصلبوا وقتلوا ذلك أنهم مارسوا quot;الإحراقquot; لنظريات أثبتت الحركة العلمية ضمورها وانتهاءها، حتى جاءت quot;الحداثةquot; عبر التفاؤل الذي ساد في مستهلّ القرن السابع عشر حينما توصل فلاسفة وعلماء ذلك القرن إلى إمكان توصل الإنسان لمسار متقدم في quot;فهم العالمquot; عبر استخدام مناهج جديدة، لكن الخلاف الذي نشب وسيستمرّ طويلاً في طبيعة ذلك المنهج، وفي الكيفية التي يمكن أن يكون عليها ذلك المنهج.
ربما كان مُشعل الحداثة رينيه ديكارت بوصفه العالم من جهة، والفيلسوف من جهة أخرى، هو واضع quot;المنهجquot; الأبرز في تاريخ العلم الحديث، لقد ألّف مقالته quot;مقالة في المنهجquot; سرد فيها رؤيته عن ضرورة تدوين العلوم النظرية وفق هندسة quot;إقليدسquot;، فهو رأى أن على علم كالفيزياء-مثلاً- أن يتأسس على مبادئ مماثلة لأصول هندسة quot;أقليدسquot;، بتلك المقالة عرّج على ملامح ثورة سماها بعض المؤرخين quot;الضربة الكبرىquot; فهو سكن الجزء الأكبر من عمره، وجامل رجال الدين في ذلك العصر، حتى رسم منهجه الذي افتتحه بـquot;الشكquot; ورمى الكوجيتو (أنا أفكر إذن أنا موجود) في مرمى ذلك القرن، وبقيت الفلسفة لقرونٍ تالية تدور حول الأسئلة أو البحوث أو المناهج التي وضعها وبوبها ورسمها رينيه ديكارت.
هذا مع دورٍ أساسيّ قام به فرانسيس بيكون، الذي نادى في كتابه (الأورجانون الجديد) بأهمية تخلص العلماء من التصوّر المسبق! قبل الشروع في أي عملية بحث، وكان تأثير بيكون له نفحه quot;تاريخيةquot; فهو دوّن الكثير من التشكيلات النظرية، لكن نظرياته لم تفرز أيّ بعد يمكن أن يوصف في سيرورة العلم بالجهد القطيعي، الذي يعتمد على الفصل في النتائج، والوصل في التساؤل، وهي القطيعة التي لم تنجح كل الثقافات الشرقية في انتهاجها، وربما لا يوجد غير الثقافة الأوروبية من أوجدت هذه القطيعة الجامحة التي تنفصل من جهة وتتصل من جهة أخرى، ذلك أن تاريخ العلم تاريخ quot;قطائعquot; و quot;أخطاءquot; حسب ابستمولوجيا باشلار، كل ذلك الجهد الذي بذله بيكون لم يتجاوز التأثير المرحلي، وسيرته الذاتية تنضح بمراداته من تأسيساته تلك.
مجيء كانط سيهدّئ من ذلك الاختلاف، بين بيكون، وديكارت، ذلك أن نظريته تقوم على تحويل ذات الباحث إلى مبدأ متعال يجمع وقائع التجربة، ويجمع توزّع الأحداث، لتدبيجها في توليفات عقلية وأنساق منطقية وفق مقولات تستمد أسسها من صلب أسس علوم العصر وأهمها الزمان والمكان. واستمرّ الجهد البشري في سعي حثيث لإزالة غشاوة امتدت طويلاً، حتى جاء العلم بما لم تستعد له الفلسفة، فلا يمكن تخيّل الصدمة التي أحدثتْها نظرية النسبية، ونظرية الكم على سير الفلسفة، وبلغ من شدّة الصدمة، إعلان البعض quot;نهاية الفلسفةquot;! لكن جيل دلوز رأى أن هذه المقولة التي روّجت في القرن العشرين، مجرّد موضة انتشرت في فرنسا، لكن سيبقى دور الفلسفة كممارسة، وإن كان سيتنوّع من جهة المحمول والموضوع.
كل تلك الأحداث تبرهن على ضرورة المحافظة على الحسّ السؤالي لدى الكائن، ومحاربة السؤال بالأجوبة أو بالخوف من أشدّ الأخطار التي تهدد إمكانية قيام روح علمية يطمح إليها كل إنسان، لم يعد العلم في مأمن من الضربات والصدمات، كما أن الفلسفة ستأتيها هزّات أكبر من تلك الهزة العنيفة، وها هم الفلاسفة ndash;من المعاصرين خاصةً- في حالة ذهول كبرى من شدّة ما رأوا من ثورة التقنية الحديثة، التي خضّت الفلسفة، الأمر الذي اضطر الفلاسفة معه إلى تحويل quot;التقنيةquot; إلى موضوعٍ فلسفي وهو المفهوم الذي سأشرح علاقته بالفلسفة في مقالات قادمة.
كاتب سعودي
[email protected]
التعليقات